من اللغات القديمة الى الموسيقى.. علي الشوك يتحدث لـ(المدى): الرواية هي التي تستهويني !

من اللغات القديمة الى الموسيقى.. علي الشوك يتحدث لـ(المدى): الرواية هي التي تستهويني !

حوار / د. جمانة القروي
يعد علي الشوك واحدا من ابرز الباحثين في قضايا التراث،و الموسيقى واللغات القديمة والأدب،ومتخصص في علم الرياضيات " اكاديميا".. وهو أحد أولئك الذين رحلوا عن العراق منذ اكثر من ثلاثة عقود إلا أن الوطن لم يغادر ذاكرتهم يوما..و مازالت بصمات دجلة، وافياء النخيل، ومرأبع بغداد واضحة المعالم عليهم..لقد عكس الأستاذ علي الشوك حبه ولهفته لبغداد في روايته " الأوبرا والكلب " عندما ذكر كل تفاصيل بغداد من شوارع، ومقاهٍ، ومخازن واكلات و أسماء لشخصيات بغدادية أصيلة..

في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي ولد الأستاذ على الشوك في بغداد في منطقة كرادة مريم بجانب الكرخ حيث قضى فيها معظم سنوات طفولته وشبابه،عاش طفولة مريحة وليست سعيدة " كما يحلو له التعبير "،كان موضع حب واعتزاز عائلته وأقاربه، ربما لأنه كان من المجدين والنابهين في المدرسة.اكمل دراسته الابتدائية في مدرستي كرادة مريم والمنصور، ثم انتقل مع عائلته إلى كر بلاء،إلا انهم سرعان ما عادوا إلى بغداد بعد عام واحد فقط، ليكمل دراسته في مدرسة الرصافة.. ثم واصل دراسته الثانوية في "الإعدادية المركزية ".. يتذكر الأستاذ علي الشوك وصوته يكتسي مسحة من الحزن قائلا:
"لقد حاول أبي مرارا حرماني من الذهاب إلى المدرسة، وذلك بتأثير أو ضغط من أصدقائه في الجامع اولئك الذين كانوا يعتبرون أن المدرسة تعلم الكفر.. لكن والدتي كانت تحميني وتوفر لي مصاريف ونفقات الدراسة والظروف الملائمة لها أيضا بالإضافة إلى تشجيعها المستمر..ولها وحدها يعود الفضل فيما وصلت إليه الآن "..
في عام 1947 حصل الأستاذ علي الشوك على بعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة هناك..عن هذه المرحلة يقول " لقد كنت ضمن 150 طالب بعثة دراسية
إلى أمريكا، وقد سافرنا إلى بيروت أولا للدراسة لمدة سنتين في الجامعة الأمريكية، وبعدها تم إرسالنا إلى أمريكا، لإكمال الدراسة هناك..كان من المفروض أن ادرس الهندسة المعمارية، إلا أني وجدت نفسي لا أستطيع دراسة موضوع كهذا، لذلك غيرت دراستي إلى الرياضيات.. ثم عدت إلى العراق لأعمل في مهنة تدريس مادة الرياضيات لأكثر من 20 عاما "..

*ولكن أين التراث من الرياضيات...؟
- لاحت على وجهه الذي يطفح بالطيبة والتواضع.. ابتسامة، قبل أن يقول :" هذا صحيح.. ولكني شغفت بمطالعة التراث والتاريخ والفلك و أصول اللغات منذ سنوات صباي وشبابي.. وقد كانت لي اهتمامات لغوية وقراءات كثيرة وواسعة و اهتمامات ثقافية متعددة بالرغم من أنى حصلت على اقل درجة في امتحان اللغة العربية في الثانوية.. إلا أن هذا لم يمنعني من الكتابة نتيجة لفيض المعلومات التي خزنتها في ذاكرتي ثم وجدت نفسي أدون واكتب هذه المعلومات.".

