اول فنجان على حساب صاحب المقهى

اول فنجان على حساب صاحب المقهى

.. وعاد احمد زين الى دمشق.. ورأى مظاهر المعركة في مجتمع عاصمة الامويين.. المعركة بين تقاليد الشيخ عبد الحكيم، وتحرر كولبيت حفيدة فارس الخوري!!
هنا.. في هذه المدينة الصغيرة التي يعرفها اهل مصر باسم دمشق.. ويطلق عليها شعوب سوريا ولبنان والعراق والاردن كلمة"الشام"سجلت الكتب السماوية اكثر من قصة ضخمة قابيل قتل هابيل هنا.. وابراهيم عليه السلام ولد في هذه البقعة المقدسة والربوة الخالدة التي اوى اليها عيسى وامه ما زالت قائمة في مكانها من المدينة الصغيرة حتى الان..

وقصص واحداث وحضارات عجيبة لم تشر اليها الكتب المقدسة.. ولكن رجلا عجوزاً، يطلقون عليه اسم التاريخ هو الذي سجلها.. وذكر تفاصيلها على مر الزمن.
وبقيت دمشق الهادئة.. المليئة بالمآذن الشامخة.. تضم في كل ركن منها اثرا هاما يحدثك عن واقعة هامة او قصة مثيرة..
ولكن دمشق الحديثة لا تتحدث عن التاريخ.. انها مشغولة الان بصراع خطير ينشب لاول مرة بين الحضارة العربية التي اخذت تزحف بسرعة وقوة نحو المدينة وبين التقاليد الشرقية الصميمة التي مازالت عاصمة القطر الشقيق.. حريصة على التمسك بها..
السيرك والفتيات
والمعركة الناشبة لها كل يوم قصة جديدة في دمشق.. حدث اخيرا ان فكرت وزارة المعارف السورية في ان تقتدي طالباتها في المدارس الابتدائية بالطالبات في البلاد التي غزتها حضارة العرب.. فيرتدون"مرايل"قصيرة تصل الى الركبة فقط.. وطلبت تنفيذ ذلك في جميع مدارسها.. وقامت قيامة رجال الدين في دمشق.. واعتبروا هذا خروجاً كبيرا على الدين وتقاليد الشرق.. واضطر الرأي العام امام نفوذ رجال الدين ان يتقهقر، ولبست الطالبات الصغيرات البنطلون تحت المريلة ليخفي سيقانهن حتى القدم..
وحادثة اخرى في المعركة الرهيبة جرت منذ عدة شهور.. لقد جاء سيرك اجنبي ليقدم ألعابه في العاصمة السورية.. واقبل مع السيرك طبعا فتيات اوروبا ليقدمن ألعابهن.. وليس عليهن من الثياب غير"مايوه"يشبه ورقة التوت المشهورة.. ومرة اخرى خرج رجال الدين يصرخون بمنع هؤلاء الفتيات اللاتي يثرن الفتنة من تقديم ألعابهن امام الشباب بالمايوهات المثيرة..
وتطورت المعركة الخطيرة.. وامتدت اطرافها.. واشتبك الجيل الجديد بالجيل القديم.. فالجيل الجديد يصر على ان يتخلص من الحجاب، والاخذ بتعاليم الغرب وادخالها مرة واحدة الى المدينة الهادئة المحافظة.. اما الجيل القديم.. فيقف في وجهه.. ويصر على التمسك بحرفية تعاليم الاسلام.. خصوصا ما يتعلق بالحجاب..
وحتى الآن.. مازالت كلمة الجيل القديم هي الراجحة.
الكرم العربي
ولقد فطنت حكومة سوريا الى ان عادات العرب وتقاليدهم قد اخذت تندثر ببطء من دمشق.. فرأت ان تعجل بانشاء متحف في احد القصور القديمة يضم لوحات مجسمة تمثل حياة العرب وعاداتهم التي بدأت تتلاشى بالتدريج.. حتى تحفظ للسياح الذين يقدمون الى دمشق بحثاً وراء سحر الشرق.... وحفظ الشعب تراثا آخر من تقاليد الشرق العتيد هو الكرم الشرقي.. ففي كل مقهى تدخله في دمشق يقدم لك اول ما تجلس فنجانا من القهوة على حساب صاحب المقهى ترحيبا بك كضيف.. ويأتيك الجرسون بابريق لامع مملوء بالقهوة وبداخله تجويف خاص يوضع فيه الفحم لتظل القهوة ساخنة مدة طويلة.. ويمر الرجل على زبائن المقهى مرة واثنتين وثلاث مرات احيانا.. ليسقي الجميع قهوة الضيافة العربية.
آلهة الصاعقة
واحداث الحياة في دمشق كثيرة الشبه بالصواعق.. ان كل شيء معنا يحدث فجأة بلا مقدمات وينتهي فجأة ايضا دون ان يعرف احد كيف بدأ وكيف انتهى.. بسرعة خاطفة دائماً في البداية وفي النهاية.. يأتي حسني الزعيم فينقل المرأة السورية من الحجاب الى المساواة التامة فجأة.. ويذهب حسني الزعيم فتعود المرأة السورية فجأة ايضا الى الحجاب.. يحدث شيء.. اي شيء فتنقلب الدنيا فجأة.. ثم تنتهي فجأة ايضاً.. ولعل ذلك راجع الى ما كان لدمشق في عهدها القديم من مكانة ترجع الى وجود الهيكل المقدس حيث كان يعبد الاله السوري الكبير عدد من آلهة الصاعقة.
المسجد الأقصى
وتبحث في العاصمة السورية عن شيء بعيد عن المعركة الناشبة وعن الصواعق والمفاجآت.. تبحث عن شيء هادئ فتجد الاثار التي تركها التاريخ في اجزاء كثيرة من دمشق.. هناك السور الذي كان يحيط بدمشق القديمة.. فاصبحت هي التي تحيط به الان.. وهناك المسجد الاقصى الذي شهد مجد الامويين، والمسجد الاقصى الان قد تهدمت معظم اجزائه وزال عنه مجد بني امية..
وان كانت اصابع مهندسي سوريا تحاول الان ان تعيد اليه مجده الغابر من جديد بابرازه على صفحة وجه المسجد العتيد..
وفي المسجد العتيق تقابل دائما الشيخ عبد الحكيم منير امام المسجد الاموي بلحيته السوداء الطويلة ووجهه الصارم..
وبصمت الشيخ عبد الحكيم.. وتشعر بأن صمته يروي قصة مؤثرة.. انها قصة رجل عاش ودرس واحب وكرس حياته للدين باخلاص عميق.. لقد طغى اخلاصه على حياته.. وعلى واقعيته وخياله.. وعلى كل شيء يحس ويشعر به، فحوله الى ناسك بلغ من زهده انه ألقى وراء ظهره بكل نعم الدنيا.. ومتاعها..

