أناييس نن.. اليوميات لكي تكتمل ملامح أناييس الإنسانية والإبداعية

أناييس نن.. اليوميات لكي تكتمل ملامح أناييس الإنسانية والإبداعية

كانت أناييس مفعمة بالحيوية ومثيرة للالتباس، حدودها الإبداعية والانسانية مفتوحة وممتدة ولا يمكن ان تخضع لتوصيفاتنا، بل ان فضاء حريتها يصدم ثقافتنا وذائقتنا المبرمجة على قيم محددة، ويكاد احياناً يجرح احاسيسنا التي تأقلمت على قراءة محدودة لحرية الإرادة وأبعاد الجسد وصبواته وهياماته الوعي واللاوعي.


وقد صدمت للهولة الأولى وأنا أقرأ مجلدات (يوميات أناييس نن)، وتوقفت برهة بما يشبه الممانعة الخجولة لما يحمله المدى الإنساني الاستثنائي وغير المألوف، انه فضاء لا يعرف مفردة التحريم وحدودها، ولا يتعامل مع التحايل الإبداعي، والأقنعة، ما دامت المعالجة تنطوي على ما هو واقع في الحراك الاجتماعي والثقافي مع ما يحمله من غرابة والتباس وتخليق واعترافات وبوح عن الأعماق.

