وليم فوكنر: كتبت (الصخب والعنف) خمس مرات

وليم فوكنر: كتبت (الصخب والعنف) خمس مرات

ترجمة احمد الزبيدي
الصحفي
السيد فولكنر، قلت قبل فترة انك لا تحب اجراء المقابلات.
فوكنر
السبب في أنني لا أحب المقابلات كوني اجيب بعصبية على الأسئلة الشخصية. فإذا كانت الأسئلة حول العمل، فأنا أحاول الإجابة عليها. ولكنها عندما تكون حولي شخصيا، فقد أجيب أو لا، ولكن حتى لو فعلت، فان نفس السؤال لو سئلت عنه في اليوم التالي، قد يكون جوابي مختلفا.


الصحفي
وماذا عنك ككاتب؟
فوكنر
لو لم أكن موجودا،فيمكن لشخص آخر ان يكتب ما كتبت، همنغواي، دوستويفسكي، اي واحد منهم. والدليل على ذلك هو أن هناك نحو ثلاثة اسماء ممكن ان تقوم بتأليف مسرحيات شكسبير. ولكن ما هو مهم هو هاملت وحلم ليلة صيف، وليس من كتبها، ولكن هناك شخصا ما كتبها. شخص المبدع بحد ذاته ليس ذا اهمية.المهم فقط هو ما يبدعه، حيث ان هناك شيئا جديدا يجب أن يقال. شكسبير، بلزاك، هوميروس كلهم كتبوا حول نفس الأشياء، وإذا ما كان قد عاشوا لمدة ألف أو ألفي سنة أطول، ربما لن يكون اي احد بحاجة الى الناشرين.
الصحفي
ولكن حتى إذا كان لا يوجد شيئا أكثر مما قيل، فان للسمات الفردية للكاتب اهميتها.
فوكنر
مهمه جدا بالنسبة له. ولكن الجميع يجب أن يكونوا مهتمين جدا بالعمل نفسه لا أن يهتموا بالسمات الفردية للكاتب.
الصحفي
وماذا عن معاصريك؟
فوكنر
كل واحد منا فشل الى حد كبير في سعيه نحو الكمال.. في رأيي، إذا كان بامكاني أن أكتب كل اعمالي مرة أخرى، فأنا واثق أنني سوف أفعل ذلك على نحو أفضل، وهذا يمثل الحالة الأصح للمبدع. هذا هو السبب في أنه لا يكف عن العمل،محاولا مرة بعد اخرى،و في كل مرة ؛ يعتقد انه سوف يتقن العمل، ويبدع فيه.و بالطبع فهو لن يفعل،. وفي المرة التي يفعلها، يكون قد جعل العمل قد بلغ ما تخيله، ما حلم به،. ربما كل روائي يرغب بأن يكتب الشعر أولا، ويجد أنه لا يستطيع، ومن ثم يحاول كتابة القصة القصيرة، والذي هو الشكل الأكثر تطلبا بعد الشعر. ويفشل في ذلك، ثم حينذاك فقط يحترف كتابة الرواية.
الصحفي
هل هناك أية وصفة ممكنة يمكن عن طريق الاخذ بها أن يصبح المرء روائيا جيدا؟
فوكنر
تسعة وتسعون في المئة للموهبة... تسعة وتسعون في المئة للانضباط... تسعة وتسعون في المئة للعمل. و يجب ان لا يكون المرء راضيا أبدا عما يفعله. ويعتقد ان ليس بمقدوره انجاز الافضل. يجب ان يحلم دائما وان يطمح الى اعلى مما يتوقع ان بمقدوره الوصول اليه. لا يجهد نفسه لمجرد أن يكون أفضل من معاصريه أو سابقيه. حاول أن تكون أفضل من نفسك. المبدع هو مخلوق تقوده الارواح الشريره. وهو لا يعرف لماذا اختارته، و عادة ما يكون مشغول جدا فلا يجد الوقت ليسأل لماذا. وهو فاسد تماما لأنه سوف يسلب، ويقترض، ويتسول، أو يسرق من أي شخص او من كل شخص حتى ينجز عمله.
الصحفي
هل تعني أن على الكاتب ان يكون عديم الرحمة تماما؟
فوكنر
المسؤولية الوحيدة للكاتب هي نحو فنه. وسوف يكون قاسيا جدا إذا كان طيبا. فهو لديه حلم. وهو يعذبه كثيرا الى الحد الذي يجب ان يتخلص منه. ولا يكون مطمئنا حتى ذلك الحين. كل شيء يصب في سبيل الهدف: الشرف والعزة والصدق، والطمأنينة، والسعادة، كل شيء، لكي ينهي كتابة عمله. وإذا اضطر الكاتب لسرقة والدته، فعليه ان لا يتردد..
الصحفي
اذا هل يمكن لـ(فقدان) الأمان والسعادة والشرف، ان تكون عوامل مهمة في ابداع الفنان؟
فوكنر
كلا،انها مهمة فقط لطمأنينته وقناعته، والابداع ليس معنيا بالطمأنينة والقناعة.
الصحفي
اذا ما هي البيئة الأفضل للكاتب؟
فوكنر
الابداع لا يهتم حتى بالبيئة. فهو لا يبالي اين يكون المبدع. وإذا كنت تعنيني شخصيا، فقد كانت أفضل وظيفة عرضت عليّ هي ان أصبح مالكالاحدى بيوت الدعارة. وفي رأيي فانها البيئة المثالية للمبدع لكي يعمل، فهي تعطيه الحرية الاقتصادية النموذجية ؛ فهو متحرر من الخوف والجوع؛ لديه سقف فوق رأسه ولا يفعل شيئا مهما سوى إجراء عدد قليل من الحسابات البسيطة والذهاب مرة واحدة كل شهر ليدفع الى الشرطة المحلية. المكان هادئ خلال ساعات الصباح، والذي هو أفضل وقت من اليوم للعمل فيه. هناك ما يكفي من الحياة الاجتماعية في المساء، وإذا كان يرغب في المشاركة، للنخلص من الشعور بالملل. فأن عمله يعطي له مكانة معينة بين كل من في الدار. وليس لديه ما يفعله لأن السيدة تحتفظ بكل الحسابات لديها. جميع ساكني المنزل هم من الإناث، وجميعهن يحترمنه ويخدمنه وينادينه"سيدي". جميع مهربي الكحول في الحي ينادونه"يا سيدي."وهو ينادي رجال الشرطة بأسمائهم الأولى.
