من مظاهر التقدم الاقتصادي في العراق

من مظاهر التقدم الاقتصادي في العراق

■ محمد جبار ابراهيم
على الرغم من محدودية نتائج عملية التحديث الحكومي للولايات العراقية ، لم يلغ ذلك اهمية دور بعض المكاسب الاجتماعية بفضل عامل التجارة الخارجية في محاولة تكييف المجتمع العراقي على وفق سياقات المدنية الحديثة . ولاعطاء تصور واضح عن مدى واقعية هذه التغييرات الاجتماعية نورد صورتين مختلفتين من حيث مضمونها الاجتماعي وزمنها لمدينة البصرة .

فقد وجدها الرحالة الانكليزي جون اشر الذي وصل في شهر كانون الثاني سنة 1865 "بلدة صغيرة نصف خربة ، يسكنها خمسة او ستة الاف نسمة . وقد كان منظر بيوتها واسوارها المتهدمة يدل على مقدار ما كان قد اصابها من انحطاط وتأخر ... وكان كل شىء فيها يدل على ان الانحطاط آخذ طريقه فيها من دون توقف ، كما تدل عليه الجدران المتداعية والمساكن المتروكة" . وفي سنة 1884 ذكر شرف الدين بن عارف الذي عُينَ طبيباً في مدينة البصرة والقادم تواً من اسطنبول ، بانه رأى فيها 2100 دارا مبنية بالطابوق و 1500 صريفة ، وخمسة اسواق منها كبيرة وصغيرة ، وشوارعها وطرقها واسعة ومنظمة في صورة حسنة . كما شاهد العديد من المؤسسات والدوائر المعنية بتنظيم نشاطها الاقتصادي ، ومن هذه الدوائر دائرة البلدية ومركز ادارة الرسوم ، ودوائر استعلامات شركات الملاحة العاملة بحراً بين الهند وبلاد فارس والبصرة ، وكانت البواخر والمراكب التجارية تمضي وتمر في ايامها المعينة ، وهي ترد وتذهب بكثرة ، وكان في مدينة البصرة نفسها توجد ماكنة للثلج ومعملان للزجاج . كما إستمرت المدن التي تأسست حديثاً في النمو والتوسع العمراني ، فقد ذكرت صحيفة "زوراء" مثلا عن حجم زيادة سكان مدينة العمارة التي استفادت من موقعها على نهر دجلة ، إذ منحها اهمية تجارية شجع على زيادة استيطانها وتحسن نوعية مواد البناء فيها ، حيث تم استخدام الجص والآجر بدل الطين في العديد من بيوتها المبنية حديثا ، كما تم بناء جسر على نهر دجلة ربط مدينة العمارة مع منطقتي قضاء الشامية في ولاية بغداد ومنطقة الجزائر قرب قضاء القرنة التابع للواء البصرة . ومنذ سنة 1878 اصبح لمدينة بغداد ثلاث بلديات لاحتواء توسعها العمراني.
ان تنوع الحياة الاقتصادية وتعقدها جعل المجتمع العراقي في حاجة الى رجال يعرفون القوانين الوضعية ، ولهم دراية بكتابة العقود وكيفية اجراء المطالبة بالديون واستيفائها ، لذلك ظهرت فئة المحامين الذين حصلوا على شهاداتهم من الاستانة واحيانا من باريس . عندما بدأت مهنة المحاماة في اوآخر الربع الثالث من القرن التاسع عشر عملها واجهت استياءا وتهكما بين الناس بحيث اصبحت "تستخدم كنبز ، يقولون اوقات ، او أوقاتي ... ويعني الوكيل بالخصومة". ويبدو ان الصورة اخذت تتغير بنهاية القرن التاسع عشر ، ففي العام 1900 وصفت جريدة "زوراء" المحامي عبد الجبار الخياط في معرض حديثها عن حصوله على وسام من قبل البابا بانه "احد وكلاء الدعاوى المشاهير في بغداد" ، مما قد يعيننا على تصور مدى تغير موقع المحامين في العراق ، وبدء تثمين المجتمع لدور هذا النوع من المهن . وعندما حاول الوالي جمال باشا في اوائل عام 1912 اغلاق مدرسة الحقوق التي تأسست ببغداد سنة 1908 ، سرعان ما اجهضت بسبب المعارضة القوية التي اظهرها بعض وجهائها ، فضلا عن الموقف النوعي الذي تجسد في مقاومة طلاب الكلية لقرار الوالي ورفضهم له ، مما يكشف ايضا رصيد هذه المهنة الذي حققته في المجتمع العراقي في غضون السنوات القليلة الاخيرة ، ومدى نجاح العامل الاقتصادي في تطويع المجتمع لتقبل تجذر المكتسبات الاجتماعية التي افرزها . لكن لماذا لم يكن ذلك كافيا لتطوير نظام اقتصادي بشكل عام ، وصناعي بشكل خاص على غرار النظم الرأسمالية الغربية؟؟.