ولأننا في مجتمعاتنا – نتعامل مع العمل الابداعي ونسقطه قسراً على ذواتنا أو هكذا يفعل القراء ويصدرون الأحكام حين يتماهى القارئ مع النص ويسقط تماهيه على المترجمة او الكاتبة، وجدت حرجاً كبيراً على التفاعل مع يوميات أناييس بجوانبها المختلفة وعفوية سردها المتدفق، في اليوميات تشكل العلاقات الإنسانية المتن الأساس وتبدو سلوكيات الساردة أناييس واصدقائها وأقاربها وعشاقها وجميع صانعي الحدث في يومياتها- في غاية التغاير والاختلاف مع عاداتنا وسلوكنا ومحرماتنا، وبالتالي لم أجد الجرأة على ترجمتها، فآثرت اختيار مقاطع نظرتها للابداع وعلاقاتها بالمبدعين ووجهة نظرها الى الحروب والحركات النسوية واعترافاتها ببعض مواقف من علاقات إنسانية يمتزج فيها الابداعي والنفسي بالاجتماعي واليومي على اني راعيت اختيار المقاطع التي تقدم لنا تصوراً سخيّاً لأحداث القرن العشرين الثقافية والفكرية في سنوات التحولات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وما تلاها من تغيرات في البنى الثقافية والاجتماعية وظهور الجماعات الفنية التي اصدرت بيانات تخص الأساليب الفنية والأدبية بعد الحرب ثم انعكاسات الحرب الأهلية الاسبانية على المثقفين ونشوب الحرب العالمية الثانية..
أناييس الحقيقية، هي ذات وقامة انسانية خصبة وفريدة، تتعدى حدود فضاءاتنا المأسورة بالمحرمات، مع الأخذ بالاعتبار ان فصولاً منها لا تتساوق حتى خارج فكرة التحريم- مع أمزجتنا وما نرى فيه حضوراً مقبولاً لعملنا.
لقد وجدت من الأمانة أن أترجم دراسة طويلة عن أناييس تتصدى لكتابتها الإيروتيكية وتحلل نزعاتها ومواقفها عن موضوعة الأدب الإيروتيكي والجندر في التعامل مع الجنسانية ومن خلال هذه الدراسة يمكن التطلع الى عوالمها السفلية ونزعاتها المنفلتة وتهويماتها وهي تواصل البحث عن نفسها كأنثى وإنسانة ذات تكوين خاص وحسّية منفلتة، حتى اذا اقتضى الأمر الانغماس في مختلف أنواع العلاقات العشقية السوية والشاذة والمرفوضة والمتجاوزة، حتى إننا نجد في اشنغالها بالإيروتيكا كما لو أنها آتيةٍ من عالم مختلفة يقع ما وراء إدراكنا وتخيّلاتنا..
بهذه الدراسة التي تكشف عن الجانب الذي أهملته في مختاراتي من اليوميات، قد أكون وفيّت حقاً عليّ في اظهار أناييس بصورتها الحقيقية كما شاءت هي أن تقدمها، وتمنّعت انا فقدمتها من جوانب أخرى لا تستدعي الأحكام المسبقة التي تساق بدوافع معينة ويحكم عبرها بتعسّف على المترجم أو المترجمة وكأنه وكأنها متماهيان مع شخصية الكاتبة.
يبقى لمن يريد ان يكتشف عوالم هذه الكاتبة الخلاّقة أن يبحث عن نصوصها المترجمة، وإن كان يجيد الإنكليزية بوسعه أن يستمتع بالمجلدات الثماني ليومياتها الزاخرة بالجمال و الغرابة والسحر والشعوذة والبحث عن المجهول والمختلق ومزج الواقعي بالمتخيّل والخوض في أعماق النفس البشرية وملاحقة مناطقها المعتمة وإضاءاتها وشبقها وجوعها ومخاوفها، إن شخصية أناييس نن الكاتبة والأنثى برأيي كانت تحاول المزج بين عالمين متناقضين ولكل عالم رغباته وسلوكياته التي تتقاطع مع بعضها، فالمرأة البريّة الطيقة البديئة التي كشفها لنا الباحثة والمعالجة النفسية والخبيرة بقصّ الأثر كلاريسا بيكولا في كتابها الفريد (نساء يركضن مع الذئاب) وقالت في مقدمة كتابها وكأنها تتحدث بصوت النساء المكبوت طوال العصور: (إننا جميعاً نفيض شوقاً وحنيناً الى الحياة الوحشية البرية غير ان ترياق الحضارة لا يترك لهذا الحنين منفذاً، تعلّمنا ان نشعر بالخجل من مثل هذه الرغبة، تركتنا شعرنا يسترسل ووارينا به مشاعرنا، غير ان ظل المرأة الوحشية مازال ينسلّ خلفنا ويكمن في أيامنا وليالينا، وبصرف النظر عمّن نكون، فإن الظل الذي يهرول خلفنا هو في النهاية ظل يمشي على أربع).
لعل أناييس نن أدركت بفطرة الأنثى الخلاقة انها تتوق الى قرينتها المرأة البرية الراقدة في اعماقها وتعمل بوعي أو بدونه على استعادة الطبيعة الانثوية الغريزية التي نهبت وسحقت كما تصفها كلاريسا –فقد انتهكت الحياة المتحضرة ونواهيها، العوالم الروحية للمرأة الوحشية طوال التاريخ وجرفت اراضيها واحرقت براريها واجبرت الدوائر الطبيعية فيها على التحول لمستويات غير منتظمة من اجل اسعاد الاخرين وارضائهم.
