عبد الزهرة زكي.. واقف في الظلام...الكتابة بعين الوثيقة

عبد الزهرة زكي.. واقف في الظلام...الكتابة بعين الوثيقة

علي حسن الفواز
يضعنا كتاب (واقف في الظلام) للشاعر عبد الزهرة زكي والصادر عن دار المدى/ بغداد/ 2015أمام قراءات مفتوحة لمرحلة مهمة من تجربته الذاتية، تلك التي يشتبك بها نص السيرة، مع نص الرواية، مع نص الوثيقة.


هذا الثالوث يكشف عن مسؤولية الكاتب في قراءة هذه المرحلة،وتدوين يومياتها الفاجعة، مثلما يكشف عن مهارة إسلوبية في تجنيس توصيفها السردي، وفي ترسيم معالجاتها كنص تاريخي، أو كنص أدبي، والحفر في مستوياته اللغوية والنفسية، وفي إعادة سردنة الوثيقة بوصفها وجها آخر للمادة التاريخية التي إتكأ عليها الكاتب..
هذا الكتاب شهادة على المحنة الوطنية، وعلى إستبداد السلطة، وعلى رهاب العقل،، مثلما هو مدونة تسجيلية للكثير من حمولات منظومتها العميقة، تلك التي تمثل علاماتها الفارقة سجون القمع لمؤسسات الأمن والمخابرات، والتعرّف على المصائر الغائمة للإعتقال والتغييب والتعذيب والقمع، فضلا عن معرفة مظاهر العنف الرمزي والإندحار النفسي التي يعيشها السجناء، والتي تتبدى عبر قاموس لساني غامر بالكراهية والشتائم والتحقير والإخصاء، وعن سلوك سافر في التعنيف والتجاوز على حرمات الشخصية والجسد..
نص الشهادة/ السيرة هو(كتاب عن الآلام والأحلام) كما يقول العنوان الثانوي، والذي يكتبه مثقف عراقي- بطل هذه السيرة، وصاحب الكتاب- عن مدة إعتقاله في سجن الحاكمية في بغداد المثير للخوف والرعب، إذ هو السجن المخصص لإعتقال المتهمين بقضايا تهدد الأمن الوطني- من وجهة نظر السلطة- كالتخابر مع جهات خارجية، أوالخيانةوالتخريب الوطني الإقتصادي والسياسي، إذ كثيرا ماتكون مصائر(المحبوسين) في هذا السجن غامضة..
يستهل الكاتب نصه بعتبة تفضي للتعريف بعلاقة مصير الكاتب في سيرته مع مصائر آخرين كانوا مثله ضحايا للإستبداد والعنف السلطوي، والتي يضعها في سياق تداعيات ما آل اليه الواقع العراقي جرّاء سياسات الإستبداد والديكتاتورية، سلسلة الصراعات الطويلة والتي أدت الى تضخم السلطة، والى إفتعال المزيد من العنف والقسوة مع الناس بدءا من الإعتقالات العشوائية، وإنتهاء باصطناع الحروب الخارجية والداخلية، تلك التي قادت الى تشويه صورة الدولة وتمزيق المجتمع، والى تخريب قيم الحياة الآمنة والشعور الوطني والى نشوء الثقافات والقوى العشوائية والإستبدادوالإحتقان الطائفي، والذي تبدت مظاهر رعبه بشكل خطير بعد إحتلال العراق عام 2003..
يوميات السجن بكل ماتحمله من تفاصيل ورعب وإندحار تحولت الى نص للشهادة من جانب، والى نص للرؤيا من جانب آخر، إذ يتصل تسجيلها بواقعية الأحداث، وبكشوفات أرادها الكاتب أن تكون جوهر رؤيته وهو(واقف في الظلام)يترصد ويحدس ويرى إنهيار العالم والإنسان من حوله، ويتحسس رعب السلطة وتصغير قيمته المعنوية، تلك التي أُفقدته أسمه، وتاريخه، وتفاصيله وإطمئنانه، إذ تلبست شفراتها/ أدواتها الكثير من الأقنعة لتوحي بقوتها الغاشمة في الطرد والإخضاع والإذلال، ولتكون مصدرا مريبا للرعب العدمي، مثلما وضعته في سياق لعبة توصيفية يمارسها رجال بأقنعة متعددة، يشبهون تلك السلطة تماما في رعبهم وصلفهم وغلظتهم(كان أحدهم جافا تختلط سمرة وجهه بقسوة وغلظة وكراهية لم أشعر أنها ضدي وحدي، وإنما ضد العالم كله كما بدت لي) ص46..