* هل أخبرتنا متى وبالتحديد بدأت الكتابة والنشر؟؟
-"دعينا عن محاولاتي وتجاربي الأولى فقد كان البعض منها اقرب إلى الشعر، وبغض النظر أن بعضها وجد طريقه للنشر.. إلا أن الأعمال الجادة نسبيا كانت في أواخر الخمسينيات، وكان ذلك نتيجة حتمية لقراءاتي التراثية الكثيرة مثل كتاب الأغاني، والعقد الفريد وغيرهما.. ما بين عامي 1952-1953 بدأت بالنشر.. لكن في عام 1958 وبعد صدور كتاب " وعاظ السلاطين " للدكتور علي الوردي.. أثار لدَي نوعاً من الرغبة في الكتابة عنه لأني وجدت فيه أشياء إيجابية وأخرى سلبية وقد نشرت ثلاث حلقات في جريدة الحرية،عن هذا الموضوع وهو برأيي أول عمل جاد لي، "..
كنت أحاول حثه على مواصلة الحديث لذلك قلت له..وبعد ذلك،.. فأجاب: في عام 1959 وبعد ثورة 14 تموز صدرت " مجلة المثقف " حيث كنت أحد أعضاء تحريرها والناشطين فيها، فالكثير من مقالاتي كانت تنشر فيها، إلا أني لم اقتصر على النشر فيها فحسب وإنما نشر لي العديد من الكتابات في صحف أخرى..

* أذن متى صدر أول كتاب لك، وما قصته ؟
اخذ نفسا عميقا وهو يفرك جبينه متذكرا..."
- أنا بالحقيقة كنت قد كتبت انطباعات ومقالات وخواطر، ولم يكن وارداً في ذهني تأليف كتاب..إلا أن موضوع "الدادائية" استرعى انتباهي، ولم اكن اعرف عنها شيئا، لذلك لم اترك كتاباً أو كراساً يخص هذا الموضوع إلا و قرأته.. وبذلك فاضت المعلومات عندي فوجدت أنه لابد من كتابة كتاب عن هذا الموضوع، وكان أول كتاب صدر لي باسم " الدادائية بين الأمس واليوم " عام 1970 في بيروت.. ربما هناك من لا يعرف ما هي الدادائية، ولماذا بالتحديد بين الأمس واليوم ؟.. "الدادائية،مذهب فني يدعو إلى الفوضوية وإلغاء الفن.. وقد جاءت كرد فعل من الحرب العالمية الأولى وما حدث فيها من مجازر وسفك للدماء،.. أما لماذا بين الأمس واليوم، فبحكم قراءاتي التراثية العربية، كنت اقف عند الكثير من الأشياء الغريبة في تراثنا العربي بما يرقى إلى السريالية والدادائية أو الفوضوية، فربطت بينها وبين ما ظهر لاحقا، كما وجدت أن لبعض الشعراء العرب تصرفات لا تختلف عن تصرفات الفوضويين الدادائيين في القرن العشرين "...
مما يميز الأستاذ علي الشوك.. قدرته على قراءة العديد من الكتب في آن واحد وفي مختلف المواضيع ربما تتجاوز أحيانا سبعة إلى ثمانية كتب.. كذلك باستطاعته كتابة ثلاثة إلى أربعة مواضيع مرة واحدة..حيث يقوم بكتابة موضوع إلى نصفه، وموضوع آخر يبدأ بمقدمته أو هوامشه، ونجد موضوعا ربما في نهايته إلا انه لم يكتمل بعد.. لذلك فانه في أثناء، أو وقت صدور كتابه " الدادائية بين الأمس واليوم" كان يعمل على كتابه " الأطروحة الفنتازية ".. عن هذا الكتاب الفريد من نوعه وفكرته يحدثنا قائلا: " هذا الكتاب يسجل علاقتي بالرياضيات من جهة ومن جهة أخرى يسجل محاولاتي لقراءة مظاهر الحياة المختلفة بلغة المعادلات الرياضية.. فالأطروحة الفنتازية هي عبارة عن صور، ومعادلات، وكلام ".. حتى البعيدين عن المعادلات الرياضية جعلهم يتابعون قراءة الكتاب وذلك لما ينطوي عليه الكتاب من روح النكتة.. أما قصة هذا الكتاب فيقول الأستاذ على الشوك "في بداية السبعينيات من القرن الماضي خطر لي كتابة قصيدة حلزونية، كان من المفروض أن تنشر في مجلة "أقلام " أو "ألف باء " في الصفحة الوسطى، ولا اعرف هل فعلا نشرت أم لا؟ ولكن المهم في الأمر هو أني فكرت بتوسيعها وتطويرها ونشرها في كتاب.. لقد صدر كتاب الأطروحة الفنتازية بعد صدور كتاب الدادائية رغم انهما كتبا في الوقت نفسه،ولظروف عديدة لم يتم طبعهما معا، لقد تولت وزارة الثقافة والاعلام طبعه ليرى النور عام 1971 ...يستطرد متذكرا.. لقد صدر لي أيضا كتيب بعنوان " الموسيقى الإلكترونية "وقد صدر عن الموسوعة الصغيرة من وزارة الثقافة والاعلام وهو آخر ما طبع لي في العراق وكان ذلك عام 1978..