تقع أناييس نن بين إغوائين مثيرين: حياة المدينة ونزعات التحضر والخضوع للتقييم الاجتماعي بدرجة ما – وبين إغواء الأنثى البرية التي لم تروضها المجتمعات المعاصرة بكل ما فيها من زيف واغلال وقوانين كابحة، وتتجاذبها هاتان الحالتان، وعندما تصدت مبكراً لكاتبة النصوص الايروتيكية كانت تستعين بخبراتها في التحليل النفسي وتستبطن نزعات المرأة الاصلية وتجربها من اجل تدوينها، وكانت تغوص في اللاوعي حيث تكمن الانثى البرية التي تملك جسدها وتحتفي به بصرف النظر عن جمال هذا الجسد أو قصوره وتتكلم بأصالة عن نفسها دون وسيط وتكشف عن أوجه النشاط الفعلية لديها والمستمدة من ابعد اعماق اللاوعي المحتفظ بذاكرة حياة البراري..
في تفحصي لمفردات حياة أناييس نن الخصبة، استعنت بآراء كلاريسا بنكولا، حول الفعل والتمني، حول النشاط والخمود، فأناييس لم تكن تتمنى وتستسلم للقدر بل كانت تبادل وتفعل وتنجز، لا تستسلم للعجز الكئيب بل تنحو الى التحقق المندفع، لذا لم تفقد حيويتها، بل ضاعفتها، وسخرت من التصنيفات الثقافية والفكرية والنفسية التي تنتمي الى خارجها وتخص الاخرين، انها (ذاتها) انها (هي) التي تبحث عن هويتها في الكتابة والإيروتيكا من منظور الانثى مرة ومن منظور الكائن المنطوي على أنوثة وذكورة..
ينطبق توصيف كلارا بنكولا للمرأة البرية على أناييس نن الى حد كبير، تقول كلاريسا (إن المرأة القوية تشبه الى حد كبير الذئبة، فهي نشيطة مفعمة بالحياة والقوة، تهب الحياة وتعي حقوقها، مبدعة وفية لما تريد ولمن حولها وهي دائمة التجوال والتبدّل والبحث عن جديدها المثير).
نلحظ في كتابات أناييس نن الروائية والقصصية ذلك النزوع الى القفز والاستبدال والقنص ونبه الحياة والصور بقوة وشراسة انثوية ممتعة، حتى ان مقاطع رواياتها تشكل بألف حالة كما تشكلات شظايا الكاليدوسكوب الزجاجية الملونة، انها جامعة الشظايا الضوئية التي تجعل منها قطعاً أدبية تتجانس وتتنافر وتتناقض مع بعضها لكنها في النهاية تمنحنا صورة باهرة للحياة الجوانية ونزوات البشر وأوهامهم واحلامهم.
تشتغل أناييس نن في قصصها على سبر أغوال النفس البشرية والمضي بعيداً في الأحلام وتشظيات المخيلة فهي لا تكتب ولم تكتب رواية تقليدية بالمعنى الحر في البناء الروائي المعتاد الذي يقلد فيه الكتاب بعضهم ويسيرون على هدي وصفة جاهزة كما يسير القطار على السكّة، يكتب احدهم مثل هيرمان هيسة أو بروست أو أميل زولا او تشيكوف أو يترسّم خطى فولكنر او فيرجنيا وولف، اما اناييس فانها تكتب وتبتكر شكلها الادبي لحظة تدوينه غير آبهة بالبناء المنطقي للعمل الروائي ولعلّي شخصياً تأثرت بهذا النزوع منذ وعيت اهمية التفرّد في اختيار طريق خاص بي في الكتابة لا يشبه احداً- وتعمل اناييس في النص كما لو كانت في حلم أو انها تروي حلماً: تجمع شذرات لا رابط بينها ظاهرياً لكنها تتقارب وتشكل صورة متكاملة وغير مستقرة تنتقل وتتجوّل في الازمنة ويتضح ذلك في كتبها: كولاج وبيت المحرمات وتحت الجرس الزجاجي..
وتتصرّف أناييس في السرد كما لو ان العالم حلم شاسع لا تحدّه حدود وليس عليها لترويه سوى ان تغرف من عجائبه وتشكل لوحتها الغرائبية، ويبد لي ان عملها كمساعدة للتحليل النفسي مع الدكتورة رانك والدكتورة ألليندي وتأثرها بكارل يونغ أتاح لها ان تعرف المزيد عن غوامض النفس وظلماتها ونزواتها وجموحها..
لم تلفت رواياتها وقصصها القليلة انتباه النقاد الا بعد وفاتها بعد 1977 بعقود اذ كان الاهتمام مكرّساً لمجلدات يومياتها الثماني والتي ترجمت الى معظم لغات العالم، بينما اغرت قصصها الايروتيكية المترجمين والنقاد رغم ان بعضهم لم يجد فيها ذلك القدر من الفن القصصي لانهم يقيسونها بمساطر نقدية وأقيسة جاهزة، كان الجميع مسحورين باعترافاتها في اليوميات ومفتونين بطريقتها في تعرية ذاتها ومجايليها ونقدها للحركات الفنية والأدبية كالسريالية وغيرها.
وأخيراً لنتذكر قول كلاريسا بيكولا لنفهم أناييس جيداً (إن سبيل الشفاء من ضغوط عالمنا هو ان نحمل معنا الدواء الذي تمثله القصص والأحلام والكلمات والأغاني والرموز) ولننتبه ايضاً الى نقطة اساسية تذكرها كلاريسا وأدركتها اناييس نن تماما وطبقتها في حياتها وكتابتها وهي (إن اختيارنا للانضمام الى ركب الطبيعة الغريزية، لا يعني قط أن نبدل ونغير الاسود الى أبيض واليمين الى يسار، وأن نتصرف بجنون وفقدان سيطرة، وليس معناه أن نفقد انتماءاتنا الاساسية أو نتخلى عن جزء من إنسانيتنا، بل العكس تماماً فالطبيعة الوحشية هي الدرع الواقي لنا).

مقدمة كتاب يوميات اناييس نن/
ترجمة لطفية الدليمي/
اصدار دار المدى