وثيقة الحدث وسردية القص..
بقدر قصدية الكتاب في فضح طبيعة السجن السياسي، وكشف رعب السلطة، فإن الكتاب يتمثل أيضا لكشف هواجس الإنسان/ الأضحية، ورهابات الخوف والتدمير الداخلي الذي يعيشه، والذي يضع وثيقة حادثة السجن أمام نصيات(المسكوت عنه) ومفارقة القص كوظيفة تأليفية أو توثيقية، والتي تتطلب من الكاتب جهدا إستثنائيا لكشف ماهو عميق في هذا الحدث، ولكشف طبيعة الحيوات التي شاطرها الكاتب يوميات سجن الحاكمية- الحارس، حميد، إبراهيم، قاضي المخابرات، مدير السجن، وائل، خميس، أبو تحسين، محمد، الحاج حسين، فتحي المصري، المرأة المسيحية وغيرهم- جزء من بنية الوثيقة، مقابل ما إستعاده عين الكاتب لحيوات أخرى خارج السجن، والتي تمثل الوجه الآخر للحياة المضادة- رعد عبد القادر، قاسم محمد عباس، سهيل سامي نادر، أصدقاء الجريدة، أصدقاء مقهى الجماهير، الزوجة أم حيدر، الوالد، الوالدة وغيرهم كجزء من البنية السردية..
هذا التقابل بين البنية الوثائقية والبنية السردية هو ما أعطى للكتاب أهمية إستثنائية في الكشف عن معاناة جيل من المثقفين العراقيين، عاشوا رعب السلطة، ورعب الحرب، ورعب الدكتاتور ورجاله، ورعب الرقابة، وفي تأصيل عميق لسرديات السجن في القص العراقي..

رواية تسجيلية...
هل يمكن أن هذا الكتاب رواية تسجيلية؟
هذا التوصيف قد يكون مثيرا للإختلاف، لكن مستويات تركيبها الواقعي والسردي توحي بالكثير من الجاهزية التسجيلية، لاسيما وأن الكتاب ينتمي في مبناه الفني الى فضاء سردي تتشظى فيه الوقائع عن أفكار وترجيعاتتوظفها عين الكاميرا، إذ تستدعي عبر المونتاج أحداثا عاش يومياتها الكاتب، أو إستدعاها بوصفها سينوغرافيا للحدث الرئيسي، فضلا عن إن الكتاب توافر على تعالق آخر بين الزمن الواقعي، مع الزمن السردي،والذي يمكن أن يتخيل وجوده الكاتب داخل زنزانته الإنفرادية بعد أن يتم تغييب الإحساس بالزمن الواقعي مقابل إستعادة الزمن السردي(تم إحكام الزنزانة من أي نفاذ للضوء وللهواء، والإكتفاء بذلك المصباح الصغير وبتهوية مركزية معتدلة وثابتة عند درجة معينة محايدة، وسأفهم بعد فترة أنها كان يراد بها عزل الموقوف عن نظام الفصول وتغيرات المناخ في خارج محيط الزنزانة، فلا يعود السجين يعرف ما إذا كان في الشتاء أم في الصيف) ص28-29
المبني السردي في هذه السيرة/ الحدث يضعنا أمام قراءةلماهو مضمر في الوقائع التي يسجلها الكاتب، تلك التي تستجلب تداعياتها حادثة إعتقاله بسبب تسلمه رسالة من صديق قديم أُتهم بالخيانة الوطنية والتمرد على الدولة، إذ تتفجر عبر الحادثةأنساق مضمرة لمحنة المثقف، ولمحنة الهوية/ الأسم، ولتخيلات تضفي على هذا الواقع القلق الكثير من توصيفاتها السردية، لكنها تتجاوز عموميته الى مايمكن تسميته ب(السرد الشخصي) أو تسجيل أفكار الكاتب وتخيلاته وأحلامه ومخاوفه حول الرسالة، وحوله صياغته للمعلومات التي يريدها ضباط التحقيق، بوصفه نوعا من السردالمضادلماهو واقعي في يوميات السجن، أو لماهو نمطي في تتبع يوميات مكررة لسجين سياسي. هذا السرد الشخصي يتبلس عين الكاميرا وهو يرصد أدق التفاصيل النفسية والسلوكية والمواقف والخذلانات التي عاشتها حيوات السجن في الزنزانة وطبيعة عوالمهم الغرائبية والمفارِقة، فضلا عن سردية وصفه لجلسات إخضاعه للإستجوابات المتعددة من قِبل ضباط التحقيق، وكذلك من قاضي الحاكمية ذات الشخصية الكاريكيرتية(كان يتكلم معي بلهجته المحلية التي أراد معها تأكيد سلطته، كما فهمت ذلك، وحين كان يقرأ نصا قانونيا كانت لغته تتعثر، ليس بسوء تلفظ وصرف الكلمات، وإنما أيضا بجهل مطلق بمبادىء النحو)ص271
في هذا الكتاب الكثير من السرد والكثير من التسجيل، وبما يجعلنا اكثر إقترابا في تجنيسه ضمن سرديات التسجيل، تلك التي يتعالق فيها الحدث والوثيقة مع عين الكاتب السينمائية وهي تلاحق ماخفي من الحدث، ومايمكن ان يمنح الإجناس السردي توصيفا مضافا لعوالم الكاتب ويوميات زنزاناته...