فالبيئة الوحيدة التي يحتاجها الفنان هي حيث ما توفر له الهدوء، مهما كانت تلك البيئة معزولة،. لا تستطيع البيئة الغير ملائمة ان تفعل سوى رفع ضغط دمه ؛ و سوف يقضي المزيد من الوقت وهويشعر بالإحباط أو الغضب. وكانت تجربتي الخاصة أن الأدوات التي أحتاجها في تجارتي هي الورق، والتبغ، والغذاء، وقليلا من الويسكي.
الصحفي
الويسكي من نوع بوربون، تقصد؟
فوكنر
لا، ليس على وجه التحديد. واذا كان الخيار بين مشروب السكوتش ولا شيء، فسوف اختار السكوتش.
الصحفي
ذكرتم الحرية الاقتصادية. هل يحتاج الكاتب لها؟
فوكنر
كلا، الكاتب لا يحتاج الحرية الاقتصادية. كل ما تحتاجه هو قلم رصاص وبعض الورق.لم اعرف أبدا أي شيء جيد يخلق من كتابة ناشئة من مال او رشوة. الكاتب الجيد لا تنطبق عليه قاعدة. فهو مشغول جدا في كتابة شيء ما. فإذا كانت كتابته ليست من الدرجة الأولى فانه يخدع نفسه بالقول انه لم يعد لديه الوقت أو الحرية الاقتصادية. الفن الجيد يمكن أن يخرج من بين اللصوص،من بين مهربي الكحول،،الناس حقا خائفون من معرفة مدى المشقة والفقر الذي يمكن أن يتحملوه. انهم يخافون من معرفة مدى قسوتها(المشقة والفقر). لا شيء يمكن أن يؤثر على الكاتب الجيد. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يؤثر عليه هو الموت. الكتاب الجيدون ليس لديهم الوقت ليقلقوا بشأن نجاحهم أو ان يصبحوا اغنياء. النجاح هو شيء يشبه المرأة. إذا كنت تتذلل أمامها، فانها ستتجاهلك. وبالتالي فإن الطريقة لمعاملتها هو أن تظهر لها عدم اكتراثك. وحينها ربما سوف تأتيني زاحفة اليك.
الصحفي:
هل أثر عملك في كتابة السيناريو على كتاباتك الادبية؟
فوكنر
لا شيء يمكن له ان يؤثر على الكتابة اذا كان الكاتب من الدرجة الأولى. فإذا لم يكن كاتبا من الطراز الأول، فليس هناك أي شيء يمكن أن يعينه كثيرا.
الصحفي
هل يقوم الكاتب بعمل تسوية او توازن حين يكتب للسينما؟
فوكنر
دائما، لأن الصورة السينمائية هي بطبيعتها تعاون مشترك، وأي تعاون هو حل وسط لأن هذا هو ما تعنيه لكلمة تعطي وتأخذ.
الصحفي
من هم الممثلون الذين ترغب في العمل معهم أكثر؟
فوكنر
همفري بوجارت هو واحد من افضل من عملت معهم. فقد عملنا معا انا وهو في فلمي (النوم العميق،وان تملك او لا تملك).
الصحفي
وهل ترغب في صنع فيلم آخر؟
فوكنر
نعم، أود أن اصنع واحدا عن رواية جورج أورويل (1984). لدي فكرة للنهاية من شأنها أن تبرهن على أطروحة لطالما شغلتني: وهي أنه لا يمكن تدميرالانسان لسبب بسيط هو رغبته في الحرية.
الصحفي
هل يمكنك التعليق على تجربتك مع هوليوود؟
فوكنر
كنت قد أكملت للتو عقدي مع شركةMGM وكنت على وشك العودة إلى البيت. حينها قال لي المخرج الذي كنت اعمل معه"إذا كنت ترغب بوظيفة أخرى هنا، فقط اخبرني وأنا سوف أتحدث مع الاستوديو حول عقد جديد."شكرته وعدت الى البيت. بعد حوالي ستة أشهر ارسلت برقية الى صديقي المخرج قلت فيه انني ارغب بوظيفة أخرى. بعد ذلك بفترة قصيرة وصلتني رسالة من وكيلي في هوليوود مرفق معها راتب الأسبوع الأول. وفوجئت لأنني كنت أتوقع أولا الحصول على إشعار رسمي أو استدعاء وعقد من الاستوديو. قلت لنفسي، لقد تأخر العقد، وسيصل في البريد القادم. ولكن بدلا من ذلك، بعد أسبوع وصلتني رسالة أخرى من الوكيل، أرفق معها راتب الأسبوع الثاني. واستمر الامر من تشرين الثاني 1932، حتى ايار 1933. ثم وصلتني برقية من الاستوديو. تقول:"ويليام فوكنر، أكسفورد، أين أنت؟ شركة MGM".
فكتبت برقية:"شركة MGM، كلفر سيتي، كاليفورنيا. وليام فولكنر".
فقالت لي موظفة البريد وهي سيدة شابة،"أين هي الرسالة، يا سيد فوكنر؟"فقلت:"هذا كل شيء."وقالت:"إن الجهاز يقول أنه لا يمكنني الإرسال دون كتابة رسالة، عليك أن تقول شيئا."فبحثنا في نماذج رسائل موجودة لديها واخترت واحدة نسيتها من رسالة مسجلة فيها تحايا لذكرى ما. وبعثتها. بعد ذلك جاءتني مكالمة هاتفية من الاستوديو تطلب مني المجيء على متن أول طائرة، والذهاب إلى نيو أورليانز، وتقديم تقرير إلى المخرج براوننج. كان بامكاني أن استقل قطارا من أكسفورد واكون في نيو اورليانز بعد ثماني ساعات. لكنني اطعت الشركة وذهبت إلى ممفيس، حيث ان الطائرة احيانا تذهب إلى نيو أورليانز. وبعد ثلاثة أيام، كنت هناك.
