فريد الأطرش.. أمير النغم الجميل والطرب الأصيل

فريد الأطرش.. أمير النغم الجميل والطرب الأصيل


مصطفى القره داغي
كلما تمَعّن المَرء أكثر في التراث الفني للموسيقار فريد الأطرش يتأكد مِن حقيقة أن الفنان الراحل لم يَكن أميراً لآل الأطرش فقط، بل وأيضاً للأنغام الموسيقية التي كانت تطيعه وتنصاع لنوتاته التي يكتبها بقلمه ويَصوغها بعَبقريته، ليسَ خوفاً منه، بل حُباً بفنه وتناغُماً مَع أحاسيسه التي كانت المَنبَع الأساس لكل ما أبدَع مِن أعمال. فقد عُرف فريد بإمتلاكه لمَقدِرة إعجازية ليسَ على التوزيع الأوركسترالي فحَسب،

بل وعلى دَمج الألحان الشرقية والغربية مَعاً وتطويعها لتتناغَم مَع بَعضها البعض، وهي مَقدِرة مُزدوجة نادِرة تكشِفها الكثير مِن الألحان والمُقدّمات الموسيقية التي وضعَها لأغانيه.
ورَغم ان فريد لم يَترك لنا كثيراً مِن المُقدمات الموسيقية الطويلة مَع أغانيه، إلا أن لا أحد يستطيع أن يَنكر بأنه كان خلاقاً ورائداً ومتفوقاً على أقرانه في مَجالها، وبأنه كان يوليها جزئاً كبيراً مِن إهتمامه، ولم تكن بالنسبة له مُجرّد كَم مِن الجُمَل اللحنية وإستعراضاً لقابيلياته بالتوزيع الموسيقي. ففي أغاني فريد وموسيقاه هنالك دائِماً عِلاقة بَين المُقدمة الموسيقية للأغنية وبَين بنائها الموسيقي العام، فموسيقى المُقدمة وروحها تبقـى حاضِرة ومُحّلقة في سَماء الأغنية وﻻ-;- تغادِرها بإنتهاء المُقدمة، وهو تكنيك شَبيه بطريقة التأليف الأوركسترالي الكلاسيكي يمتاز به فريد عن مُعاصريه مِن الموسيقيين، الذين غالباً ما تتألف الحان أغانيهُم مِن جُمَل موسيقية مُتتابعة ﻻ-;- عِلاقة لبَعضها ببَعض. فالجُمل اللحنية عِند فريد مُترابطة ضِمن إطار إيقاعي يَتخِذ أشكاﻻ-;-ً مُختلفة خلال الأغنية، ما جَعل موسيقاه أكثر طواعية مِن غيرها للعَزف أوركسترالياً، وجَعل أغانيه بجُملها اللحنية أكثر قبولاً لتحويلها إلى عَمل أوركسترالي، وهو الأمر الذي قام به فعلاً موسيقيين غربيين معروفين مثل(فرانك بورسيل) و(رود غورين) و(أندريه ريدر) الذين أعادوا توزيع مَجموعة مِن أعمال فريد الموسيقية، وخصوصاً المُقدمات الموسيقية لبَعض أغانيه بأسلوب أوركسترالي، كان أبرَزها مُقدمة بنادي عليك، وحكاية غرامي، وحَبيب العُمر.
إن مُقدمة أغنية(بنادي عليك) هي بحَق تُحفة فنية وقطعة موسيقية رائعـة مَشغولة بأستاذية فريدة كفريد الأطرش، وبحِرفية ربما لا يُتقِنها سِواه، فهي تبدأ بلحن أوركسترالي كلاسيكي يَجمَع القـوة والرومانسية، يَتحَول بَعد قليل الى لحِن تخِت شَرقي عاطفي طَرَبي، ثم يَتحَول بَعدها الى لحِن فالس راقِص، يُصاحبه أخيراً كورال تَختتم أصواته الأوبرالية هذه التُحفة بمُصاحَبة الأوركسترا، وطبعاً كل هذه النقلات والقفزات الخطِرة بَين السَلالم الموسيقية تجري بخفة وإنسِياب نغَمي تشدوا له الأذن وتطرب. أما مقدمة أغنية(حكاية غرامي) فهي تحدّي كبير تصَدّى له الموسيقار فريد ونجَح فيه بإمتياز، فقد قام بإعادة