خليل شوقي.. عقود مع الفن الرصين

خليل شوقي.. عقود مع الفن الرصين

ناطق خلوصي
تحتفظ ذاكرة الشعوب بأسماء ومآثركبار مبدعيها ممن أسهموا في إرساء أسس الثقافة الوطنية لبلدانهم وبناء هذه الثقافة ، وتظل هذه الأسماء والمآثر وشماً مضيئاً محفوراً في الذاكرة لا يمكن انتزاعه منها بيسر . غير أنّ ثمة ما يدعو الى تنشيط هذه الذاكرة بين حين وآخر من خلال إعادة إلقاء الضوء على هؤلاء المبدعين ، بهدف التذكير بهم واتاحة الفرصة أمام الذين لم يجايلوهم للتعرف عليهم وعلى مآثرهم الابداعية .

في ذاكرة الثقافة العراقية أسماء نخبة ممن كرّسوا جهودهم للإسهام في بناء صرح ثقافتنا الوطنية نجد ان من حقهم علينا الوقوف باحترام أمام سيَرهم الشخصية والابداعية وإعادة التعريف بهم ، مَن رحل منهم أو مَن اختار منهم حياة الغربة مكرهاً ،
بل وحتى الذين ما زالوا يسجلون حضورهم الابداعي تحت سماء الوطن ، لاسيما في هذا الزمن الذي يجري فيه خلط الأوراق ومحاولة التعتيم على المبدعين الحقيقيين . لذلك سنحاول استقراء سيَر عدد منهم ، بادئين بالفنان القدير خليل شوقي الذي تمتد تجربته الابداعية لتغطي أكثر من ستة عقود من السنين . ولا شك في أننا لا نستطيع الالمام بمجمل تفاصبل مفردات كل هذه التجربة بامتدادها الزمني الطويل ، وسنتوقف عند عدد من محطاتها.
في بغداد الازل ولِد خليل شوقي في بغداد عام 1924 ونشأ فيها ، وارتبط بالفن بتشجيع من أخيه الكبير ودخل فرع التمثيل في معهد الفنون الجميلة مع بداية تأسيس هذا الفرع ، لكنه ترك الدراسة فيه بعد أربع سنوات ، وما لبث أن عاد اليه ليتخرج منه حاملاً شهادةً دبلوم في الفن في عام 1954. عمل موظفاً في دائرة السكك الحديد وأشرف على وحدة الأفلام فيها وأخرج لها عددا من الأفلام الوثائقية والاخبارية عُرضت من تلفزيون بغداد بين عامي 1959 و 1964 . يعد خليل شوقي فنانا شاملا فقد جمع بين التأليف والاخراج والتمثيل وغطى نشاطه مجالات المسرح والفنون السمعية والمرئية . لقد كانت بدايته مع المسرح وكان من مؤسسي " الفرقة الشعبية للتمثيل " في عام 1947 ، ولم تقدم الفرقة المذكورة آنذاك سوى مسرحية واحدة شارك فيها ممثلا وكانت تحمل عنوان " شهداء الوطنية " أخرجها ابراهيم جلال . وفي عام 1964 شكـّل " جماعة المسرح الفني " بعد ان كانت اجازات الفرق المسرحية (ومنها فرقة المسرح الحديث التي كان ينتمي اليها ) قد ألغيت في عام 1963 ، وقد اقتصر نشاط الجماعة المذكورة على الاذاعة والتلفزيون . وكان ضمن الهيئة المؤسسة التي أعادت في عام 1965 تأسيس فرقة المسرح الحديث تحت تسمية " فرقة المسرح الفني الحديث " وانتُخب سكرتيرا لهيئتها الادارية . وعمل في الفرقة ممثلا ومخرجا واداريا وظل مرتبطا بها الى ان توقفت عن العمل . لقد أخرج للفرقة مسرحية " الحلم " عام 1965 ، وهي من اعداد الفنان قاسم محمد . ومن اشهر ادواره المسرحية ممثلا دور مصطفى الدلال في مسرحية " النخلة والجيران " ( وكان تناغم أدائه مع أداء زينب مثيرا للإعجاب ) ، ودور البخيل في مسرحية " بغداد الأزل بين الجد والهزل " ودور الراوية في مسرحية " كان ياما كان " ، وهذه المسرحيات الثلاث من اعداد قاسم محمد . وربما سبقت بدايات تجربته في المسرح بدايات تجربته في الاذاعة . لقد بدأ عمله في الاذاعة في عام 1947 كاتبا ومخرجا لعدد من التمثيليات الاذاعية . أما في السينما فقد شارك ممثلا في عدد من الأفلام . فقد أدى دور سبع المطيرجي في فيلم " من المسؤول " الذي أخرجه عبد الجبار ولي ، ودورعمو حنا الطباخ في فيلم " أبو هيلة " الذي أخرجه محمد شكري جميل ويوسف جرجيس حمد ، ودور زاير راضي في فيلم " الظامئون " الذي أخرجه محمد شكري جميل عن رواية الكاتب عبد الرزاق المطلبي ، ودور " أبو سعيد " في فيلم " يوم آخر " الذي أخرجه صاحب حداد ، كما شارك في فيلم " شيء من القوة " الذي كتبه صباح عطوان وأخرجه كارلو هارتيون .