* نجد انك تناولت في العديد مما كتبت، اللغات وأصولها فما هي الحكاية ؟
اخذ ينظر إلى الأفق البعيد متذكرا.. وهو مازال يشبك يديه، وليعود بذاكرته إلى سنوات ماضية..
- في عام 1976 بدأ اهتمامي بما يسمى " علم اشتقاق الكلمات " حيث جذبني واستدرجني هذا الموضوع، وقبلها أثناء وجودي في بيروت كان للدكتور" أنيس فريحه " قد بذر عندي الرغبة للرجوع إلى جذور المفردات.. ولاحقا وفي مجمل قراءاتي وقع في يدي كتاب اسمه "مغامرات لغوية "، لكاتب عراقي اسمه عبد الحق فاضل.. يزعم فيه أن اللغة العربية هي اصل جميع اللغات وله نظريته الخاصة في ذلك دون أن تكون مبنية على حد أدنى من أصول البحث العلمي، كان النفس القومي فيه مسيطر عليه، لذلك استفز فيَ روح التصدي.. فقرأت وقرأت لأجد واكتشف أن اللغة العربية ليست هي الأم وإنما بنت اللغة السامية، وحتى هذه ليست أساسية وإنما هي جزء من اللغات السامية الحامية، وضمن ما قرأت كتاب لويس عوض "فقه اللغة "، وفيه يعتبر اللغة العربية بنت اللغة الهندية الأوربية، أو هي تابعة للغات الهندية الأوربية..وتملكني شعور التوسع والتوغل اكثر في هذا الموضوع لكي استوفيه تماما ومن مصادر مختلفة...
اخذ نفسا عميقا واستكمل قائلا : " عملت بحثا حول العلاقة بين الجذور اللغوية، اللغات الهندية الأوربية واللغات السامية الحامية، قدمته إلى وزارة الثقافة والأعلام لطبعه، إلا انهم رفضوا ذلك لأنهم اختلفوا معي في تسمية اللغات.. تزامن رفض طبع هذا البحث مع تفاقم الأوضاع السياسية في العراق...
في عام 1979 غادر الأستاذ علي الشوك العراق مرغما بعد أن حاول البعثيون شد الخناق عليه للانتماء لحزبهم، ورفض بشدة الانتساب إلى ما يسمى" بمكتب المعلمين البعثي" وانتقل من مدرسة إلى أخرى رافضا العديد من قرارات النقل، ولما لم يُجد ذلك نفعا، ولأنه كان أمينا على مبادئه وأفكاره اضطر لترك عائلته وكل ذكرياته ورحل إلى براغ التي كانت محطة ترحاله الأولى وليمكث فيها عامين...لكنه ما لبث أن شد رحاله من جديد إلى المجر عندما حصل على عمل في منظمة التحرير الفلسطينية استمر فيه إلى عام 1995. عن هذه السنوات يقول " كانت حياتي ضيقة جدا ومحدودة المجالات، ولكن " من جد وجد " لذلك لم أتوقف يوما عن متابعة وقراءة ما كنت أريده، والحصول على المصادر التي كانت تهمني.. لم أتقن اللغة المجرية على الرغم من أني ابحث في اللغات وأصولها -وهنا يضحك ثم يكمل كلامه- إلا أني محدود الموهبة في تعلم اللغات الأخرى"...

