بمناسبة صدور (صراع) لخصباك  ذكريات وانطباعات

بمناسبة صدور (صراع) لخصباك ذكريات وانطباعات

د. علي جواد الطاهر
ناقد راحل
(1)
كما أن الكلام على فوائد الأدب أصبح من فضول القول.. كذلك أصبح الكلام عن فوائد القصة. ولا غرو فهي فرع حيّ؛ نابض، فاتن.. أجل فاتن، وهل هناك من ينكر السحر الذي يسيطر عليه وهو يقرأ القصة، السحر الذي يغريه فلا يستطيع معه قطع القراءة.. ثم السحر الذي يدخل إليه فكرة القصة شعوراً ولا شعوراً.. ثم السحر الذي يفعل فعله في توجيه حركاته وسكناته؟


ولكن ليس هذا مجال الكلام على فوائد القصة، بل لم يعد يمثل هذا الكلام مجال.. وقد قطع (العالم) ثمار القصة مادياً ومعنوياً. ولِمَ لا والقصة عنصر أساسي في آدابهم؟! أما نحن، في أدبنا العربي فأين القصة؟! وأين فعلها؟! وأين مكانتها؟!.. أين؟! إن القصة الحقيقية معدومة في أدبنا القديم. أما الحديث -وحتى في مصر ولبنان- فالحكم نفسه يكاد يكون نافذاً.. أو قل إن القصة بعيدة عن بلوغ الدرجة المطلوبة. وإذا كان هذا في مصر ولبنان حيث لمسنا محاولات مشكورة، وأحياناً ناجحة، فواحسرتاه على العراق؟! العراق بعيد.. بعيد.. بعيد..
أجل، إنه بعيد وهده حقيقة مرة (تزعل) الكثيرين. ولكن يجب أن تذكر ويجب أن تسجل ويجب أن تعلن.
أجل، إن النثر الفني عامة والقصة الفنية خاصة معدومة في العراق؛ وإلا فأين القصّاص المتفنن؟! وأين القصة الفنية؟! وأين أين؟! كل ما لدينا لا يتعدّى محاولات عابرة تحقيقاً لشهوة مرفقة بخبرة هزيلة.. وإذا كانت (كل) هذه موجعة فضع محلها (جل) من قبيل المجاملة، وبئست المجاملة.
(2)
أقول هذا؛ بمناسبة صدور (صراع). وما هو (صراع)؟! لعلك عرفته قبلي.. إنه (مجموعة قصص عراقية) ألفها (شاكر خصباك) وطبعها في مصر، وأهداها لأستاذه الكبير محمود تيمور. وقدّم لها الأستاذ عبد المجيد لطفي. وكان مما جاء في هذه المقدمة: «لقد بدأت القصة في العراق بداية حسنة ولا ريب في ذلك.. فقد استطعنا أن نكتب في القصة بنجاح يبشر بأمل وارف..». وهنا لا أريد أن أسأل الأستاذ عن «هذه البداية الحسنة!» ولا أريد أن أسأله عن هذا النجاح. ولا أريد أن أسأله تعداد أعلام القصة العراقية، لا.. فجواب هذا معروف لديّ! إنه صفر دون شك.. لا.. لا أريد ذلك.. وإنما أريد أن أنقل قوله «ومن هؤلاء الناجحين الذين نتوسم فيهم بشائر النبوغ، وننتظر منهم تقدماً واضطراداً في هذا المضمار صديقنا الأستاذ شاكر خصباك صاحب هذه المجموعة القصصية الرائعة، وهو شاب حدث قرأت له قصصاً ناجحة في بعض المجلات فأعجبت بها فائق الإعجاب. وقد كتبت إليه مبدياً هذا الإعجاب فما خيّب ظني به، إذ وجدت نفسي بعد هذا أمام هذه المجموعة من القصص العراقية الجديدة». فهل هذا الذي قاله (الأستاذ لطفي) صحيح؟ وأن في (الأستاذ شاكر) نبوغاً؟ وأن في أسلوبه حيوية وروعة وإخلاص؟ سنرى ذلك فيما بعد، بل سنراه الآن، فما أريد أن أقف عند (صراع) قصة قصة ألخصها وأحللها وأنقدها.. فإني أحب أن أترك ذلك لغيري من القراء. فها هي ذي المجموعة أمامهم: (صراع - عجيب - دكتور القرية - بداية النهاية - لقمة العيش - أحلام ضائعة - بوبي - عذاب - خطيب الحرية - ضحية - أحلام الشباب).