وفي مجال التأليف السينمائي كتب سيناريو فيلم " البيت " الذي أخرجه عبد الهادي الراوي في عام 1988 والذي قال عنه الفنان يوسف العاني : " انني وأنا اشاهد الفيلم لم أتصور أحدا منّا يستطيع كتابة السيناريو صدقا وواقعا قدر خليل شوقي . فخليل شوقي يتميز بتصور سينمائي جيد ، وهو يحسن كتابة الحوار الجميل والبليغ للواقع العراقي عبر الشخصيات المعيشة . " ( يوسف العاني ــ السينما : صفحات بين الظلام والضوء ــ بغداد ــ 2006 )، أما في مجال الاخراج السينمائي فقد تهيأت له في عام 1967 فرصة اخراج فيلم " الحارس " ( وهو فيلمه الروائي الوحيد على حد علمنا ) . وقد شارك هذا الفيلم ، الذي كتب قاسم حول قصته ، في عدد من المهرجانات السينمائية ، ففاز بالجائزة الفضية في مهرجان قرطاج السينمائي عام 1968 كما فاز بجائزتين تقديريتين في مهرجاني طاشقند وكارلو فيفاري السنمائيين .
يعدّ خليل شوقي من رواد العمل التلفزيوني في العراق . فقد عمل في تلفزيون بغداد منذ عام 1956 وهو عام تأسيسه ، عمل مخرجا وممثلا بعد أن مرّ بفترة تدريب فيه . وهو يقول انه كتب أول تمثيلية عراقية للتلفزيون ، وهي ثاني تمثيلية تقدم من تلفزيون بغداد ولكنها أول تمثيلية تكتب خصيصا للتلفزيون . ولعل أبرز أدواره التلفزيونية دور قادر بك في مسلسلي " الذئب وعيون المدينة " و " النسر وعيون المدينة " اللذين كتبهما عادل كاظم وأخرجهما إبراهيم عبد الجليل . وأدى دور سلوان في مسلسل " الأحفاد وعيون المدينة " الذي كتبه عادل كاظم أيضا استكمالا للمسلسلين المذكورين وأخرجه الدكتور حسن الجنابي ( وهو مسلسل لم يحقق مستوى النجاح الذي حققه سابقاه ) . ومن أدواره أيضا دور "أبو جميل " في مسلسل " جذور وأغصان " الذي كتبه عبد الوهاب الدايني وأخرجه عبد الهادي مبارك ، ودور " عناد " في مسلسل " صابر " ودور " صادق " في مسلسل " الكنز " ، والمسلسلان من تأليف عبد الباري العبودي واخراج حسين التكريتي . وأدى دور " أبو شيماء " في مسلسل " بيت الحبايب " الذي كتبه عبد الباري العبودي وأخرجه حسن حسني ، الى جانب أدواره في مسلسلات : " الواهمون " لعلي صبري واخراج عادل طاهر ، و" دائماً نحب " الذي أعده وأخراجه صلاح كرم عن مسلسل كتبه قاسم جابر للإذاعة ، و " إيمان " لمعاذ يوسف ومن اخراج حسين التكريتي ، و " بيت العنكبوت " من تأليف عبد الوهاب عبد الرحمن ( في أول عمل درامي نراه له على الشاشة الصغيرة ) وإخراج بسام الوردي . وتألق في أداء دور الراعي في تمثيلية " المغنية والراعي " التي كتبها معاذ يوسف وأخرجها حسن حسني .وكان لخليل شوقي حضوره الواضح في مجال الاخراج التلفزيوني لاسيما الدراما التي قدّم عددا من أعمالها المتميزة التي اتسمت بالرصانة . وشهد عام 1973 ذروة نشاطه في اخراج الدراما . فقد عرض تلفزيون بغداد من أعماله تمثيليات : " طيور البنجاب " و " كنز السلطان " ، و" لجنة محترمة " ، و" الأفول " ، الى جانب مسلسل " من كل بيت قصة " الذي جاء في ثماني حلقات . ومن أعماله الاخراجية تمثيليات : " زقاق في العالم الثالث " لزهير الدجيلي ، و" السهم " لمعاذ يوسف ، و" الهجرة الى الداخل " لعبد الوهاب الدايني . وقد شارك العراق بهذه التمثيلية ، ضمن خمس وأربعين دولة عربية وأجنبية ، في مهرجان براغ للأعمال التلفزيونية عام 1985 فحصلت على استحسان واسع ونال الفنان جعفر السعدي جائزة احسن أداء عن دوره فيها . ومن اعماله أيضا تمثيليتا : " شروق شمس تغيب " لصباح عطوان " و " العمارة " لبدري حسون فريد ، الى جانب مسلسل " الاضبارة " لطه سالم . لقد قدّم خليل شوقي في مجمل أعماله ، كاتبا ومخرجا وممثلا ، نموذجا للشخصية العراقية بكل ما تنطوي عليه من قيم وتتوافرعليه من قوة وضعف في ظل ما تتعرض له من جور وما تعانيه من متاعب الحياة . فهو شغوف بتفاصيل الحياة الشعبية ، حريص على أداء مهمته الاجتماعية من خلال الفن ، وهو يشتغل ، في الأعمال التي يخرجها ، بحرص واضح على الكمال فيتجاوز بعض ثغرات التأليف . لقد ظل في كل أعماله رصينا ً ونأي بنفسه عن الانزلاق في شرك الأعمال التجارية في زمن الحصار الجائر الذي تعرض له العراق ، وقد آثر الانسحاب من الساحة واختار حياة المنفى القسري في هولندا ، تاركا بصمات ابداعه على ما خلّفه من ارث درامي ، ليظل اسما متألقا في ذاكرة الثقافة العراقية.