حيدث عن القرآن
ولكن الشيخ عبد الحكيم ليس الناسك الوحيد في المسجد الاموي.. بل ان المسجد به عدد كبير من كرسوا انفسهم للعبادة واعتكفوا في ناحية من صحن المسجد الكبير يقرأون القرآن في صمت وخشوع فجيب من مصاحف اثرية وصمت على حوامل واطئة.. وبعض هؤلاء النساك يعيش في الجبل بعيدا عن الناس وعن الحياة..
ولقد رأيت في احد اركان المسجد احد هؤلاء النساك الذين يعيشون في الجبل، يبدو على وجهه الناصع وهو يتلو القرآن، اصدق تعبير واخلصه عن سعادة غريبة ورضا تام.. وكانت ملابسه الفضفاضة البسيطة تلتف حول جسمه الناحل كأنما لتحميه من ان يتلاشى من الوجود.. وتقدمت اليه لالتقط له صورة فرفض.. فسألته:
- هل ترفض اي صلة لك بالحياة..؟! هل ترفض الصورة لانها تصلك بما قررت ان تتركه..
قال: لا.. انني ارفض الصورة لانني اقرأ القرآن.. وانت ستضع صورتي في مجلة تتداول مدة ثم تهمل بعد ذلك.. وقد تقع هذه الصورة التي تصور المصحف معي على الارض فيدوسها عابر سبيل.. وانا لا ارضى ان اكون سببا في ان يدوس صورة القرآن عابر سبيل.. ولذلك فانني ارفض التصوير.!!
كولبيت أثارت ضجة
وتخرج من المسجد الاقصى لتمشي في شوارع دمشق الضيقة القديمة التي ما زالت تحتفظ بالطابع الشرقي العريق.. وتشاهد الاسواق القديمة المغطاة بالسقوف ذات الفتحات الصغيرة التي تسمح لشعاع ضئيل من الشمس ان يملأ طرقاتها بشكل هندسي بديع.. ثم تخرج الى دمشق الحديثة.. لتلتقي بالغرب.. ولتلتقي بالقصص التي بدأت تتحدى بجرأة تقاليد الشرق.. وآخر قصة اثارت ضجة في هذه المدينة العجيبة هي قصة زواج كولبيت خوري حفيدة السيد فارس الخوري من موسيقار التقت به في القاهرة..
***
وبعد.. ان دمشق الحائرة بين الشرق والغرب بدأت تسأم المعركة الكبيرة الناشبة فيها.. وبدأت تستسلم بالتدريج الى تقاليد الغرب التي تزحف بقوة على عاصمة الشرق المحافظة..
أحمد زين

الجــــيل/حزيران- 1955