توماس مان والدكتور فاوستوس

توماس مان والدكتور فاوستوس

تحكي هذه الرواية عن التاريخ الألماني المعاصر حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، وأبطال الرواية مهمومون وقلقون دائما وبعضهم مستعد للتحالف مع الشيطان من أجل تحقيق أهدافه. فليس هناك اختلاف بين فاوستوس وأدولف هتلر، فكلاهما تعاقد مع إبليس وكلاهما يحمل جنونه الداخلي كي يصبه على العالم من حوله،"أريد أن أؤكد، بكل اليقين،

أنني حين أقدم لهذه الأخبار عن حياة الراحل أدريان ليفركون، أي لهذه السيرة الأولى، والتمهيدية إلى حد بعيد، بلا ريب، لرجل غال عزيز وموسيقي عبقري، ابتلاه القدر بمحن رهيبة، وارتقى به ثم أطاح به، ببعض الكلمات عني أنا، وعن سؤوني، فإن ذلك لا يحدث بحال من الأحوال بسبب رغبة مني في إحلال شخصي في مكان الصدارة، وإنما يحملني على ذلك افتراضي أن القارئ (قارئ المستقبل)، إذ لم يلح بعد ذلك أدنى أمل في أن يرى كتابي نور العلانية إلا أن يتمكن بمعجزة ما، من مغادرة معقلنا الأوربي الذي تحدق به الأخطار، وإيصال شيء عن أسرار عزلتنا إلى الناس في الخارج، وأرجو مرة أخرى أن يسمح لي أن أضيف قائلا إنني لا أقدم لهذه الأخبار ببعض الملاحظات اليسيرة حول شخصي، إلا لأنني أدخل في حسباني أن المرء قد يرغب في الإطلاع العابر على سيرة الكاتب، وذلك لا يخلو، بالطبع من توقع أن تثور الشكوك لدى القارئ، من جراء ذلك على وجه الخصوص، فيتساءل أتراه يجد نفسه بين يدي الرجل المناسب لذلك، وأعني بذلك، هل يمكن أن أكون، من حيث مجمل حياتي، الرجل المناسب لمهمة ربما كان قلبي هو الذي يشدني إليها أكثر مما تفعل أية آصرة جوهرية تبرر ذلك.. هيا, تابعوا هذا, أنتم جميعاً، أنتم ليس لديكم فهم, يا أهل المدن, وهذا يحتاج إلى فهم هنا, لقد تحدث كثيرا عن الرحمة الأبدية ,هذا الرجل المسكين, وأنا لا أعرف هل يجدي هذا, ولكن الفهم الإنساني حقاً ينفع في كل شيء, صدقوني"
كانت دكتور فاوستوس آخر الأعمال الكبرى التي كتبها توماس مان في حياته، وهو الذي لم يكتب من بعدها حتى رحيله في عام 1955 سوى عملين، أولهما ثانوي الأهمية هو «المختار»، والثاني «اعترافات فارس الصناعة فليكس كرول» التي لم تكن أكثر من إعادة كتابة بإسهاب لقصة قصيرة كان مان أصدرها في عام 1922. من هنا، تعتبر «دكتور فاوستوس"وصية توماس مان النهائية. وهي، في الحقيقة، تستحق هذه المكانة، بل تستحق اأن تفضّل حتى على «الجبل السحري"و «آل بودنبروك» وغيرهما من روايات مان الكبرى. وتقول لنا سيرة الكاتب إنه صاغها خلال ثلاثة أعوام ونصف العام، بين أواسط أيار (مايو) 1943 وبداية عام 1947... حتى وإن كانت لم تنشر إلا في عام 1949 مصحوبة بعودة توماس مان إلى ألمانيا، بعد سنوات من هزيمة هتلر وزوال النازية التي كانت أرغمته ومئات غيره من المبدعين الألمان على سلوك درب المنفى. ونذكر أن مان أصدر في العام نفسه نصاً عنوانه «يوميات دكتور فاوستوس"تحدث فيه بإسهاب عن ظروف تأليفه هذه الرواية الضخمة، مفسّراً لماذا اختار لها أن تروى من طريق شخصية صديق لبطلها، لم يعد تحت قلم مان مجرد وسيط يروي، بل صار صاحب شخصية موازية لها هي الأخرى حياتها وتقاطعاتها مع حياة الشخصية الرئيسة. وهذا الراوي هو، هنا، ليس فقط لكي يروي لنا أحداث حياة صديقه الموسيقي بطل الرواية، بل ليضعنا كذلك في مواجهة معادل للبطل، ما يحول حياة هذا الأخير إلى نوع من الأسطورة الرمزية، ويقترح أن هذا البطل الموسيقي قد يكون أيضاً، كناية عن ألمانيا نفسها، أو تعبيراً عن صورة ما لألمانيا.