هذه هي المجموعة أمامهم، ولهم أن يقرأوا، لهم أن يمدحوا، ولهم أن ينتقدوا ولا شك أنهم فاعلون.
أما أنا.. فأود أن أسجل ملاحظات عامة. وأول ما يجدر ذكره أن تسمية الكتاب بـ(صراع) مشتقة من اسم القصة الأولى. ولكن ذلك لا يعني أن القصص الأخرى بعيدة عن (الصراع).. لا فكل ما في الكتاب صراع.. صراع الجنس، وصراع الاقتصاد، وصراع التقاليد.. وكل هذه الصراعات في مفهوم العصر الحاضر أمر واحد.. بل كلها يؤدي إلى نتيجة واحدة.. هي التقدم إلى الأمام، وأنا متأكد بأن شاكر هدف إلى هذا.. لأنه من القصاصين الذين يحملون فكرة ويهدفون نحو غاية ويسيرون بوعي.
ومن ينكر أثر القصص التوجيهي؟! القصص الذي يشرب قلبك الحب والخير والجمال، القصص الذي يشحنك ثورة على الدعارة والشر والقبح؛ القصص الذي وفر رواء الأسلوب وصحة الفكرة.
أجل.. الأسلوب والفكرة.. أجل.. لا يفعل القصص مفعوله في الإصلاح الاجتماعي ما لم يوفر الأسلوب الفني والفكرة الصالحة، أما إذا فقد أحد هذين الشرطين فهو إما قصة فنية هدامة.. وإما فكرة معقولة لا تغري المجموع ولا تستهويه ولا تشحذه، وقد دار برأس عدد من حملة الأفكار أن يغروا الناس بأفكارهم بتقديمها باسم القصة، ولكنهم لم يحظوا بغير الفشل لبعدهم عن الفن.. أجل.. الأسلوب والفكرة يجب أن يتوفر للقصة التوجيهية الناجحة. الفكرة والأسلوب يجب أن يسيرا فيها يداً بيد. يجب أن يتمازجا. يجب أن يكوّنا شيئاً واحداً.
وقد حاول شاكر التوفر على هذه الوحدة. وقد نجح نجاحاً ملحوظاً. ولكن بعد أن آمن بضرورة هذه الوحدة. وهذا أحد العوامل الأساسية التي تميّز قصصه في (صراع) عن قصصه الأولى. أجل؛ فأسلوبه حسن وأنا متأكد بأنه سيكون في أقرب وقت أحسن وأحسن، بل لم لا نقول إنه أحسن. إنه أسلوب قصصي ناجح.
فأنت تلمس الروح القصصي جلياً في كل مكان. إنك أمام قصاص في كل ما تقرأ. إنك أمام قصص لها طابعها الفني لا حكايات على السلاطين وكيفما اتفق. بل إنك تؤمن تماماً أنك أمام قصاص منذ الجملة الأولى لأية قصة، ولا غرو فإن شاكراً قد وفّر ما كان يسميه أجدادنا النقاد ببراعة الاستهلال. أجل، إن من مزاياه الأساسية براعة الاستهلال القصصي. وحسبك لتتأكد من هذا؛ أن تقرأ أي مطلع لأية قصة من (صراع).
على أن القضية ليست قضية مطلع فحسب. لا. فهناك أيضاً براعة العرض وبراعة الختام. ومن هنا وهناك جاء عنصر الإغراء، فإنك ما تكاد تقرأ الجملة الأولى حتى تواصل وتواصل وتواصل إلى الجملة الأخيرة حيث تدري ولا تدري. واللطيف في أمر هذا الإغراء، أن عوامله خفية، فهو إغراء سام ليس من ذلك النوع الرخيص الذي يزجه بعض القصاصين زجاً بالإكثار من المفاجأة البهلوانية استجداء لإثارة انتباه الصبيان وسعياً وراء اللعب بعواطفهم أملاً بأن يقال فلان قصاص مغر.