وصلت الى الفندق الذي يقيم فيه السيد براوننج نحو السادسة مساء،واتصلت به. كانت هناك حفلة. فقال لي ان انام جيداوان اكون جاهزا في الصباح الباكر. سألته عن القصة. وقال:"أوه، نعم. اذهب إلى غرفة كذا وكذا. ستجد كاتب الحوار. وهو الذي سوف يخبرك ما هي القصة".
ذهبت إلى الغرفة حسب التوجيهات. كان كاتب الحوار يجلس هناك وحده. اخبرته من اكون وسألته عن القصة. فقال:"عندما يكون عندك الحوار المكتوب سوف أجعلك ترى القصة."عدت إلى غرفة براوننج وأخبرته بما حدث. قال لي"عد اليه"واضاف:"وقل له كذا وكذا. لا يهم، لقد نمت جيدا لذا كنت مستعدا في الصباح الباكر".
في صباح اليوم التالي استأجر لنا جميعا زوارق ما عدا كاتب الحوار الذي أبحر الى جزيرة جراند، والتي تبعد حوالي مائة ميل، حيث كان يتم تصوير مشهد لاطلاق النار، ليصل إلى هناك في الوقت المناسب لتناول الغداء ويكون لديه الوقت الكافي لقطع مئات من الأميال عائدا إلى نيو أورليانز قبل حلول الظلام.
استمرذلك الامر لمدة ثلاثة أسابيع. وبدأت اقلق قليلا حول القصة، ولكن براوننج دائما كان يقول لي،"توقف عن القلق. نم جيدا حتى نتمكن من بدء العمل مبكرا صباح الغد".
بعد ليلة واحدة من عودتنا كنت قد دخلت غرفتي توا عندما رن جرس الهاتف. وكان براوننج. وقال لي أن آتي إلى غرفته في الحال. و فعلت ذلك. وكان لديه برقية. تقول:"فوكنر.انت مفصول من العمل لا تقلق"، قال لي براوننج"."سأتصل بكذا وكذا من هذه اللحظة ولن اجعلهم يدرجوك في قوائم الاجور مرة اخرى فحسب، ولكن ساجعلهم يرسلون لك اعتذارا مكتوبا."كان هناك طرق على الباب. وكانت هناك ورقة فيها برقية أخرى. وكان مكتوب فيها:"براوننج.انت مفصول من العمل:". لذلك عدت إلى المنزل. واعتقد ان براوننج ذهب الى مكان ما أيضا. حينها تخيلت كاتب الحوار لا يزال يجلس في غرفة في مكان ما مع شيك الراتب الأسبوعي يمسكه بإحكام في يده. لم ينتهوا من الفيلم ابدا.
الصحفي
أنت تقول أن على الكاتب ان يقوم بمساومات وتوافقات اثناء العمل في صناعة السينما. ماذا عن كتاباته؟ هل يشعر بأي التزام تجاه قرائه؟
يتمثل التزامه في ان يعطي عمله اقصى ما يمكنه. مهما كان ذلك الالتزام الذي يتمسك به فيمكن له أن يلتزم به بالطريقة التي يحب. أما عن نفسي فانا مشغول جدا عن الاهتمام بالجمهور. ليس عندي الوقت لاسأل من يقرأ لي. أنا لا يهمني رأي فلان الفلاني بعملي أو عمل أي شخص آخر.رأيي هو المعيار الذي يجب أن اقيس عليه، وهو عندما يجعلني العمل الذي اكتبه أشعر بنفس الشعور الذي اشعره عندما اقرأ رواية(اغراء سانت أنطوان لفلوبير، أو العهد القديم. فهي تجعلني أشعر بالراحة. مثلما ان مراقبتي الطيور تجعلني أشعر بالراحة. ولو حدث أنني خلقت من جديد، فاني اتمنى أن أكون صقرا. لا احد يكرهه أو يغار منه أو يريد منه شيئا أو يحتاج إليه. لا ينزعج ابداً أو يقع في خطر، و يمكنه ان يأكل أي شيء.
الصحفي
ما هوالتكنيك الذي تستخدمه للوصول إلى المعيار الخاص بك؟
فوكنر
اذا كان الكاتب مهتما بالتكنيك فليعمل جراحا وفي بناء الطوب. لا توجد وسيلة ميكانيكية تمكن الكاتب من الحصول على الكتابة المثالية، او الموجزة. سيكون الكاتب الشاب أحمقا اذا ما سار وفق نظرية. علّم نفسك من الأخطاء الخاصة بك. لا يتعلم الناس إلا عن طريق الخطأ. الفنان الجيد يعتقد أن لا أحد جيد بما فيه الكفاية حتى يعطيه نصيحة. فهو في قمة الغرور..
الصحفي
هل تنكر اهمية التكنيك؟
فوكنر
بأي حال من الأحوال. أحيانا فان التكنيك واسلوب العمل ينبثق من الاحلام وينقاد لها قبل ان يكون الكاتب نفسه قد وضع يديه على التكنيك المناسب. وهذه هي البراعة، وتكون عملية انهاء العمل مجرد مسألة مشابهة لمن يضع الطوب المناسب ويرصه سوية بدقة، لأن الكاتب يعرف ربما المكان الصحيح لكل كلمة حتى النهاية قبل أن يضع واحدة جديدة. حدث هذا مع روايتي (راقدا في حضرة الموت). لم يكن الأمر سهلا. ولم يكن عملا صادقا فحسب. كان بسيطا في أن جميع المواد بالفعل كانت في متناول اليد. استغرق الأمر مني حوالي ستة أسابيع للعمل فقط في وقت الفراغ من عملي اليدوي الذي كان لمدة اثنتي عشرة ساعة في اليوم. لقد تخيلت ببساطة مجموعة من الناس وجعلتهم يتعرضون الى كارثة طبيعية عالمية بسيطة، و هي الفيضان والحريق، ولكن حينذاك، عندما لا يتدخل التكنيك، فان الكتابة بمعنى آخر تصبح سهلة أيضا. لأنه بالنسبة لي هناك دائما مرحلة في الكتاب حيث تنمو شخصيات العمل من تلقاء نفسها وتتحمل المسؤولية وتنهي المهمة،لنقل على سبيل المثال في مكان ما في صفحة 275. وبطبيعة الحال أنا لا أعرف ما الذي سيحدث إذا انهيت الكتاب عند الصفحة 274. الميزة التي يجب أن يمتلكها الفنان هي الموضوعية في الحكم على عمله، بالإضافة إلى الصدق والشجاعة وان لا يضحك على نفسه. فاذا كان عملي لا يتوافق مع مقاييسي، لا بد لي من الحكم عليه على أساس أنه ذلك الذي تسبب لي في معظم الحزن والألم، كما تحب الام طفلها الذي يصبح لصا او قاتلا أكثر من ذلك الذي يصبح قسيساً.