ألغت معاهدة العام 1838 حماية الصناعة العثمانية باسم "قدسية" حرية التجارة ، ولقاء ذلك رفعت رسوم الاستيراد من 3% الى 5% من القيمة ، بينما بلغ رسم الصادرات 13% . ادت السياسة الكمركية غير الحمائية هذه ، اضافة الى تعدد الضرائب واعتمادها احيانا على المزاجية في التقدير ، الى تثبيط الانتاج المحلي وتشجيع الاستيراد . كتب القنصل الفرنسي ببغداد سنة 1842 بهذا الخصوص ما يلي : "... هناك القليل من البلدان التي تصنع فيها المنسوجات الحريرية والصوفية وبعض السلع الاستهلاكية الاخرى باسعار منخفضة كما هي الحال في اراضي بغداد ، ... انه لولا الاسعار الجزافية والضرائب العديدة التي تخضع لها الصناعة في هذه الانحاء من عربستان لكان من المستحيل الدخول في منافسة معها" . لذلك كان من الطبيعي ان تاخذ الاسواق المحلية العراقية بالاستهلاك المتزايد للبضائع والسلع الاوربية منذ اواخر العقد السادس من القرن التاسع عشر ، بحيث انتشرت جميع انواع المنسوجات القطنية التي كانت تنتجها مانجستر وغلاسكو في هذه الاسواق . ومع محاولات الدولة العثمانية زيادة رسوم الاستيراد التي بدأتها بـ 8% حسب اتفاقية العام 1861 ووصولها الى 11% سنة 1907 ، التي كبحتها معارضة الدول الاوربية محتجة بنظام الامتيازات ، وبداية العمل على التخفيض التدريجي لرسوم التصدير حتى تصل الى 1%، غير ان هذه الاتفاقية التجارية جاءت متأخرة نوعاً ما ، لان البضائع الاوربية كانت قد اخذت بالفعل تستحوذ على اذواق وحاجات المستهلكين العراقيين بكافة مستوياتهم . لقد شاهد الرحالة الانكليزي جون اشر في اوآخر العام 1864 ما يؤكد استمرار طلب اسواق زاخو والموصل وبغداد لاقمشة مانجستر وشفيلد. قد يثير ذلك بعض الاستغراب ، لكنه يتبدد حينما نعلم ان الاسواق الاوربية اخذت تصدر الى الولايات الثلاث الصنف الثاني او الثالث لبضائعها غير مهتمة بنوعيتها، وانما كانت تعتني بمظهرها الخارجي فحسب . وبالرغم من ان المنسوجات الاوربية كانت اقصر عمراً من المحلية لكنها كانت ايضا ارخص منها بما يزيد عن ربع القيمة ، وكانت غالبية المجتمع العراقي من الفئات الفقيرة
هي التي تشتري هذا النوع من السلع ، فقد دفعهم فقرهم الى الانصراف عن المنسوجات المحلية الاكثر جودة ، والاعلى سعراً، وبسبب تنوع البضائع الغربية الحديثة بدأ يغلب الطابع الاوربي على الاستهلاك المحلي ، فقد لاحظ القنصل البريطاني العام ببغداد سنة 1885 انه "عندما يقترب البدو من مدينة كبغداد لشراء حاجتهم السنوية من التمر ، يبدون استعدادهم للحصول على الاطباق الخزفية والسكاكين والشوك والأسلحة الأوربية الصنع ، والساعات التي صُنعتْ للتصدير ، وغيرها من الأشياء...".
تأتي هذه الملاحظة ضمن احسن المؤشرات التي تبين كيف إن صنف معين من سكان العراق اخذ يكتسب بعض مظاهر الاستهلاك المدني الحديثة حتى قبل الشروع بالانتقال الى مرحلة اعلى تواكبها في سلم تقسيمات اصناف سكان الولايات العراقية .