لا، إن عوامل الإغراء في قصص شاكر خفية، وهذا شرط في القصة الناجحة، هي خفية، هي نتاج عوامل عدة سارت يداً بيد، وتمازجت وتوحدت. منها ما كان مأتاه الفكرة الصحيحة الصادقة الصالحة ومنها ما كان مأتاه التأكيد الخاص في الضرب على وتر الغريزة الجنسية، وفعل الدينار، واصطراع الأجيال، مع ثوب فني مرصع بالاستعارات المناسبة ومزين بالأخيلة الملائمة ومحلّى بالألوان الأخاذة. بل، ومنها ما كان مأتاه ما أوضحه الأستاذ لطفي في مقدمته أن هذه القصص «..منتزعة من صميم حياتنا ومن بين أهلينا وأصحابنا وجيراننا، ومن بين التعساء والأشقياء والمعذبين والجهلاء، ومن بين الأغنياء المتبطلين الذين لا يرون الحياة غير معدة يجب أن تملأ بما لذّ وطاب، ويأبون رؤية النور والحياة الصادقة وما فيها من جميل التضحية والإصلاح». ومن أن هذه القصص «تضعنا وجهاً لوجه مع حقائق مرة كثيراً ما حاولنا التهرب منها وخشينا إزاحة النقاب عن وجوهها الكالحة المغبرة، لكن الأستاذ شاكر خصباك وجد الجرأة ليقول كل شيء بصراحة أظن أنها لا تطاق لدى البعض أكثر الأحيان». ومن أن هذه القصص «تتحدث عن طائفة من الناس - عن مآسيهم وآمالهم وذكائهم وبلادتهم، بيد أنه لم يتحدث عنهم كأفراد إلا لأنهم يمثلون عدداً كبيراً من نظرائهم.. وقد استطاع قاصنا أن يصف التفاصيل في حياة شخصياته بدقة وبراعة وأن يحلل نفسياتهم تحليل المقتدر حتى لتكاد تراهم وتعرفهم في الحياة العامة وتحسب أنه يتحدث عن أناس سبق أن عرفتهم وبلوتهم، وهذا توفيق كبير حقاً، بل إنه البراعة القصصية ذاتها».
على أني نسيت التأكيد على ناحية أخرى من نواحي القصة الناجحة ومن نواحي قصص شاكر، ومن نواحي الإغراء، ذلك هو الحوار، فقد أجاده شاكر إجادة ملحوظة.
كما أني نسيت التأكيد على ميزة أخرى في قصص شاكر، نسيت أن أذكر أنه يأخذ الصغير، الذي ينظر إليه كأمر تافه حقير، لا يستحق عناية ما، يأخذ، ويوليه عنايته، وما يزال به حتى يقدمه إليك بشكل يدفعك للاهتمام به! ولعل في ملاحظات الأستاذ لطفي شيئاً من هذا.
هذه بعض مزايا (صراع)؛ هي بعض ما أعرف؛ وأصارحك بأني لم أقصد إليها في كلمتي هذه، وإنما أخذت طريقها عفواً فأهلاً وسهلاً. أما قصدي الأول فهو للتحدث عن (شاكر) نفسه.
شاكر.. ولد شاكر في الحلة عام 1930 معمّاً مخولاً فكلا البيتين من آل خصباك وآل شهيب، بيت كريم مثقف؛ يتذوق الأدب بل يمجده، بل ينتجه، هذا إلى التحرر الكافي الذي يتسم به الأب والذي كان بموجبه أن متع ابنه بقسط كبير من الحرية، وراح يهيئ له حاجياته، ويحقق له طلباته، ويحترم له حركاته. وحسبك أن الابن كان يستطيع أن يشتري أي كتاب ويناقش في أي فكرة، ويكتب في أي موضوع، أقول هذا وأنا أعرف أن الكثيرين من الآباء عندنا يصبّون على أبنائهم سوط العذاب إذا ما نشروا قصة غرامية أو تكلموا في قضية سياسية أو نقدوا قاعدة اجتماعية. وإذا ذكر فضل الأب فلا تنس فضل الإخوان، فضل الدكتور جعفر، الذي اهتم بأخيه ووجهه منذ الدراسة الابتدائية إلى مطالعة القصص، وقد كان لمجلة (سمير التلميذ) مكانها الأول من هذا!
وقد حدث في هذا التاريخ أن تأسست (المكتبة العامة) في الحلّة، وكنت كلما دخلتها وجدت طفلاً مكباً على المطالعة! من هو؟ لم أكن أعرفه قط، بل إني لا أراه إلا في المكتبة، ولكن صورته بجرمه الصغير ذائباً في كتابه أمام هذه المنضدة الكبيرة التي لا يكاد يحصل على راحته فيها، صورته هذه لا تزال واضحة المعالم في مخيلتي، وأكبر الظن أنه كان يقرأ كل شيء ويخص القصص بالدرجة الأولى.
