خصباك والقصة العراقية

خصباك والقصة العراقية

عبد المجيد لطفي
قاص راحل
تستأثر القصة اليوم بالكثير من وقت الأدباء والمؤلفين، وتنتشر بين القراء انتشاراً واسع النطاق. وهي بحق وسيلة مفضلة لدى الكاتب والقارئ معاً. إذ ينشر الكاتب القاص في قصصه أفكاره وآراءه ويدعو إلى المثل التي يراها أنفع للحياة الاجتماعية في إطارها الخاص والحياة الإنسانية في إطارها العام. لذلك يخطئ من يحسب القصة ملهاة أو متعة ذهنية عديمة الجدوى. إذ أنها بما فيها من عناصر الإغراء والتشويق خير مسرح لإظهار الشخصيات التي ينتقيها المؤلف ويلتقطها من الحياة التي يعيش فيها كل قارئ ويضع على أفواههم خلاصة ما عنده من ثقافة وذوق وأدب.


وفي اعتقادي أن من يهاجم القصة ويراها نوعاً من الأدب المزيف أو غثاً لا فائدة فيه هو أحد اثنين: إما مؤلف فاشل أخفق في كتابة القصة أو قارئ جامد الحسّ لا يريد أن يرى ما في الحياة من أصداء وتجارب وآلام تجليها القصة التي كتبت بلباقة كاتب ذكي حر جميل الأسلوب.