فيما يخص المصنوعات الأوربية من الصنف الاول فقد لوحظ إقبال فئات معينة عليها ، مثل الافندية الذين اصبح بالنسبة لهم شراء سلعة ما لمجرد كونها صُنعْت في باريس مغرياً حتى لو كانت غالية الثمن ، فان الامر في نظرهم كان يمثل قيمة اجتماعية اكثر من مجرد شراء سلعة استهلاكية .
هذا يعني ايضا ان شكلاً من اشكال الاستثمار الرأسمالي قد استفاد من فائض الانتاج الزراعي ، وان الافتراض القائل بضرورة استنفاد هذا الفائض من قبل الملاكين العشائريين في الاستيراد الاستهلاكي ، ليس صحيحا تماما . وهذا ما اكدته "زوراء" مرة اخرى حينما اشارت الى قيام بعض اصحاب الاراضي الزراعية من الفلاحين باستثمار ارباحهم في زيادة اراضيهم وثرواتهم الحيوانية.
ان من اهم ما يؤكده ايضا تأسيس شركة العمارة المذكورة هو ان عملية تكييف المجتمع العراقي مع مستلزماته الاقتصادية التي افرزها توسع التجارة الخارجية ، كانت اسرع من نظيرتها الاجتماعية ، وهذا بالتالي ادى الى سيادة معايير اجتماعية متناقضة في الوقت نفسه او ما دعاه الدكتور علي الوردي في كتاباته بـ"التناشز الاجتماعي" ، الذي جاء نتيجة الصراع بين ولاءات المجتمع القبلية – الدينية مع مضامين القيم الحديثة . ومن الطبيعي ان يؤدي ذلك الى زيادة صعوبة او حساسية عملية التأهيل الاجتماعي وفق المفاهيم العصرية ، مع غياب او عدم استقرار التوازن الاجتماعي لافراد المجتمع ، والتي جعلت بدورها عملية التحديث في احيان غير قليلة اشبه بالتحوير منها بالتطوير . ذلك ان المؤثرات الداخلية للمجتمع العراقي عملت ما استطاعت على تكييف افرازات المؤثر الخارجي بما وينسجم مع مكوناته .
بالرغم من مظاهر النجاح في قسم من الاستثمارات الزراعية ، فان ذلك لم يمنع من استمرار مشاكلها التي عملت على زيادة التعقيدات المحيطة بها ، ومن ابرزها عدم كفاية تطور المواصلات النهرية التي كان الزراع يعتمدون عليها بشكل اساس ، بسبب الصعوبات المحيطة بطرق المواصلات البرية الداخلية ، مع احتفاظها بسمة العصر الوسيط ، مما جعلها غير عملية الى درجة ان قال عنها لوريمر بانها "لا وجود لها" ، ولقد اثارت جريدة "زوراء" هذه المشكلة عدة مرات ، داعية الى مد سكة حديد بين المدن العراقية الكبرى لتخفيف ضغط الطلب الكبير على استعمال طرق المواصلات النهرية ، كما التمست من الباب العالي الموافقة على "عرائض واوراق الاسترحام" المقدمة من قبل اصحاب البضائع في بغداد والبصرة لزيادة عدد السفن العاملة بينهما ، وحل مشكلة تكدس البضائع ، و"تعرضهم للخسارة" ، وكذلك عدم توازن العرض مع الطلب للاسواق المحلية ، بسبب زيادة انتاج المحاصيل الزراعية المعروضة للبيع مما اثر على اسعارها ، واحيانا كانت تبقى بدون بيع الى ان تتلف ، لاسيما وان المواصلات النهرية لم تعد تستطيع مواكبة هذه الزيادة ، ومساعدتها في التنفيس عنها بتصريفها في الاسواق المحلية الكبيرة ، اضافة الى مشاكل انكسار السدود.