كان يوالي الدراسة في المكتبة، ويوالي اصطحاب الكتب، ويوالي شراء المنشورات، وهو تلميذ. أقول (وهو تلميذ) لأننا ألفنا التلميذ -مع الأسف- أحد اثنين: إما لاهياً لاعباً عابثاً. وإما آلة تعيد في قراءة الصفحات المحدودة من دروسه وتبدي، (يدرخ) ويصم ويحبر. همه الوحيد أن يأخذ العشرة من عشرة. ومن المؤسف أيضاً أن هذا الأخير بفعلته هذه كان ينال العشرة من عشرة، وينال ثناء المدرسين وينال احترام الجميع. وأقل ما يثني به عليه أن فلانا (تلميذ صدك)، تلميذ بكل معنى الكلمة، تلميذ لا يعرف غير دروسه. ولو عقل القوم لاحتقروا هذا (الفلان) ولعلموا أنهم إنما يعدمون مؤهلاته بهذا الثناء الغلط، ولعلموا أن قاعدة «أما ترى الحبل بتكراره بالصخرة الصماء قد أثرا» قاعدة لا تصلح إلا للأغبياء والبلداء.
هذا هو التلميذ عندنا. أما شاكر فما رضيت نفسه أن يكون هذا الفلان. إن المدرسة ومدرسيها وكتبها ليست إلا ناحية واحدة من هذا الكون الواسع. ما قيمة هذه المدرسة بالنسبة لما تزخر به المكتبات ولما تنتجه المطابع كل يوم ولما تبدعه القرائح كل لحظة؟ إن عليّ أن أقطف الثمر من أكثر من بستان واحد، عليّ أن أخرج من محيط المدرسة الضيق، عليّ أن أقرأ أكثر ما يمكن، بل عليّ أن لا أتأخر عن الشر عند الحاجة.
وهذا ما حدث بالفعل. فقد نشر شاكر قصصه في سن مبكرة جداً. بدأ في النشر وهو في الثانوية بل في المتوسطة، ولا تتصور أن المجلات الكاسدة هي التي تخص شاكر. لا، فقد فتحت له أمهات المجلات العربية صدرها وحسبك منها (الطريق) و(شهرزاد) و(الرسالة) و(الأديب). بل إنه زاد على المطالعة والنشر بأن كوّن صداقات أدبية لها أثرها الكبير. وحسبك أن يكون على رأس هؤلاء الأصدقاء الأستاذ الجليل محمود تيمور، ومكانة تيمور من القصة أظهر من أن يدلّ عليها والذي يجدر ذكره أن الأستاذ تيمور كان -ولا يزال- يحترم شاكراً، وكانت نسخة شاكر تصل العراق من مؤلفات تيمور. ولهذا لا أراني أخطأت حين قلت عند تشرفي بزيارة تيمور فسألني عن شاكر: «إن شاكراً هذا إذا أصبح -وسيصبح فعلاً- شيئاً، فإن لتيمور فضله الواضح في تكوين هذا الشيء». أجل، إن تيمور عامل واضح في تكوين شاكر، وتبدو لهذه العوامل في أسلوب شاكر آثار، ولا غرو فتلمذة الكتب والمراسلة تفوق تلمذة المدرسة.
وهذا وذاك.. يدل على أثر له قيمته، يدل على أن الكفاءة تثبت نفسها بنفسها. فمع أننا في عصر الوساطات إلا أن شاكر كان يبعث قصته لمجلة ما فتنشرها له دون أن تعرفه. ثم يدل على أثر آخر له قيمته أيضاً.. يدل على أن إنتاج شاكر لم يكن هزيلاً، لا يكاد المحرر يقرأه حتى يضحك ويرميه في سلة المهملات وهو يردد: «كم ابتلاني الله بهؤلاء الذين تحدثهم أنفسهم بأمور ليسوا منها في شيء». إنه يقرأ، فيعجب، فينشر.
ولكن.. ولكن هل كان هذا (الولع) بهذا النوع من النشاط يعوق تفوق شاكر المدرسي؟ لا. أبداً، فهو دائماً في الطليعة. في الأمام. الأول، وهذا يكفي لإقناع الآباء والمدرسين والتلاميذ لأن يقلعوا عن ضلالهم القديم.