الصحفي
ما هو ذلك العمل؟
فوكنر
انه (الصخب والعنف). لقد كتبته خمس مرات على حدة، محاولا ان اروي القصة، ساعيا لتخليص نفسي من الحلم الذي يستمر في تعذيبي الى ان تمكنت من ذلك. انها مأساة امرأتين ضائعتين: كادي وابنتها. وديسلي هي واحدة من شخصياتي المفضلة، لأنها شجاعة، وجسورة، وسخية،و لطيفة، وصادقة. انها أكثر شجاعة وصدقاوكرما مني.
الصحفي
كيف بدأت كتابة (الصخب والعنف)؟
فوكنر
بدأ الامر مع صورة ذهنية. لم أكن أدرك في ذلك الوقت انها كانت رمزية. كانت صورة لموضع مبهم لجارورة فتاة صغيرة في شجرة كمثرى، حيث تستطيع ان ترى من خلال النافذة جنازة جدتها وتسرد لاخوتها في الاسفل ما يحصل. وبمرور الوقت فاني أوضح من هم وماذا كانوا يفعلون وكيف تلطخ سروالها بالوحل، وأدركت أنه سيكون من المستحيل تناول كل ذلك في قصة قصيرة، وأنه يجب أن يكون رواية. ثم أدركت رمزية السراويل المتسخة، وحلت محل تلك الصورة،صورة الفتاة يتيمة الام والاب التي تتسلق أنبوب التصريف للهروب من المنزل الوحيد الذي كانت تعيش فيه، والذي لم تجد فيه الحب أو التعاطف أو التفهم.
كنت قد بدأت بالفعل احكي القصة عن طريق طفل مغفل، منذ شعرت أنه سيكون أكثر فعالية لان تروى من قبل شخص قادر فقط على معرفة ما حدث بدون معرفة الاسباب. فاكتشفت بأنني لم أروي القصة بشكل مناسب. حاولت أن أرويها مرة أخرى، نفس القصة من خلال شقيق آخر. وكانت الرواية لا تزال غير مناسبه. ورويتها للمرة الثالثة من خلال شقيق ثالث. وبقي الامر على حاله. حاولت جمع القطع معا وملء الفجوات عن طريق جعل نفسي المتحدث. فلم يكتمل الامر، انه الكتاب الذي أشعر بمحبة كبيرة نحوه. و لا يمكنني أن اتركه دون اعيد صياغته، ولم استطع ابدا ان أقول ذلك بصراحة، بالرغم من أنني حاولت مرارا ذلك وأرغب أن احاول مرة أخرى، وعلى الرغم من أنني ربما أفشل مرة أخرى.
الصحفي
ما العاطفة التي يثيرها فيك بينجي(احد ابطال الصخب والعنف)؟
فوكنر
العاطفة الوحيدة التي أستطيع ان احملها لبينجي هي الحزن والشفقة لجميع البشر. لا يمكنك أن تشعر بأي شيء لبينجي لأنه لا يشعر بأي شيء. الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أشعر به شخصيا هو القلق بشأن ما اذا كنت قد صوّرته بشكل مقنع. فقد كان هو الاستهلال لبداية الرواية، مثل حفار القبور في الأعمال الدرامية ايام العصرالإليزابيثي. انه يؤدي دوره ويذهب. بينجي غير قادر على فعل الخير اوالشر لانه ليس لديه معرفة بالخير اوالشر.
الصحفي
هل يمكن لبينجي ان يشعر بالحب؟
فوكنر
بينجي لم يكن عاقلا بما يكفي حتى لأن يكون أنانيا. كان حيوانا. وكان يدرك الحنان والحب على الرغم من انه لا يعرف اسميهما، وكان الخطر الذي يهدد الحنان والحب هو الذي يجعله يغضب عندما يشعر بالتغيير في سلوك كادي.. وكان ابلهاً الى الدرجة التي لم يكن حتى على علم بأن كاندي كانت في عداد المفقودين. كان يعرف فقط أن شيئا ما كان خطأ، والذي ترك فراغ عنده وسبب له الحزن. وحاول ان يملأ ذلك الفراغ. وكان الشيء الوحيد الذي كان يملكه حذاء متروكا لكاندي. وكان ذلك الحذاء يمثل له الحنان والحب، اللذين لم يعرف اسميهما، لكنه يعرف فقط أنهما مفقودان. وكان قذرا لأنه لم يستطع ان يكون انيقا وبسبب ان الوساخة لم تكن تعني له شيئا. بل أكثر من ذلك فهو لا يمكنه التمييز بين الوساخة والنظافة كما لا يستطيع التمييز بين الخير والشر. أعطاه الحذاء الراحة على الرغم من انه لم يعد يتذكر الشخص الذي كان صاحب الحذاء، بل أكثر من ذلك لا يمكن أن يتذكر لماذا يحزن. وإذا ما ظهرت كاندي فربما لن يعرفها.
الصحفي
هل هناك أي فوائد فنية في ان تكتب الرواية في قالب رمزي، كما في الرموز المسيحية التي استخدمتها في روايتك (حكاية)؟
فوكنر
نفس الفائدة التي يجدها النجار في بناء الاركان الاربع من أجل بناء منزل. في روايتي (حكاية)، كان الرمز المسيحي هوالرمز المناسب للاستخدام في تلك القصة المعينة، كما ان الاركان هي الاساس في بناء المنزل.