* نستطيع أن نقول أن أهم ومعظم ما كتبت كان في لندن، فهل حدثتنا عن هذه المرحلة ؟
- " عندما جئت إلى لندن في عام 1995 تفتحت لي آفاق واسعة ورحبة، واصبح لديَِ مجال للاطلاع على المصادر التي كانت تهمني قراءتها..لقد انصب اهتمامي على موضوع العلاقات اللغوية العالمية.. كانت تلك المخطوطة عن اللغات التي لم اتخلَ
عنها والتي حاولت أن انشر بعضا منها في بغداد في منتصف السبعينيات.. ومع توفر أول فرصة لذلك،نفضت الغبار عنها تماما لتكون أشبه بنواة بحوثي الأخرى في مجال اللغة. فبين أعوام 1996 – 2000 ظهرت لي ثلاثة كتب تتحدث عن اللغات.. الأول باسم "ملامح من التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب"..ثم "جولة في أقاليم اللغة والأسطورة " وبعد ذلك "كيمياء الكلمات".. حيث تطرقت إلى مواضيع الميثولوجيا اليونانية والسومرية والبابلية القديمة والربط بينها، وفي نفس الوقت تم تعزيزها ببعض الاستطرادات اللغوية، ومن خلال ذلك اصبح لديَ نوع من البحث الذي يعتمد اللغة كعامل مهم في إثبات بعض الحقائق التاريخية.."
في أثناء ذلك وفي غضونه لم تنقطع متابعات الأستاذ علي الشوك الأدبية والموسيقية، حيث نشرت له العديد من المقالات النقدية والخواطر في مجلة المدى، وجريدة الحياة، واهم ما نشر له كان في مجلة الكرمل بين 10- 15 مقالة.. أما عن كتاب الثورة العلمية الحديثة وما بعدها فيقول " لأني أساسا رجل علمي، لم أتوقف عن متابعة المستجدات العلمية خصوصا في مجال الفيزياء وعلم الفلك فكنت اقف على معلومات وأشياء غريبة، لذلك وجدت أنه لابد من صدور كتاب بهذا الشأن، وفعلا كان " الثورة العلمية وما بعدها..في 2004 "، وهو بمثابة تمهيد لكتاب آخر قيد الإنجاز، كتب ونشر العديد من فصوله عن مأزق العلم في الوقت الحاضر ولاسيما الفيزياء والفلك..

* سألته عن روايته "الأوبرا والكلب " التي نشرت عام1999 وكيف خاض هذه التجربة ؟
-" أنا قارئ متعدد الاهتمامات، والرواية من بين اكثر المواضيع التي تستهويني، واجد متعة كبيرة في قراءتها، وولعي بالموسيقى لا يقل عن ولعي بالرواية أن لم يفقه، ولعل كتابة " الأوبرا والكلب " جاءت للجمع بين هاتين الرغبتين وان أحيا في عالمي الرواية والموسيقى في آن معا.. "
في عام 2003 صدر للأستاذ علي الشوك كتاب بعنوان "أسرار الموسيقى " ويعتبر أحد أهم ما كتب عن الموسيقى لما يحويه من معلومات قيمة عن أصول الموسيقى العربية والآلتها،كذلك أصول الموسيقى الغربية والآلتها، ويتضمن أيضا شرحاً لتكوين الآلات الموسيقية وتطورها على مر العصور، بالإضافة إلى شرح اللغة الموسيقية...

* ماذا تكتب الآن، وماذا نقرأ لك عن قريب ؟
- لقد بدأت بكتابة مشروع روايتي الثانية منذ اكثر من نصف عام، كمحاولة للهروب من كابوس الكآبة والأوضاع العراقية الكالحة في آفاقها.. كما اكتب أيضا في مواضيع أخرى مختلفة تتراوح بين الفيزياء والموسيقى والفلك، وكل ما يخطر لي على البال..."
حينما أيقنت أن الأستاذ علي الشوك تعب من الحديث الذي شارف على الانتهاء، ورغم ذلك كان لابد من سؤاله، هل أنت نادم على شئ ما في حياتك ؟ تتمنى لو تستطيع تحقيقه ؟ هنا لاح الأسى على وجهه الذي تركت السنوات أثرها عليه..
"أنا نادم لأني لم ادرس الموسيقى وعلم الفلك.. كان بوسعي ممارسة العزف على البيانو، الآلة التي اعشقها، رغم أني لا املك أذناً موسيقية، لكن ذلك لا يحول دون تعلم العزف، وقد حاولت وتوقفت لأسباب لا علاقة لها بالفشل.. كنت أريد أن أتمكن من العزف وحتى ارتجال الموسيقى، لأجل متعتي الذاتية، وليس لغرض آخر.. فأنا اعتقد " مثل الملكة اليزابيث الأولى " أن العزف على الموسيقى يساعد في طرد الكآبة.! "

سبق لهذا الحوار نشر في صحيفة المدى