توزيع الحَركة الثانية مِن كونشرتو الغيتار للموسيقار الاسباني البينيز، وطوّع انغامَها للتلائم مَع العود بَدَلاً مِن الغيتار بمُصاحَبة الاوركسترا، وجَعَلها كأساس لموسيقى للمُقدمة التي تبدأ بلحن إفتتاحي درامي يَعقبه دخول بعود فريد للحن البينيز المُعاد توزيعه وفق رُبع التون تمَهّد له الوتريات، ثم يتكرّر نفس اللحن ولكن هذه المَرّة بالبيانو والأوركسترا، لتعود أنامِل فريد لعَزفه مُنفردة على العود، ثم بحِوار مَع الأوركسترا ليختِما مَعاً المُقدمة بصُعود درامي يَسحَر الألباب، تبدأ بَعدَه الأغنية التي تأخذنا في رحلة مع حكاية غرام يكون مِسك خِتامها لحن ألبينيز الذي أبدَع فريد وكان خلاقاً في تطويعه ليُناسِب جَو الأغنية وكلماتها. أما في (حَبيب العُمر) و(نجوم الليل) فاللحن شرقي مِن بدايته حتى نهايته، ولكنه موزع أوركسترالياً بأسلوب غربي، بحيث لا يَستطيع المُستمِع تحديد إذا كان ما يَسمَعه شرقياً أو غربياً، لأنه يسَتمِع الى قطعة موسيقية مُتكامِلة تذكِرنا بموسيقى سويت شهرزاد للموسيقار الروسي كورساكوف.
قد لا يكون الراحل فريد الأطرش أول المساهمين بتطوير الموسيقى الشرقية ومقاماتها اللحنية، الا أنه كان مِن أبرَزهم تجديداً وأكثرهم تأثيراً على المَدى البعيد. إذ بإمكاننا القول أن فريد الأطرش هو أول مَن أدخل التوزيع الأوركسترالي الى الموسيقى الشرقية، وهو لم يَقم بذلك عِبر إقتباس جُمل موسيقية غربية وإدخالها الى الموسيقى الشرقية كما فعل البعض، بل بإبتكار جُملِه الموسيقية الفريدة مثله، التي تجمع بَين هارموني الغرب وروح الشرق، والطيّعة التوزيع أوركسرالياً والعَذبة السَماع طربياً وشرقياً، وهو قد أقدم على هذه المُجازفة ونجح فيها في مَرحلة مُبكرة مِن مَسيرته الموسيقية، وذلك في أوبريت فلم إنتصار الشباب الذي شاركته بطولته أخته المطربة أسمهان، التي وظف صوتها أوبراليا بأحد مقاطع الأوبريت ليَبدو للمُستمعين كأنه آلة موسيقية. ثم أنطلق بعد ذلك الى فضائات وتجارب موسيقية أرحَب، جَمع فيها بَين الألحان الشرقية والغربية بتناغم فريد وكونتراست سَلس لا يَخدش آذان المُستمعين، بل يُمتعها ويُطربها ولا يُشعِرها إطلاقاً بإختلاف سَلالِمِها وجُمَلها الموسيقية، كما حَدث مَع مُحاولات أغلب أقرانِه مِن كبار الموسيقيين العَرب، وهو تحَدّ لم ينجح به أحد سِواه الى هذه اللحظة تقريباً، حَتى بات ماركة مُسجلة له كان يَستحق عليها بَراءة إختراع، كما في أغانيه (يازهرة في خيالي، على بالي، قلبي ومفتاحه، أنا واللي بحبه، وياك).
هذا المَقال ليس للحديث عَن الموسيقار الخالد فريد الأطرش الذي لن تتسِع للحَديث عَن عَبقريته مُجَلدات، بل هو لتسليط الضَوء على جانِب مُهم مِن هذه العَبقرية، والمُتعلق بأسلوبه في التأليف والتوزيع الموسيقي، والذي كان له دور مُهم بالوقع والحُضور الذي أمتازت به أغانيه وموسيقاه لدى كل مَن يستمع اليها عُموماً ولدى عُشاقه ومُحِبّيه تحديداً ومِنهم كاتِب هذه السطور.