الصحفي
هل هذا يعني ان الفنان يمكنه استخدام الرموز المسيحية ببساطة على أنها مجرد أداة من ادواته، مثلما يستخدم النجار المطرقة؟
فوكنر
النجار الذي نتكلم عنه لا يفتقر أبدا لهذه المطرقة. ليس هناك من هو بدون المسيحية، إذا اتفقنا على ما نعنيه بالكلمة. انها اساس السلوك الفردي لكل فرد،والتي من خلالها يجعل من نفسه أفضل أنسان اكثر مما تريد له طبيعته أن يكون، إذا سار وفق طبيعته فقط. وأيا كان رمزه-الصليب أو الهلال أو أيا كان-، فأن الرمز هو تذكير الانسان بواجبه تجاه الجنس البشري. ان الرموز المختلفة هي المعايير التي يقيس نفسه بها وتعلمه أن يعرف من هو. لا يمكن لهذه الرموز أن تعلم الفرد أن يكون جيدا كما في الكتاب المنهجي الذي يعلمه الرياضيات.انها تبين له كيف يكتشف نفسه، ويطور لنفسه مدونة أخلاقية ومعيار من ضمن قدراته وتطلعاته، من خلال اعطائه امثلة لا حد لها من المعاناة والتضحية ووعود من الأمل. الكتّاب دائما ما كتبوا، وسيظلون يكتبوا، مستندين على رموز الوعي الأخلاقي تلك، وذلك بسبب أن تلك الرموز منقطعة النظير-الرجال الثلاثة في رواية(موبي ديك)، الذين يمثلون ثالوث الضمير: 1-لا يعلمون شيئا،2- يعلمون ولا يبالون،3- يعلمون و يبالون. وهذا الثالوث نفسه يتمثل في روايتي(حكاية) بذلك الضابط الطيار اليهودي الشاب، الذي قال:"هذا أمر فظيع. أنا أرفض أن اقبل به، حتى لو كان الموت هو جزاء عدم القيام به". والضابط كبير السن الفرنسي آمر التموين العام، الذي قال:"هذا أمر فظيع، ولكن يمكننا تحمله". وعدّاء الكتيبة الإنجليزية، الذي قال:"هذا أمر فظيع، سوف افعل شيئا بشأنه".
الصحفي
هل ان الموضوعين الذين لا يرتبطان بعلاقة فيما بينهما في روايتك (النخيل البري) جمعت في كتاب واحد لأي غرض رمزي؟ او كما يقول بعض النقاد، هو نوع من الطباق والجناس الجمالي، أم أنها مجرد صدفة؟
فوكنر
لا لا. كان ذلك قصة واحدة، قصة شارلوت ريتنماير وهاري ولبورن، الذين ضحوا بكل شيء من أجل الحب ومن ثم ضاع منهم. انالم أكن أعرف أنهما سيكونان قصتين منفصلتين حتى بعد أن بدأت اكتب الكتاب. عندما وصلت إلى نهاية ما هو الآن القسم الأول من (النخيل البري)، أدركت فجأة أن شيئا ما كان مفقودا، وهناك حاجة للتأكيد عليه،. لذلك كتبت قصة"الرجل العجوز"حتى نضجت عندي رواية"النخيل البري"لان تصبح ذات مستوى اعلى. فتوقفت عن كتابة قصة"الرجل العجوز"الى ما هو الآن القسم الأول منها، وشرعت اكتب"النخيل البري"الى ان بدأت القصة مرة أخرى بالترهل. بعد ذلك طورتها مرة أخرى بكتابة قسم آخر من نقيضها، والتي هي قصة الرجل الذي ارتبط بحبيبته ولكنه يقضي بقية الكتاب فارا منها، ووصل الامر به إلى حد الذهاب طوعا إلى السجن حيث سيكون بآمان. أنها ليست قصتين عن طريق الصدفة، ربما بالضرورة. انها قصة كل من شارلوت وولبورن.
الصحفي
كم من كتاباتك يستند على تجربتك الشخصية؟
فوكنر
لا استطيع ان احدد.فانا لم احصها. لأن"الكم"ليس مهما. الكاتب يحتاج ثلاثة أشياء، الخبرة، والملاحظة، والخيال، أي اثنين منها، وفي بعض الأحيان أي واحدة منها، يمكن ان تعوض النقص في الشيئين الآخرين. بالنسب لي فان القصة عادة ما تبدأ من فكرة واحدة أو من الذاكرة أو من صورة ذهنية. كتابة القصة هي مجرد مسألة عمل حتى تلك اللحظة، لشرح لماذا حدث ما حدث أو ما الذي تسبب به لاحقا. الكاتب يحاول خلق ناس واقعيين في حالة حركة واقعية، بالطريقة الأكثر إثارة للمشاعر التي في وسعه. من الواضح انه يجب عليه استخدام البيئة التي يعرفها كواحدة من أدواته. أود أن أقول أن الموسيقى هي أسهل الوسائل في التعبير، لأنها تأتي في المرتبة الأولى في تجربة وتاريخ البشر. ولكن ما دامت الكتابة هي موهبتي، فلا بد لي من محاولة التعبير بالكلمات ما تستطيع الموسيقى ان تفعله بشكل أفضل. وهذا يعني أن الموسيقى تستطيع التعبير بشكل أفضل وأبسط، ولكني أفضل أن استخدم الكلمات، مثلما أفضل أن اقرأ بدلا من ان استمع. أنا أفضل الصمت على الصوت، والصورة التي تنتجها الكلمات تحدث في صمت. وهكذا، فان موسيقى النثر وصخبه تحدث في صمت.
الصحفي
بعض الناس يقولون انهم لا يستطيعون فهم ما تكتب، حتى بعد قراءته مرتين أو ثلاث مرات. ما هو الحل الذي تقترحه بالنسبة لهم؟
فوكنر
قراءته أربع مرات.
الصحفي
لقد ذكرت ان التجربة والملاحظة، والخيال مهمة للكاتب. هل يشمل ذلك الإلهام؟
فوكنر
أنا لا أعرف أي شيء عن الإلهام لأنني لا أعرف حقا ما هو الإلهام-لقد سمعت عنه، ولكنني لم أره.
الصحفي
يقال عنك انك كاتب لديه هوسا بالعنف.
فوكنر
وهذا يشبه القول ان النجار لديه هوس مع مطرقته. العنف هو مجرد واحدة من أدوات الكتابة. لايمكن للكاتب ان يعمل بأداة واحدة كما هو حال النجار
الصحفي.