ومن حسن الحظ -حسن حظ الفكر- أن هؤلاء الشامتين بالقصة عن جهل والموسمين إياها بما هي براء منه هم قلة ضئيلة، وأن الزمن وتطور الحياة المتجددة يدفعهم ويسحقهم ويفرقهم.. فما من قوة تستطيع صدّ تقدم القصة الماشية مع الحياة والمعبّرة بتفصيلات دقيقة عما فيها من مآسي وعما يجب أن تكون عليه. وقد أثبتت القصة في هذا الأمد الطويل أنها قوية حية، حيث ساهمت بقسط وافر في تحفيز الهمم ونشر المبادئ النافعة.
ثم إن القصة مرنة وقابلة للتطور وسباقة في ذات الوقت. ذلك لأن كتّابها أوسع أفقاً وأرحب خيالاً من غيرهم. وإن مداركهم لتمتد فترى الشيء الكثير مما يخبئه المستقبل أو ما ستكون عليه حياة الناس. وهي أبداً دعوة للتجديد والحرية، فما تقدم العلم خطوة حتى كان الأدب القصصي إلى جانبه يعززه ويدفعه ويدعمه. فهذا علم النفس وهو علم جديد في مرحلته الأولى وجد النماء والحياة بسرعة عندما وجد مؤازرة فعالة من القصة. والقصة التحليلية التي تتسم بالفحص العميق والاختبار البعيد للحالات والنفسيات التي مرّ بها المؤلف هي خير معوان في زيادة اختبارات علماء النفس وتنميتها. وكثير من المبادئ الإنسانية أو مبادئ الاقتصاد أو النظريات العلمية أصبحت مفهومة ومقربة إلى ذهن القارئ العادي، لأن القصة ألقت عليها روحاً جديداً ورونقاً أخاذاً محبباً وأنقذتها من صلابة العلم وجفافه، وبذا أصبح العلم مخضل الجوانب وارف الظلال.
أما المشاكل الاجتماعية المعقدة والمآسي الأخلاقية المؤلمة فقد ظهرت بأنصع صورة في القصص. فلقد وضع القلب البشري تحت شمس ساطعة وعرف ما يدب فيه من حقد ورغبة وانخذال وغرور. وقد عرفنا ذلك في ما نقرأ من قصص لكبار القصاصين والأدباء، أولئك الذين تزودوا أحسن الزاد من الثقافة والتجارب ووهبوها لنا بإخلاص وإغراء.
والواقع أنني لست بحاجة -كما أعتقد- أن أنبري للدفاع عن القصة. فالقراء يعرفون ما أعطتهم وما وجدوه في قراءاتهم الشخصية من متعة وفائدة ولذة وتوجيه وحقائق رائعة. ولست أجد كذلك ما يدعو لذكر ماضي القصة لأن أول قصة كانت قد حكيت عندما وجد على البسيطة رجل وامرأة. وستختم القصة عندما يلفظ أنفاسه آخر إنسان على الأرض. وقد كتبت آلاف القصص وحكيت الملايين منها، وستكتب آلاف وتحكي ملايين إلى أن تنتهي الحياة في كوكبتا هذا. فالإنسانية تعبر من الماضي إلى الحاضر ومن الحاضر إلى المستقبل على جسر من القصص والحكايات الطريفة والمؤلمة، المأساة والملهاة والمهزلة.
وفي المرحلة الأخيرة التي عاشتها القصة تطورت كثيراً وأصبحت ذات فن وأساليب ومدارس. واستفادت من اختبارات المئات الذين مارسوا كتابتها. ومع أنني أؤمن أن للقصة أو لكتابتها بعض الشرائط والقواعد إلا أنني لا أصدق بأن هذه القواعد والشرائط هي الكل في القصة الناجحة. إذ هناك روح الكاتب وأسلوبه ودقته في التعبير. فنحن نقرأ أحياناً قصصاً تتوفر فيها كل عناصر القصة الفنية الحديثة ومع ذلك لا نجد فيها ما يريحنا كثيراً في حين نقرأ قصصاً أخرى انعدمت فيها الشرائط الفنية لكننا نجد فيها حلاوة ولذة وفائدة. والواقع أنني مع المعتقدين أن شرائط كتابة القصة شيء أصولي تواضع عليه النقاد، ولا يمكن أن تستمر هذه الشرائط إلى الأبد، بل لابد من تطورها وتغيرها أيضاً، ولا يستطيع ذلك بالطبع غير العباقرة الأفذاذ والحياة غنية بهم دوماً. فنحن نعرف أن قواعد الموسيقى المرعية من قبل كبار الفنانين والعازفين قد خرقت مراراً. حتى أن أخطاء بتهوفن نفسه أصبحت قواعد مرعية فيما بعد لدى العازفين! وهكذا الأمر في جميع فنون الفكر.