ساهمت تجارة الترانسيت في سحب جزء مهم من رأس المال الوطني ، فعلى الرغم من ان فتح قناة السويس ، وتطور ميناء بوشهر في الخليج ، ونشوء طريق التجارة الروسية ادى الى تقلص حجم هذه التجارة الا ان المناطق الشمالية الغربية الايرانية ، وخاصة منطقة كرمنشاه بقيت تجهز عن طريق تجارة الاستيراد من بغداد . كما شكلت السياحة الدينية المتمثلة بقدوم عشرات الالاف من الزوار الايرانيين الى العتبات المقدسة في ولاية بغداد ، عاملا حيويا في ابقاء تجارة الترانسيت مزدهرة الى حد ما ، ففي العام 1889 قدرت المصادر الكمركية العثمانية قيمة هذه التجارة بين العراق وايران بحوالي 540000 جنيه استرليني . اما في العام 1905 فقد بلغت قيمة الصادرات من بغداد الى ايران 1259138 جنيهاً استرلينياً ، بينما قُدرتْ قيمة الواردات من ايران للسنة نفسها بحوالي 321662 جنيه استرليني ، والتي كانت تُصَدر مرة اخرى من بغداد الى الاسواق الاوربية والامريكية والاسواق المجاورة . وقد كانت هذه التجارة بكاملها في يد التجار المحليين .
واقتطع النشاط الربوي هو الاخر حصة غير قليلة من رأس المال المحلي، فقد اعتاد اليهود اصحاب الاموال اقراضها بفوائد وصلت احيانا الى ما يزيد عن 50% سنويا . بل كان الصيارفة اليهود في العراق احد المقرضين الرئيسيين للدولة العثمانية منذ اواسط القرن التاسع عشر ، على الاقل حتى دخول الاوربيين كدائنين لها ، مما يؤشر في الوقت نفسه ان رأس مال هؤلاء لم يكن محدوداً حتى قبل توسع التجارة الخارجية ، مع العلم ان حوالي 5% من مجموع يهود العراق كانوا ينتمون الى فئة كبار التجار ، ويرتبطون بصلات تجارية مع اوربا وامريكا وبلدان الشرق الاقصى ، فعلى سبيل المثال كانت عائلة ساسون تمتلك معامل للنسيج في مانجستر .
كان الاستثمار العقاري هو النشاط الاقتصادي الجديد الذي برز بشكل واضح نتيجة توسع النشاط الاستيطاني والتطور العمراني . وكان يتضمن ، اضافة الى استثمار الاراضي ، بيع وتأجير المحلات والدور . ان الانتعاش الاقتصادي ، خصوصا بين التجار اليهود ، ادى الى ارتفاع اسعار العقارات في بغداد إبتداءً من سنة 1900 ، لكنه زاد بعد سنة 1905 بحيث ارتفعت ايضا خارجها . وفي سنة 1912 ذكر القنصل البريطاني العام ببغداد انه بسبب زيادة الطلب على المساكن الجديدة "زادت ايجارات المساكن زيادة كبيرة ، فبلغت احيانا الضعفين او الثلاثة اضعاف بالنسبة الى ما كانت عليه في السنوات القليلة الماضية ...". وفي المضمار نفسه اوضحت مجلة "لغة العرب" لسنة 1914 ان المحل الذي باعه ال الشيخلي في الكرادة الشرقية قبل حوالي عشرين سنة ، والذي طوله نحو 20 مترا وعرضه تقريبا 12 ، ليعقوب باشا بقيمة 90 ليرة ، وصل سعره الان الى اكثر من 1000 ليرة . ونتيجة ذلك ازدادت قيمة الاخشاب ومواد البناء الاخرى المستوردة بنسبٍ متضاعفة اضافة الى زيادة البضائع المنزلية المصدرة الى العراق في غضون المدة من عام 1904 حتى عام 1913، كا ارتفعت اجرة كل من معلم البناء (الخلفة) والنجار من حوالي 20-40 بنس سنة 1908 الى 30-60 بنس سنة 1911 ، بينما ظل اعلى اجر يومي لبقية الحرفيين ما بين 20 الى 30 بنس للسنة نفسها .
وهكذا فان التجارة (سواء المحمولة بحرا او الترانسيت) والمال الربوي والريع العقاري (اراضي ، دور ، محلات) ، كانت من اهم الاستثمارات الرأسمالية التي عملت على تشتيت راس المال المحلي ، وصرفه عن السيل في الاقنية الصناعية ، خصوصا وان الاستثمار الصناعي يتصف ببطء دوران رؤوس امواله وبطء تحقق ارباحه ، وشدة مخاطره . وفي السياق نفسه يعتقد مكسيم رودنسون ان احجام راس المال الخاص المحلي عن الاستثمار في الصناعة الحديثة مرده الى ان الاستثمارات الاساسية الاكثر جدوى في النهوض باقتصاد البلد كانت في الوقت نفسه اقل الاستثمارات املا بالربح . وان افتقار الامان السياسي والاقتصادي هو الذي جعل اصحاب الرساميل المحلية يتخذون هذا الموقف بعدم المجازفة ، ويفضلون توظيف الاموال في الصفقات السريعة .