هل يمكنك لك أن تخبرنا عن بداياتك ككاتب؟
فوكنر
كنت أعيش في نيو أورليانز، وكنت اعمل باي عمل يوفر لي القليل من المال بين الحين والآخر. التقيت شيروود أندرسون. ورغبنا في المشي حول المدينة في فترة ما بعد الظهر والتحدث إلى الناس. في المساء كنا نلتقي مرة أخرى ونجلس لشرب زجاجة أو اثنتين وكان يتحدث وأنا استمع. في الضحى لم اكن أراه. فقد كان يعمل منعزلا،. وفي اليوم التالي نكرر الامر. وحينها قررت أنه إذا كانت تلك هي حياة الكاتب، فان ما يناسبني هو ان اصبح كاتبا. لذلك بدأت في كتابة كتابي الأول. وحالا اكتشفت أن الكتابة كانت متعة. حتى أنني نسيت أنني لم أر السيد أندرسون لمدة ثلاثة أسابيع الى ان كان يوما امام باب مسكني، وهي المرة الأولى على الاطلاق التي يأتي فيها لرؤيتي، وقال:"ما الامر؟ هل أنت غاضب مني"فاخبرته انني كنت أكتب كتابا. فقال:"يا إلهي"، وخرج. عندما انهيت الكتاب وكان ذلك قصة(راتب الجندي) التقيت السيدة أندرسون في الشارع. وسألتني كيف تسير الامور مع الكتاب، فقلت لها انني انهيته،. فقالت لي:"يقول شيروود انه سيعقد صفقة تجارية معك. بعد قراءة مخطوطتك الخاصة سوف يوصي ناشره بقبولها."قلت: "حاضر"، وهكذا اصبحت كاتبا.
الصحفي
ما هي أنواع الاعمال التي كنت تقوم بها لكسب هذا"القليل من المال بين الحين والآخر"؟
فوكنر
كل ما هو متوفر. أستطيع ان افعل القليل من اي شيء تقريبا، قيادة القوارب،طلاء المنازل، الطيران بالطائرات. لم أكن بحاجة الى الكثير من المال لأن المعيشة كانت رخيصة في نيو اورليانز في ذلك الحين، وكان كل ما أردت مكان للنوم، والقليل من الطعام، والتبغ، ويسكي. هناك العديد من الأشياء التي يمكنني القيام بها لمدة يومين أو ثلاثة أيام وكسب ما يكفي من المال للعيش في بقية الشهر. وبطبيعتي فأنا متشرد وعابرسبيل. أنا لا أطمع في المال بشكل سيئ الا ما يكفيني فاعمل من أجله. في رأيي انه من العار أن هناك الكثير من العمل في العالم. واحد من أتعس الأشياء هو أن الشيء الوحيد الذي يستطيع الرجل القيام به لثماني ساعات في اليوم، يوما بعد يوم، هو العمل. فلا يمكنك ان تأكل ثماني ساعات في اليوم ولا تشرب لمدة ثماني ساعات في اليوم ولا تمارس الحب لمدة ثماني ساعات، كل ما يمكن القيام به لمدة ثماني ساعات هو العمل. وهذا هو السبب الذي يجعل الانسان والجميع ممن حوله بائسون وغير سعداء.
الصحفي
لابد و أنك تشعر بالامتنان لشيروود أندرسون، ولكن كيف تنظر إليه ككاتب؟
فوكنر
شيروود كان الاب الروحي لجيلي من الكتاب الأميركيين و مؤسس تقاليد الكتابة الأميركية التي سار عليها من أتى بعده. لكنه لم يحصل على التقدير الذي يستحقه. درايسر هو شقيقه الأكبر ومارك توين والد الاثنين على حد سواء.
الصحفي
ماذا عن الكتاب الأوروبيين في تلك الفترة؟
فوكنر
الكاتبان العظيمان في وقتي هما مان وجويس. ويجب أن نعتبر رواية (أوليسيس) لجويس بمثابة الوعظ المعمداني الأمين في العهد القديم:.
الصحفي
كيف حفظت الكتاب المقدس؟
فوكنر
كان والد جدي موري رجل لطيف ومهذب، بالنسبة لنا نحن الأطفال خصوصا. وهكذا، فعلى الرغم من انه كان اسكتلنديا، فكان (بالنسبة لنا) ليس شديد التدين: كان ببساطة رجل صاحب مبادئ غير مرنة. وكان حاله حال الجميع، وكان على الأطفال وبحضور البالغين، ان يحفظوا آية من الكتاب المقدس جاهزة لان يلقوها عندما كنا نجتمع على طاولة الإفطار في كل صباح. فإذا لم تكن تحفظ آية من الكتاب المقدس خاصة بك، فلن تحصل على وجبة الإفطار.
كان يجب على المحفوظة أن تكون أصلية وصحيحة،. حينما كنا صغارا، كان يمكن أن تكون نفسها، نعيدها مرة بعد مرة،في صباح كل يوم،الى ان نحفظها تماما، حينها نحصل على واحدة اكبر واقدم،.
الصحفي
هل تقرأ لمعاصريك من الكتاب؟
فوكنر
لا، الكتب التي اقرأها هي تلك التي عرفتها وأحببتها عندما كنت شابا والتي أعود اليها كما افعل مع أصدقائي القدامى: العهد القديم، ديكنز، كونراد، سرفانتس، دون كيشوت، وأنا أقرأها في كل عام، كما يفعل البعض مع الكتاب المقدس. وفلوبير، وبلزاك، - فتخلق عالما بكرا من تلقاء نفسه، وتبعث الروح في الكتب- اقرأدوستويفسكي، تولستوي، شكسبير. اقرأ ميلفيل في بعض الأحيان، والشعراء، مارلو، كامبيون، جونسون، هيريك، دون، كيتس، وشيللي. ما زلت اقراء هوسمان. انا لا اقرأ هذه الكتب في كثير من الأحيان منذ الصفحة الاولى الى النهاية. فقد اقرأ مشهد واحد، أو اقرأ عن شخصية من شخصيات الكتاب، تماما كما لو كنت تلتقي بصديق وتتحدث معه لبضع دقائق.
الصحفي
وفرويد؟
فوكنر
تحدث الجميع عن فرويد عندما كنت أعيش في نيو اورليانز، ولكن لم يسبق لي أن قرأت له. ولا لشكسبير.لست متاكدا ان كان ميلفيل فعل الشيء نفسه، وأنا متأكد من ان موبي ديك لم يفعل.