والحقيقة أن الصورة المرسومة هنا لآدريان لوفركوهن، بطل الرواية، تشبه تماماً الصورة المتقلبة والمتناقضة التي كان في وسع توماس مان أن يرسمها لألمانيا في ذلك الحين. إذ على رغم تجذّر ألمانيته وانتماء عمله الكتابي ككل إلى تلك الألمانيا العريقة، التي من أعلامها هيغل ونيتشه وفاغنر، كان مان لا يكفّ عن إبداء اشمئزازه من كونه ألمانياً، بعد اندحار النازية. وعلى هذا النحو نرى موقفه في الرواية من بطلها آدريان، الذي يروي لنا سيرينوس حياته. وحياة آدريان هي حياة متقلبة تحركها الأحداث المتعاقبة، من دون أن يكون ثمة حدث درامي كبير: كأننا هنا أمام سيرة شخصية حقيقية، ترويها شخصية أخرى واقعة تحت تأثير من تروي عنها. وفي هذا المعنى يدور النصّ في مسريين حياتيين. مسرى حياة آدريان من جهة، ومسرى حياة سيرينوس من ناحية ثانية.
ولكن، من هو آدريان؟ إنه، وفق وصف توماس مان إياه «بطل من زماننا، شخصية تراجيدية، مأساة متنقلة وقوة الشر في عينها، وقد باتت تحمل آلام العصر وشروره». من هنا، لم يكن غريباً أن يقول مان دائماً إنه أحب آدريان أكثر من أي شخصية أخرى، حتى وإن ترك لأناه الآخر، الراوي، هامش تضاد مع آدريان. مهما يكن، معروف أن توماس مان استوحى السمات الأساسية لشخصية آدريان من شخصية نيتشه، ولا سيما من مراحل حياة صاحب «هكذا تكلم زرادشت»، حين كان مقيماً في كولونيا. إضافة إلى هذا، لا شك في أن توماس مان حين أبدع شخصية آدريان، حرص على أن يضيف إلى الجذر النيتشوي للشخصية، سمات مستقاة من شخصية الموسيقي شوينبرغ نفسه، تقنياً على الأقل... طالما أن المناخ الموسيقي الذي جعله مناخ حياة آدريان، لم يكن أكثر من سمة تقنية تغوص بنا في العصر، مع ترك جوهر الشخصية للبعد الفاوستي الأزلي، بعد العود الأبدي الذي هو تذكير آخر بنيتشه.
لقد أحب مان، وهذا واضح في الرواية، «شخصيتي آدريان وأولمر ببرودهما وبتجردهما» - وفق الناقدة الفرنسية نيكول شاردار - ولعل أكثر ما استهوى مان في آدريان هو «قلبه اليائس، وشعوره الدائم بأنه ملعون. ومهما فعل فسيظل ملعوناً». تماماً، هنا، وكأن مان يتحدث عن ألمانيا وعلاقته بها، بيد أن آدريان ليس وحده بطل الرواية. فهناك أيضاً، الشر، هناك الدكتور فاوستوس نفسه، الذي تحمل الرواية اسمه، وهذا الدكتور الذي يرمز إلى الشيطان هو، وكما يقال لنا في الرواية نقلاً عن آدريان: «الشر المطلق الذي يتم الاعتراف هنا، من قبل الموسيقي خصوصاً، بأنه ضروري لبروز عبقرية الفنان نفسها... فالعبقرية الخلاقة لا يمكنها أبداً أن تزهر من دون تواطؤ جهنم معها. فالخير لا يصنع إبداعاً».
لقد ابتكر توماس مان شخصية آدريان لوفركوهن من أساسها، حتى وإن استعان بسمات أصدقاء يعرفهم، لكي يطرح من جديد جملة مواقف وقضايا تتعلق أساساً بالخير والشر، بألمانيا والإبداع... وبكل تلك المسائل التي لطالما شغلت منه البال. وهو في هذا إنما سار على الطريق نفسه الذي كان شغله طوال السنوات العشر السابقة على البدء في كتابة «دكتور فاوستوس"(بين 1934 و1943) حين كتب رائعته الأخرى «يوسف وإخوته» في أربعة أجزاء، مستوحياً فيها حكاية يوسف، ولكن لكي يتحدث عبرها عن ألمانيا وما يحيط بها، وبفكر توماس مان (1875 - 1955) من قضايا وأسئلة، لطالما عبر عنها في كل كتبه الأخرى، ولعل أول ما يرد منها في البال هنا إذ يجري الحديث عن «دكتور فاوستوس"رواية «الموت في البندقية"إضافة إلى أعمال مثل «طونيو كروغر"و «السراب"و «الخيبة"و «فلورنسا»..