على أن الحق يقال أن النظريات التربوية قد تقدمت وأن بعض المدرسين كان يشجع شاكراً ويقدره ويحترم سلوكه. وإني لأحسد إنساناً له هذا النشاط، إنساناً ينهمك في كتابة القصة ليلة الامتحان ثم يدخل (البكالوريا) في الفرع الأدبي، ويخرج منه متفوقاً مرفوع الرأس، أول زملائه، وإذن فالبعثة حقه الطبيعي.
أجل، حقه الطبيعي، وكان حريّاً بأولي الأمر أن يلحظوا موهبة شاكر ونشاطه الخاص، وتفوقه الخاص، فيبعثوه بما يتسق وطبيعته؛ ولكن ذلك لم يقع وإنما بعث شاكر لدراسة الجغرافية في مصر.
ولكن للفطرة التي استفادت من ظروف كتلك التي مرّ ذكرها، وهيأت لها من الأجواء كتلك التي سلف الحديث عنها، واخترقت من القيود كتلك التي مر الكلام عليها، أقول إن هذه الفطرة وحدها كفيلة بأن تقوّي الأمل بأنها هي هي نفسها ستعرف كيف تستفيد وكيف تهيأ وكيف تخترق. وهذا ما حدث فعلاً، فإن شاكر ما كاد يصل مصر حتى اقتنع أن في الجغرافية مجالاً جديداً للقصاص. ثم إن له في مصر أصدقاء مرموقين في دنيا القصة العربية، وإذا كنت قد عرفت الأستاذ تيمور فاعرف الآن نجيب محفوظ وعبد الحميد السحار.
ثم إن عليه أن يراجع قصصه السابقة ويضيف إليها تعديلاً ويزيد عليها جديداً، وينشرها في الناس. وهذا ما حدث فعلاً إذ طلع علينا بأولى مجموعاته (صراع).
طلع علينا (بصراع) وعمره.. كم عمره؟ أتدري كم؟ لقد سألت أحد الأدباء الذين قرؤوا لشاكر فقال إنه لا يقل عن الأربعين. ولاشك في أنك إن قرأت قصصه ووقفت على ما فيها من أفكار وما لها من أسلوب، ولن تستطيع أن تقدره بأقل من الأربعين. إن عمر شاكر يصلح لأن يكون مسابقة أدبية، ولكن (الأستاذ لطفي) أفسد علينا طرافة هذه المسابقة، إذ كتب في المقدمة ما كتب من أنه (شاب حدث). أجل، إنه شاب حدث، إنه دون العشرين.
وهذا دليل جديد على أن الرجل مفطور على القصة. أجل القصة فطرة؛ القصة موهبة خاصة، وهذه الموهبة الخاصة هي العامل الأول في تكوين القصاص، أما ما عداها فمهذبات ومشجعات ومعجلات.
أجل القصة فطرة يا شاكر، أُخاطبه بالذات لأنه طالما أنكر ذلك وادّعى أنها مران. وهذه الفطرة، وهذه العوامل، وهذا الصراع؛ كل ذلك يؤيد أن (القطر) سينهمر، وأن الفجر سيصبح، وأن النواة ستثمر.
(3)
ولكن هل إن شاكراً يخلو من مناطق ضعف؟ أستغفر الله ما قلت هذا! فإني طالما صارحته بأنه لن يكون القصاص الكامل ما لم يتوفر على إتقان تام للغة أجنبية واحدة على الأقل. وإني أرى أن يتأنى قليلاً في إخراج قصصه الأخرى قدر ما يقتضيه الإتقان؛ وقدر ما يستلزمه التوفيق بين الجغرافية والقصة، وقدر ما قطف من ثمار تأخير إصدار صراع مدة تقترب من عام كامل، بل إن غلاف صراع مع ما يدل على جمال فكرة الرمز وهي الصراع بين القبح والجمال، بين الظلام والنور، والشيطان والملاك؛ إلا أن المرأة فيه -مع مزيد الأسف- لا تمثل المرأة العراقية كما هي ولا كما يجب أن تكون، هذا إلى أن تكوينها مصري، على أن السبب في هذا يرجع إلى الرسام بالدرجة الأولى.
أجل، ما قلت أن شاكراً يخلو من ضعف، لا، وإنما كل ما في الأمر أني أخذت الكلام من ناحية وتركت لغيري الكلام في النواحي الأخرى من محاسن ومساوئ.

كتب هذا المقال بمناسبة صدور المجموعة عام 1948