الصحفي
هل سبق لك وان قرأت الروايات البوليسية؟
فوكنر
قرأت سيمنون لأنه يذكرني بشيء ما من تشيخوف.
الصحفي
ماذا عن الشخصيات المفضلة لديك؟
فوكنر
شخصيتي المفضلة هي سارة غامب- المرأة القاسية التي لا ترحم، السكيرة، الانتهازية، التي لا يمكن الاعتماد عليها، فإن معظم جوانب شخصيتها كان سيئا،. السيدة هاريس، فالستاف، الأمير هال، دون كيشوت، وسانشو بالطبع. بالنسبة للسيدة ماكبث أنا دائما معجب بها. وببوتوم، بأوفيليا، وميركتيو على حد سواء، هما الاثنين والسيدة غامب واجهوا الحياة، ولم يطلبوا شيئا من احد، ولم يتذمروا أبدا. وهناك بطبيعة الحال،هاك فين وجيم. بالنسبة لتوم سوير لم أحبه كثيرا، فهو منافق فظيع. أحببت سوت لوفنغوود، وهي بطلة رواية كتبها جورج هاريس عن 1840 أو 1850 في جبال ولاية تينيسي. لم يكن لديه اية أوهام عن نفسه، فقد فعل أفضل ما يمكنه. في أوقات معينة كان جبانا وكان يعلم بذلك ولم يكن يخجل منه. اما مصائبه فلم يلق باللوم على أي شخص جرائها، ولم يتزعزع ايمانه أبدا جرائها ايضا.
الصحفي
كيف ترى مستقبل الرواية؟
فوكنر
أتصور انه ما دام هناك اناس سوف يستمرون في قراءة الروايات، فهناك اناس سوف يستمرون في الكتابة لهم، أو العكس بالعكس؛ ما لم تتمكن بالطبع المجلات المصورة والأشرطة الهزلية من قتل قدرة الإنسان على القراءة.
الصحفي
وماذا عن وظيفة النقاد؟
فوكنر
ليس للمبدع الوقت للاصغاء الى النقاد. والذين يريدون من الكاتب ان يقرأ مراجعات الكتب وعرضها، ولكن من يريد أن يكتب لا يجد لدي الوقت الكافي لقراءة المراجعات. الناقد أيضا يحاول أن يقول"ها انذا هنا."وظيفته ليست موجهه تجاه المبدع نفسه. المبدع هو احسن من الناقد، فبالنسبة للمبدع فهو ذلك الذي يكتب الشيء الذي يؤثر في الناقد. الناقد هو ذلك الذي يكتب شيئا يؤثر في الجميع ما عدا المبدع.
الصحفي
لهذا السبب لا تشعر بالحاجة إلى مناقشة العمل الخاص بك مع أي شخص؟
فوكنر
لا، أنا اكون مشغول جدا بكتابة اعمالي. وهذا يشعرني بالرضا عن نفسي وإذا ما كان ليس كذلك فلست بحاجة للحديث عنه. فإذا لم يكن العمل مرضيا لي، فان الحديث عنه سوف لا يجعله يتحسن، لأن الشيء الوحيد لتحسين للعمل هو العمل عليه أكثر. أنا لست رجل أدب انا لست سوى كاتب. فلا اجد أي متعة في الحديث والثرثرة بلا نتيجة.
الصحفي
يدعي النقاد أن علاقات القرابة تلعب دورا محوريا في رواياتك.
فوكنر
انه رأيهم، وكما قلت، أنا لا أقرأ النقاد. انا أشك في أن رجلا يحاول الكتابة عن الناس لا يهتم كثيرا في علاقات القرابة اكثر مما تكون عليه اشكال أنوفهم، إلا إذا كانت ضرورية للمساعدة في جوهر القصة. فإذا ما ركز الكاتب على ما يحتاج أن يكون مهتما به، و هو الحقيقة والعاطفة الانسانية، فسوف لن يكون لديه الكثير من الوقت لان ينتقل إلى أي شيء آخر، مثل الأفكار والحقائق او مثل شكل الأنف أو علاقات القرابة، ما دامت الافكار والوقائع لها صلة ضعيفة جدا بالحقيقة.
الصحفي
ويشير النقاد أيضا أن شخصياتك لا تختار أبدا بوعي بين الخير والشر.
فوكنر
الحياة لا تهتم بالخير والشر. دون كيشوت كان باستمرار امامه ان يختار بين الخير والشر، ولكن بعد ذلك كان اختياره وهو في حالة حلم. وكان مجنونا. واحتك بالواقع فقط لانه كان مشغولا للغاية في محاولته التعامل مع الناس فلم يكن لديه الوقت للتمييز بين الخير والشر. ما دام الناس موجودون فقط في الحياة، يجب أن يكرسوا وقتهم وببساطة لكي يعيشوا. الحياة هي الحركة، والحركة هي المعنية بما يجعل المرء يتحرك، وهو الطموح، والطاقة، والسرور. والوقت الذي يستطيع المرء تكريسه للأخلاق، فلا بد انه أستقطعه بالقوة من الحركة التي هو جزء منها. فهو مرغم ان يختار بين الخير والشر عاجلا أم آجلا، لأن الضمير الأخلاقي يتطلب منه ذلك من أجل أن يمكنه العيش مع نفسه في الغد. ضميره الأخلاقي هو اللعنة التي اضطر لقبولها من الآلهة من أجل ان يمنحوه الحق في الحلم.
الصحفي
هل لك أن تشرح نا أكثر ماذا تقصد بعلاقة الحركة بالمبدع؟
فوكنر
هدف كل مبدع هو الامساك بالحركة، اي الحياة، من خلال وسائل اصطناعية والاحتفاظ بها ثابتة حتى لمدة مائة سنة، وعندما ينظر اليها احد ما، فانها تعاود الحركة مرة أخرى لأنها هي الحياة. وما دام الإنسان يفنى ويموت، فان الخلود الوحيد الممكن بالنسبة له هو ترك شيء وراءه وهذا هو الخلود لأنه سوف يتحرك دائما. هذه هي غاية المبدع من تركه أثرا بعده.
الصحفي
يقول الناقد مالكولم كاولي أن شخصياتك تحمل شعورا من الاستسلام لقدرها.
