وسام جنيدي
لعل أبرز ما يلفت الأنظار في أسلوب (سليمان فياض) الذي رحل عن عالمنا هذا العام هي التفاصيل، هو ما أطلق عليه بعض النقاد تفاصيل المتن، تمتلئ مجموعاته القصصية بتلك التفاصيل الصغيرة، فنجد على سبيل المثال لا الحصر في مجموعته القصصية (العيون) في قصة (الغزوة الواحدة بعد الألف)، يحاول إدخال القارئ فيما يشبه النيرفانا إلى حالة بطل القصة الذي يعود إلى بلده الريفي بعد أعوام عدة محملا بأفكار ثورية جديدة.
تدور أغلب المجموعات القصصية الخاصة بفياض في مناخ سنوات النكسة في الفترة بين عامي ١٩73 و١٩96، وفى الليل وأثناء محاولات البطل دفع أفكاره الخاصة بعيدًا، تلك الأفكار الجنسية، يفاجئك فياض بوصف المناخ من حوله فيأتي تعبير (مواء القطط الشبقي)، ماذا لو كتب فياض مواء القطط واكتفى؟ ولكن بحرفية شديدة أحال فياض أمر بطل القصة إلى حالة البلد التي يسكنها ليلاً ومناخها العام.
سليمان فياض -عليه رحمة الله- حكاء قدير، فأغلب جيله قد نشأ على كتاباته عن علماء العرب أمثال (ابن سينا) (ابن النفيس) و(البيروني)، وكيف استطاع بأسلوب سهل ومتميز إيصال المعلومة وتوضيح تأثير العلماء العرب على العالم أجمع في مجالات العلوم المختلفة.
وعلى الرغم من الوجع والألم في مجموعاته القصصية الصادرة مجمعة من الهيئة المصرية للكتاب، نتيجة كتابتها أيام النكسة وحرب الاستنزاف، إلا انها ليست تلك الكتابات السوداوية في المطلق؛ فلم يسمح فياض لنفسه بتسرب روح الاستسلام إليه مثل أبناء جيله، فتجد قصصه ونوفيلاته تحمل ما أطلق عليه في عالم الكتابة (dark side of the moon)، الجانب المظلم من القمر، فهو محب لمصر والعروبة ولكن دائمًا هناك جوانب مظلمة وخفية هي ما تجعلنا نسقط وننهزم، تلك النقاط المعروفة إلى جميع أبناء العرب أحفاد العلماء والعظماء، ولكن دون شيفونية بلهاء تأتي كتابات فياض لتكشف لنا العوار.
ولعل من أبرز ما كتبه فياض وأثارت جدلًا في وقتها هي نوفيلا (أصوات)، التي تعددت بها الرواة وقام بتقسيمها على حسب الراوي وزاويته الخاصة في رؤية ما يحدث، مثله مثل أبناء الريف المصري الذين برزوا في الكتابة، فجاءت القصة القصيرة أو النوفيلا مثل قصة (فاطمة) للكاتب يوسف القعيد التي جاءت لنعي الوطن بعد النكسة في صورة سوداوية للغاية، أو رواية (عطش الصبار) لكاتبها يوسف أبو ريا تلك الرواية الاجتماعية التي يكشف بها عوار المجتمع الريفي وما يتخلله من مشاكل اجتماعية عن طريق تعدد الرواة في البلد الواحدة، وهو ما تميز به أسلوب الكاتب الكبير يوسف أدريس في العديد من قصصه القصيرة عن الريف المصري. فالريف المصري بمأموره وعمدته ومتعلم القرية بل وعبيطها في بعض الأحيان يحمل الكثير من الإسقاطات والدلالات التي يستطيع الكاتب الماهر من خلالها توصيل مفهومه عن السلطات والمتعلمين والمثقفين دون فجاجة.
تبدأ نوفيلا (أصوات) ببرقية يتسلمها مأمور القرية بأن (حامد عبد الصمد) ابن القرية الهارب من بؤسها وعائلته إلى أقطار البلاد الأوربية يريد العودة إلى قريته (الدراويش) ويخطر ويكلف مأمور القرية بطريقه ودية بالبحث عن عائلته؛ لأنه يريد لزوجته الفرنسية (سيمون) أن ترى بلدته وكيف نشأ، في دلالة لا تخفى على القارئ أن المأمور هو رمز السلطة في بلدته الصغيرة (حامد مصطفى البحيري ليس إلا شخصًا عاديًا. وهو لا يقل جدارة عن أي مواطن، له من الحيثية ما يثير من حوله ومن أجله، كل اهتماماتي، بحكم منصبي كمسؤول عن الأمن).
ثم تتوالى النوفيلا على يد (محمود بن المنسي) متعلم القرية ومثقفها، ثم (أحمد البحيري) شقيق حامد الذي لم يره من قبل وعمدة القرية، تبرز القرية استعدادًا لاستقبال حامد وزوجته الفرنسية خاصة أن حامد أرسل الكثير من المال لعائلته وانتظر الخير القادم على يد ابن قريتهم الهارب منها منذ زمن بعيد.