هذه مقدمة وجب عليّ ذكرها لكي أرجع إلى القصة عندنا. ولا أقصد بهذا القول القصة العربية عموماً، بل القصة العراقية المحلية، لأنني على وشك تقديم مجموعة من هذه القصص؛ عراقية المنشأ والاتجاه والأبطال. فقد بدأت القصة في العراق بداية حسنة ولا ريب في ذلك. فمع أننا في بدء نهضتنا وبدء تخلصنا من قيود القدماء وأفكارهم المحدودة، ومع أننا في بدء فهمنا للحياة العصرية فقد استطعنا أن نكتب في القصة بنجاح يبشر بأمل وارف. وحين أقول ذلك أترك ورائي عدداً كبيراً من القصص الفاشلة، وعشرات من الكتّاب والأدباء الذين أرادوا أن يكونوا قصاصين فخابوا، وإنما أتحدث عن أولئك الذين بدؤوا بكتابة القصة مزيجاً من الحسّ والاختبار وحسن الأداء. ومع أن هؤلاء قلة الآن فإننا نجد لحسن الحظ أن عددهم في تكاثر، وأن عدد من نتوسم فيهم النجاح والنضوج أكثر من عدد المخفقين والمتضعفين والمتكلفين. ومن هؤلاء الناجحين الذين نتوسم فيهم بشائر النبوغ وننتظر منهم تقدماً واضطراداً في هذا المضمار صديقنا الأستاذ شاكر خصباك صاحب هذه المجموعة القصصية الرائعة. وهو شاب حدث قرأت له قصصاً ناجحة في بعض المجلات فأعجبت بها فائق الإعجاب، فكتبت إليه مبدياً هذا الإعجاب، فما خيّب ظني به، إذ وجدت نفسي بعد حين أمام هذه المجموعة من القصص العراقية الجديدة. وإذ أقبلت على دراستها في عناية ألفيت أنها كتبت بأسلوب حيّ رائع وروح متحررة مخلصة ونفس تحرت الحقائق وعاشت في محيط واقعي محض. ولذلك جاءت تلك القصص واقعية أصيلة، منضوية تحت لواء خير مدارس القصة الحديثة. وإني إذ أقول واقعية فلأنها تجردت من الرومانتيكية الباكية وما فيها من بث النجوى والمغازلات الرخوة، ولأنها تخلصت أيضاً من حبائل الكلاسيكية التي لا تريد أن تعترف بتقدم أو تطور وتضع العقل في حجر يصعب الخروج منه.
فالقصص التي ستقرأها إذن منتزعة من صميم حياتنا ومن بين أهلينا وأصحابنا وجيراننا، من بين التعساء والأشقياء والمعذبين والجهلاء، ومن بين الأغنياء المتبطلين الذين لا يرون الحياة غير معدة يجب أن تملأ بما لذّ وطاب، ويأبون رؤية النور والحياة الصادقة وما فيها من جميل التضحية والإصلاح. ولا أريد بالطبع تلخيص هذه القصص فإن التلخيص يخرجها من الروح التي كتبت فيها. ولكنني بوسعي أن أقول لك إنك ستخرج من قراءتها بأفق أوسع ونفس مليئة بالسخط على البعض من أبطالها وطافحة بالرضى عن البعض الآخر.
والواقع أن هذه القصص تضعنا وجهاً لوجه مع حقائق مرة كثيراً ما حاولنا التهرب منها وخشينا إزاحة النقاب عن وجوهها الكالحة المغبرّة، ولكن الأستاذ خصباك وجد الجرأة ليقول كل شيء بصراحة أظن أنها لا تطاق لدى البعض أكثر الأحيان.
وسترى أيها القارئ أن القضيلة والرذيلة والفقر والثراء في صراع دائم بين أبطال هذه القصص. وأنت ملزم بحكم الذوق أن تكوّن طرقاً مع هؤلاء الأبطال فتؤيد وتنتقد وتغضب وترضى. وفي جميع هذه الحالات يكون المؤلف قد بلغ مبتغاه ووضع أساساً مكيناً لنجاحه في هذا الفن.
ومن الواضح أن الأستاذ خصباك قد وضع أمامنا طائفة من الناس وتحدث عن مآسيهم وآمالهم وذكائهم وبلادتهم. بيد أنه لم يتحدث عنهم كأفراد إلا لأنهم يمثلون عدداً كبيراً من نظائرهم. وقد وفق -والحق يقال- أيما توفيق في إبراز النواحي الاجتماعية في حياة أبطال قصصه. إذ كانت صوره لبقة بارعة تفيض بالحس والجمال. حتى المآسي المرة الموجعة كانت ذات روعة خاصة.
وقد استطاع قاصنا بأسلوبه الحيّ المتدفق حماساً وقوة أن يصف التفاصيل في حياة شخصياته بدقة وبراعة، وأن يحلل نفسياتهم تحليل المقتدر المخلص الصادق، حتى لتكاد تراهم وتعرفهم في الحياة العامة، وتحسب أنه يتحدث عن أناس سبق أن عرفتهم وبلوتهم. وهذا توفيق كبير حقاً، بل إنه البراعة القصصية ذاتها. ومع أنني من المؤمنين أن القصة أغزر وأجمل في الحياة الاجتماعية المعقدة وأن القصاص يجد أمامه مادة أغزر وأكثر في الحياة الصاخبة كحياة الغربيين وما يكتنفها من حركة وتطور ومادية ومطامع، أقول مع ذلك كله فإن الأستاذ شاكر خصباك قدم لنا قصصاً ناجحة جداً من حياتنا ومن أبناء وطننا بفقرائه وأغنيائه وسادته وعبيده. وإني لسعيد كل السعادة حين أتركك أيها القارئ الآن مع هذه القصص، لأني واثق أنك ستجد فيها ما وجدته أنا فيها من متعة ذهنية ولذة قلبية وسترى ما رأيت فيها من حقائق أزيح عنها الستار بقلم نابض بالحياة.
ولا يسعني في ختام هذه المقدمة إلا أن أقول بأن قصص هذه المجموعة ظفر للأدب القصصي الحيّ، وظفر للحماس في الكتابة المجدية.

مجلة الاقلام 1967