فوكنر
هذا هو رأيه. ربما البعض منهم كذلك، والبعض الاخر ليس كذلك،. أود أن أقول إن لينا غروف في رواية (نور في آب) تعاملت بشكل جيد مع قدرها. ولم يكن يهمها حقا ان يكون قدرها ان تتزوج لوكاس بورتش أم لا. كان قدرها أن يكون لها زوج واطفال، وهي على علم بذلك، وحتى انها خرجت وحضرت إليه دون أن تطلب المساعدة من أي شخص. فكانت سيدة قدرها. وكان واحدا من أكثر الكلام هدوءا، وحكمة الذي اسمعه ما قالته لبايرون بانش في خضم تلك اللحظات من صدها لمحاولاته اليائسة والبائسة للاغتصاب"، ألا تشعر بالخجل؟ ربما ستوقظ الطفل."لم تمر عليها أبدا لحظة واحدة مثل تلك كانت فيها مرتبكة، خائفة، ومذعورة. وهي لم تعرف حتى أنها لم تكن في حاجة الى الشفقة."
اما عائلة بيندرين في رواية (ارقد محتضرا) فقد تعاملت بشكل جيد مع قدرها. فالأب بعد أن خسر زوجته يحتاج بطبيعة الحال الى واحدة آخرى، وقد حصل على واحدة. ومنذ اللحظة الاولى فانه لم يستبدل فقط نوعية اكل العائلة، بل انه اقتنى جهاز حاكي(غرامافون) ليدخلو السرور عليهم وقت راحتهم.
الصحفي
ويقول السيد كاولي انك تجد صعوبة في خلق شخصيات حساسة وعاطفية تتراوح أعمارها بين العشرين والأربعين.
فوكنر
الناس بين العشرين والأربعين ليسوا حساسين وعطوفين. الطفل لديه القدرة على القيام بذلك ولكن لا يمكنه أن يعرف. فهو يعرف فقط عندما لا يعد بقدوره ان يفعل، بعد الأربعين. بين العشرين والأربعين إرادة الطفل تصبح أقوى وأكثر خطورة، ولكنها لم تبدأ تتعلم كيف تعرف حتى الآن. منذ ان تجبره قدرته على الفعل الى الذهاب إلى مسارب الشر من خلال البيئة والضغوط التي يتعرض لها، المرء يكون قويا قبل أن يكون صاحب أخلاق. من يسبب الألم في العالم هم اولئك الذين بين العشرين والأربعين من العمر. الناس في بلدي الذين سببوا كل تلك التوترات العرقية وعصابةالزنوج الذين اختطفوا امرأة بيضاء واغتصبوها انتقاما، هتلر،و نابليون،ولينين -كل هولاء الناس كانوارموز المعاناة الإنسانية والحزن، وجميعهم كانوا بين العشرين والأربعين من العمر.
الصحفي
لقد ادليت بتصريح صحفي في ذلك الوقت عن الحادثةالعنصرية لمقتل ايميت تل. هل هناك أي شيء لديك لتضيفه هنا؟
فوكنر
لا، فقط أكرر ما قلته من قبل: أنه إذا كنا نحن الأمريكيين بقينا على قيد الحياة فان ذلك عائد الى أننا اخترنا وانتخبنا ودافعنا على أن نكون أولا وقبل كل شيء أميركيين. أن نقدم إلى العالم صورة لنا كأمة متجانسة وموحدة، كعالم واحد، سواء كنا بيضا أو سوداً أو لوننا أرجواني أو أزرق أو أخضر. ربما الغرض من هذا الخطأ المؤلم والمأساوي الذي ارتكبه في ولايتي ميسيسيبي اثنين من البيض البالغين على طفلة زنجية هو لكي يثبت لنا اننا نستحق البقاء على قيد الحياة او لا. لأنه إذا كنا في أمريكا قد وصلنا إلى هذه النقطة في ثقافتنا البائسة حيث يجب قتل الأطفال، بسبب عرقهم او لونهم، فنحن لا نستحق البقاء على قيد الحياة، وربما سنقضي على انفسنا في المستقبل.
الصحفي
ماذا حدث لك في الفترة بين كتابتك رواية (راتب جندي) ورواية (سارتوريس)-وبعبارة اخرى، ما الذي جعلك تبدأ كتابة ملحمة يوكناباتاوفا؟
فوكنر
مع رواية(راتب جندي) اكتشفت ان الكتابة شيء ممتع. ولكن تبين لي بعد ذلك ليس فقط أن يكون لكل كتاب تصميم غلاف معين ولكن النتاج كله أو خلاصة عمل الفنان يجب ان يكون لها تصميم ايضا. مع رواية (راتب جندي)ورواية (البعوض) كتبت من أجل الكتابة لأنها كانت عملية ممتعة. ولكن بدءا من رواية (ساتوريس) اكتشفت أن هناك ما يستحق الكتابة عنه وانني لن اعيش طويلا لفترة كافية حتى استطيع تدوينه بشكل كامل، و من خلال التشذيب والتهذيب لما هو واقعي الى مصاف الخيالي، كنت املك الحرية الكاملة في استخدام كل ما يمكن ان املكه من موهبة الى قمتها المطلقة. لقد فتحت لي منجم ذهب زاخر بأشخاص آخرين، لذلك فقد خلقت عالما خاصا لي. أستطيع تحريك هؤلاء الناس مثل الآله، وليس فقط في المكان فحسب ولكن في الزمان أيضا. والحقيقة أنني قد انتقلت بشخصياتي في الزمان بشكل ناجح، على الأقل في تقديري، مما يثبت لي نظريتي الخاصة من ان الزمن هو حالة هلامية. لا يوجد شيء من قبيل (ما كان موجودا) الموجود فقط هو (ما يوجد الان). فإذا كان يوجد(ما كان موجودا)، فلن يكون هناك حزن أو أسى. أنا ارغب أن يكون العالم الذي خلقته نوعا من حجر الزاوية في الكون.، ولكن حجر الزاوية الصغير هذا، إذا ما حدث وان انتزع من الكون في أي وقت فان الكون نفسه سينهار. كتابي الأخير سوف يكون كتاب يوم القيامة، الكتاب الذهبي، من مقاطعة يوكنا باتاوفا. ثم سأقوم بكسر قلم الرصاص وسوف اتوقف عن الكتابة.