ان اهم ما تميزت به الصناعة الانشائية هي انها ظلت دوماً في حدود المنافسة المحلية ، وهذا ارضى هوس رجال المال بالربح السهل والمضمون . غير ان تلك الرغبة وجدت ضالتها في استثمار رأسمالي آخر الا وهو شركات النقل ، ففي العام 1897 تشكلت شركة عربات اهلية لنقل الركاب بين البصرة والعشار . ومع نهاية القرن التاسع عشر اسس التاجر الثري عبد القادر الخضيري ، وعدد من اصحاب البواخر الخاصة شركة للنقل النهري ، حاولت ان تنافس "شركة لنج" الملاحية . كما أسس عدد من تجار بغداد في مطلع القرن العشرين شركة لتسيير العربات بين بغداد وبعض المدن القريبة منها ، كبعقوبة والحلة وكربلاء ، حققت نجاحاً لدرجة أن اصبحت المقاعد في العربات تحجز قبل عدة ايام . وفي العام 1907 حصل كل من محمد صالح الشابندر وعبد الرحمن الباججي باسطنبول امتياز لتأسيس شركة مساهمة ترامواي بين النجف والكوفة ، وكان من المقرر ان تكون عربات الشركة ذات طابقين . وعندما عاد الباججي قال : "جئت من استنبول بمفتاح الكيمياء" اشارة الى الارباح المتوقعة من هذه الشركة . وهو لم يبالغ كثيراً ، فقد سبق أن حققت شركة ترامواي بغداد – الكاظمية نجاحاً كبيراً لدرجة أن اتفقت على استيراد أربع عربات جديدة من لندن سنة 1874 ، اثنتان منها لنقل الاحمال لاول مرة ليصبح مجموع عدد عرباتها 12 عربة ، وقُدرتْ ارباحها التي حققتها بحوالي 100% من رأسمالها الاصلي، وكان يمكن ان تستمر الشركة على هذا المنوال واكثر لولا تعرضها الى الاهمال الحكومي الذي ضيع منها قيمة تلك النجاحات .
من جانب اخر يتوفر اكثر من مؤشر يبين عن بدء مراجعة عبد الحميد الثاني لسياسته الاقتصادية هذه ، واقراره بعدم قدرة الدولة العثمانية على تكاليفها ، فقد تأسست بنهاية القرن التاسع عشر في البصرة شركة مختلطة عثمانية–امريكية لجمع وتصنيع وتصدير عرق السوس الى امريكا ، وان كانت تعد ضمن محاولاته الرامية الى كبح التغلغل الرأسمالي البريطاني في الولايات العثمانية . كما وافق على الدخول في مفاوضات منذ ايلول سنة 1908 لعقد اتفاقية دمج "شركة لنج" مع "الادارة العمانية – العثمانية" ، من ابرز شروطها ان تكون الادارة والميزانية مناصفة ، وبمجلس ادارة رئيسه بريطاني له الصوت المرجح عند تساوي الاصوات، النهج الذي استمر عليه السلطان حتى عزله في العام 1909 ، لكن على ما يبدو لم يمتلك الشجاعة الكافية لحسمه، فحتى بالنسبة لامتياز "سكة حديد بغداد" الذي منحه للالمان بتاريخ 5 اذار 1903 ، ساهمت مماطلته وبدرجة كبيرة ، في تأخير تنفيذه.