يأتي دور حامد نفسه في السرد مع عودته وزوجته ليتفاجأ بدوام حال الفقر والجهل في بلدته، ورغم ذلك اعتزازه بها أمام زوجته سيمون التي تسأله أسئلة منطقية، ولكن هو يجيب كأنما ليدافع فقط عن أهله وعشيرته، وهو ممعن في النستولوجيا الخاصة به عن قريته.
ما زالت الأشياء تحمل أسماءها في نفسي وتتوافد صورها عامة ومجملة، ضبابية ومهتزة، من أغوار ذكريات بعيدة، طالما أرقتني وعذبتني على ظهور البواخر، والقطارات والمناجم، ومغاسل المطاعم، ثم في متاجري الأنيقة، وفندقي الشهير في باريس.
يعود فياض عن طريق رواته ليقدم لنا فكرة الانبهار بالغرب القادم من بلاد بعيدة، ذلك الانبهار الذي لا يتجاوز القشور من طريقة ارتداء الملابس والأكل والإتيكيت الخاص به، ذلك الانبهار القشري الذي مازلنا نعاني منه في بلداننا العربية على الرغم من التطور، دون الانبهار بالفكر والعلم الخاص بالغربيين (الشوربة أولا، ثم بقية الطعام واحدا بعد الآخر، هكذا فرضت سيمون النظام علينا، وكان حامد يترجم لنا ما تريده، وينقل إلينا ملاحظاتها لنا أول بأول).
ومع إعجاب رجال القرية جميعهم بسيمون وغيرة نسائها، يأخذنا فياض إلى فكرة مقاومة الجديد لا لشيء إلا فكرة الخوف من المجهول، فيدفع نساء القرية الدفوع بأنها مجرد امرأة مسيحية تحمل شعرًا بإبطها، وتتجول دون حياء لتلتقط الصور للقرية وأهلها.
– والست سيمون، اسم الله عليها، ما الذي تعمله الآن؟
فقالت لها: إنها تكتب لأهلها في فرنسا، وإنهم يقولون، أيضاً، إنها تكتب لجرائد بلادها عن الدراويش.
فمصمصت صاحباتي بشفاههن، وقالت الست أم خليل: عشنا وشفنا. نفضح على آخر الزمن في الجرائد.
ثم تجيء الطامة الكبرى برحيل حامد لمباشرة أعمال له في القاهرة وترك سيمون وحدها في منزل العائلة، تدور أحاديث نساء البيت وصديقاتها أنهم يجب أن يعلموا سيمون الطاهر ذلك عن طريق تكتيفهن لها ونزع شعر إبطيها وشعر عانتها إن وجد، لأنها متزوجة من رجل مسلم ولفت نظرهم أكثر من مرة شعر إبط سيمون الواضح في فساتينها العارية، وتوافق والدة حامد وزوجة أخيه على هذا الحل وتعدن له العدة والوقت المناسب.
-سيمون، زوجة ابنك حامد، لا تحلق شعر جلدها، تحت الإبط وبين الفخذين.
وأثناء تكتيفهن لها تكتشف القابلة أيضًا إنها لم تختتن:
– سيمون زوجة ابنك حامد، الذي يشتري بماله وشبابه، ألف أنثى مثلها، لم تختتن حتى الآن، مثل بقية النساء، بل مثل بناتنا الصغيرات.
ومع تخديرها بطريقة بدائية وختانها بطريقة وحشية، تلفظ سيمون أنفاسها الأخيرة بين أيديهن، ليفاجئنا فياض بقسوة النهاية المتوقعة لسيمون التي تمثل العلم والقادمة من الغرب، كان من الممكن استغلالها للتعلم والسعي نحو النجاح، ولكن لخوفنا من المستقبل وجهلنا قُتلت، ليحيلنا دون شيوفنية إلى واحدة من أخطر قضايا العالم العربي الآن، الذي تعلم الغرب على يد رواده وعلمائه، وعندما أكمل الغرب مسيرة ما تعلمه، خفنا من جديده وقاومناه وتكبرنا عليه على الرغم من الانبهار بقشرته الخارجية البراقة للحضارة
ولم ينس فياض ذكر دور المأمور الذي يمثل السلطة في نوفيلته، يجعل تلك الجريمة مقيدة في الدفاتر بأنها هبوط حاد في عضلة القلب مع الأمر بدفن جثة سيمون سريعًا.
رحل فياض عنا في مستهل هذا العام بعد أن ترك لنا مكتبة واسعة منها ما يذكر الجيل الجديد بتاريخه ومنها الكثير من الحكايات كما كان يطلق عليها لتساعد الناس في فهم أفضل للحياة ومحاولات تقدمية في مجال الأدب والإبداع لا تخطئها عين قارئ؛ فقدم فنًا وكتابة هادفة، ومارس رغبته الأخيرة التى أدلى بها في آخر حديث صحفي له، برغبته أن يصبح حكاء في السماء، ليروي الحكايات كما كان يفعل في الأرض.
عن جريدة اخبار اليوم