مجئ الاتحاديون الى الحكم منذ سنة 1908 هو الذي ادى الى تحريك السياسة الاقتصادية العثمانية بشكل واضح ، فقد حاولوا إصلاح مصادر الدخل العام الحكومي ، ولأنهم ادركوا انه من العبث أن يظل الخراج والضرائب مصدر التمويل الاساس للدولة – أي تعيش في اقتصادها على الريع – طالما استمر الاختلال الكبير في الميزان التجاري وميزان المدفوعات الناتج عن كون الدولة العثمانية كانت سوقاً لتصريف البضائع الأوربية ومصدراً لمواد الخام لها ،
مما أفضى إلى زيادة العجز المالي للدولة ، لذلك سعوا لاشراك الأهالي
بشكل أكبر في المسؤولية الاقتصادية وتوسيع القطاع الخاص لاسيما قطاع الصناعة ، فاعفوا الالات المستوردة من الرسوم الكمركية . وفي سنة 1911
لم يكتفوا باستثناء منتوجات الصناعة المحلية المعدة للتصدير من
الرسوم الكمركية ، بل رفضوا فرض اي اسعار معينة عليها ، وأصبح أمر البت في طلبات الموافقة على المشاريع المرسلة لهم من الولاة من شأن الوزارات المختصة في اسطنبول، ورفعوا عن كاهل ممثليها عبء الحضور الى العاصمة العثمانية . وحاولوا معالجة امر الفساد الذي ابتليت به المؤسسات البيروقراطية وانعدام الكفاءة فيها من خلال "قانون التنسيقات" ، على الرغم مما اثاره من اعتراضات ، واهتموا ايضا بتطوير طرق النقل البرية والنهرية . وهكذا غدت الدولة العثمانية اصلح لترجيح خياراتها الاقتصادية بصورة مرنة ، فظهرت في عهد الوالي نجم الدين منلا (1908-1909) الزوارق التي تسير بمحركات في نهر دجلة ، وقد شجع سكان بغداد على الاستفادة من ذلك عن طريق تأسيس شركة محلية للنقل النهري ، لكي تكون من اوائل مكاسب هذه الروحية الجديدة . وفي ظل هذه الاجواء حدثت نقلة نوعية في مجال المواصلات حينما تأسست شركة اهلية للسيارات لنقل الركاب بين بغداد وبعقوبة في سنة 1912 ، كانت تقطع المسافة في اربعين دقيقة فقط ، واجرة الراكب بلغت خمسة فرنكات . وفي السابع والعشرين من تموز العام نفسه تم وضع حجر الاساس لـ"سكة حديد بغداد" الذي كان من المقرر أن يخترق الولايات العراقية . وفي خلال اقل من عامين استورد الالمان اكثر من 40 الف طن من المواد والمعدات اللازمة لتنفيذ المرحلة الاولى من هذا المشروع ، الذي انجزوا منه قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى 74 ميلاً ربطت بين بغداد وسامراء ، كانت كلها من الدرجة الاولى . نشرت جريدة "زوراء" لسنة 1913 ما يؤكد تصميم الاتحاديين على الشروع باستكمال خطوات منهجهم الاقتصادي التي بدأوها في حكومتهم الاولى ، لاسيما بعد انتهاء الحرب الطرابلسية (1911-1912) وحرب البلقان (1912-1913) ، فقاموا بتخويل الولاة حق : "اعطاء الاذن بانشاء الترامواي المحجات الحديدية التي تسحبها الدواب ، او التي تسير بالبخار او بالضياء الكهربائي ، والاذن باجراء التنويرات بالضياء الكهربائي او بالغاز الهوائي ، وتوزيعه بالقدرة الكهربائية ، واعطاء الامتياز باسالة الماء الصالح للشرب ، واعطاء الرخصة بتشغيل العجلات سواء كانت بخارية اوتومبيل ، او ضخمة اوتوبوس ، او عمومية اومينوس واعطاء الاذن بتأسيس المعامل للصنايع المختلفة في المملكة [كذا] والقصبات بشرط ان تعود منافعها للبلديات ، و (تكون) شروطها موافقة للقواعد المتخذة في الدولة ، ومددها لا تتجاو 40 سنة" . إن الجديد في الاشراف الحكومي على حرية الافراد والشركات الخاصة ، انه كان يتم عبر الولاة بشكل كامل مما يؤكد ان الشكل الاقتصادي الرسمي الذي تبناه الاتحاديون كان اقل بيروقراطية من السياسة الاقتصادية السابقة . ويجب الانتباه الى انه ما زال الاصل في هذه السياسة هو محاولة انعاش قوة الدولة الاقتصادية ، وهي وان غدت اكثر تساهلا لكن الاتحاديين رفضوا في الواقع التنازل عن حق تدخل الدولة في شؤون القطاع الخاص ، وطرحهم هذا لم يكن كافياً للتوفيق بين هدفهم المركزي ورغبتهم بتوسيع القطاع الخاص ، مما يكشف النقاب عن السبب الرئيس الذي كمن وراء تفضيل عوائل بورجوازية عراقية مهمة مثل عائلة ساسون وعائلة محمود الشابندر انشاء استثماراتها الصناعية الحديثة ، المتضمنة مصانع النسيج وشركة التنوير الكهربائي على التوالي في مانجستر ولندن مطلع القرن العشرين .