رافائيل دي نوغالس .. مقاتل فنزويلي حارب مع الجيش العثماني ضد الإنكليز في العراق

رافائيل دي نوغالس .. مقاتل فنزويلي حارب مع الجيش العثماني ضد الإنكليز في العراق

علي أبو الطحين
من مفارقات الحرب العالمية الأولى في العراق، مشاركة أحد المقاتلين الفنزويليين ضابطاً في صفوف القوات العثمانية في الحرب ضد القوات البريطانية الغازية. ألتحق رافائيل دي نوغالس كضابط ركن في قوات الجيش العثماني السادس في بغداد في أواخر عام 1915، وشارك في معارك حصار الكوت التي أنتهت بهزيمة وإستسلام القوات البريطانية المحاصرة.


ولد رافائيل انتاوسبه منديز، والذي يعرف برفائيل دي نوغالس، في مدينة سان كريستوبال في فينزويلا سنة 1877، في مقتبل شبابه ارسله والده الى أوربا للدراسة، فدرس في الجامعات الالمانية والبلجيكة والاسبانية، وتعلم التحدث باللغات الاوربية بطلاقة. حبه للمغامرة والحياة العسكرية، دفعه للطواف والمشاركة في عدة حروب حول العالم، فأشترك مع الأسبان في حربهم ضد الامريكان في الحرب الاسبانية الامريكية في نهاية القرن التاسع عشر، ثم الثورة التحررية الفنزولية في 1902 ، والحرب الروسية اليابانية في سنة 1904، وكذلك الانقلاب العسكري في فنزويلا سنة 1908. وحين أعلنت الحرب العالمية الأولى في سنة 1914، قدم رفائيل دي نوغالس الى أسطنبول، ليشارك مع الجيش العثماني في الحرب ضد دول الحلفاء. وضع دي نوغالس مذكراته عن مشاركته مع القوات العثمانية في الحرب العالمية الأولى في كتاب باللغة الاسبانية، طبع سنة 1924، بعنوان " أربعة سنوات تحت الهلال،" وترجمت هذه المذكرات الى اللغة الانكليزية في سنة 1926.
عين دي نوغالس ضابطاً في القوات العثمانية في جبهة القوقاز تحت قيادة خليل باشا، وكان شاهداً على مجازر الأرمن في شرق الأناضول، فتعرض الى بعض المضايقات، وأدعى ان خليل باشا أراد تصفيته، بسبب موقفه من تلك المجازر ، فانتقل من هناك الى جبهة سيناء. وبعد أن حققت القوات العثمانية في العراق، بقيادة نورالدين بك، انتصارها الكبير على القوات البريطانية في معركة المدائن قرب طاق كسرى، وانسحاب قوات الجنرال طاوزند الى الكوت، تم الحاق دي نوغالس مع التعزيزات العسكرية العثمانية في جبهة العراق. وصل دي نوغالس الى الموصل عن طريق حلب ومن الموصل انحدر في الكلك الى مدينة سامراء ومنها أستقل القطار النازل الى بغداد.
أنضم دي نوغالس الى حلقة الضباط الألمان في أحد فنادق بغداد، فالجيش العثماني كان يضم العديد من الضباط الألمان، أضافة الى رجال البعثات الأستخبارية الالمانية، الذين أنتشروا في العراق وأيران وأفغانستان لتحريض المسلمين على أعلان الجهاد ضد الغزو البريطاني لديار الاسلام.
لم تكن علاقة الضباط الأتراك بالضباط الألمان في بغداد ودية على الأطلاق، بل كان هناك الكثير من الاحتكاك والحزازيات خصوصا بين الضباط الكبار. فخليل باشا الذي حل محل نورالدين بك في قيادة الجيش في العراق بتأثير من قريبه وزير الدفاع أنور باشا، تم وضع قيادته بفرمان من السلطان، تحت آمرة الفيلد مارشال الألماني فون دير غولتز، مما سبب أستياء خليل باشا. يقول دي نوغالس كنت حريصا على ان لا اكون تحت آمرة خليل باشا، فعينه فون دير غولتز ضابط ركن وممثل الشخصي له في لواء الخيالة تحت آمرة الفريق محمد فاضل باشا الداغستاني.
ينتقص دي نوغالس في مذكراته من والي بغداد خليل باشا، فهو على خلاف معه منذ معارك القوقاز كما اشرنا. فيصف أعمال خليل باشا في بغداد بالمخزية. فينسب أليه نفي بعض التجار المسيحين واليهود من بغداد الى الموصل لعدم مساهمتهم في التبرع باموالهم للمجهود العسكري. وكان معاون الوالي في بغداد شفيق بك، كما يذكر، قد أصدر قراراً غريباً يقول فيه : " نظراً لتفشي بعض الأمراض بين أفراد الجيش العثماني، لذلك تخضع جميع النساء المسيحيات، سواء من العفيفات أو من المومسات، الى فحص طبي أسبوعي ..ألخ." هذه الحيلة الفاضحة، هي منجم حقيقي لغرف المال، عن طريق إجبار العوائل المسيحية البغدادية الغنية بدفع الرشاوى وتجنب الفحص الأسبوعي، وهكذا اضطرت حتى النساء من الطبقات غير الميسورة بتدبير بعض الأموال لتجنب الفضيحة.
وعلى الجانب العسكري كان خليل باشا قد أغاض مجموعة من الضباط الأطباء الألمان الذين يديرون المستشفى العسكري في بغداد، وفيه أعداد كبيرة من الجنود الجرحى الاتراك، بأن حول المستشفى العسكري الى مستشفى للأمراض المعدية، ونقل المستشفى العسكري الى أحدى البنايات التي تفتقد كل المقاومات والشروط الطبية، وبطريقة من الهرج والمرج في عملية النقل، أدت الى وفاة العديد من المرضى ووفاة الآخرين في البناية الجديدة تحت ظروفها القاسية. وعلى أثر ذلك تقدم الأطباء الألمان العاملين في المستشفى باستقالتهم الجماعية من الجيش العثماني السادس.
كان الجيش البريطاني بقيادة طاوزند قد خسر معركة المدائن في أندفاعه السريع نحو بغداد، وانسحب الى مدينة الكوت التي يحيطها نهر دجلة من ثلاث جهات، وحصن دفاعاته من الجهة المفتوحة. لم تكن قوات نورالدين بك بتلك القوة الضاربة فكانت قد انهكتها المعارك، لكن قرار الجنرال طاوزند بالتراجع الى الكوت، سهل الامر على القوات العثمانية بمحاصرة المدينة وطلب قوات أضافية كما أشرنا، التي وصلت الى العراق قادمة من جبهة القوقاز وبلاد الشام.
أخبر الجنرال طاوزند قيادة القوات البريطانية في البصرة بضرورة أرسال قوات عسكرية لأنقاذه بسرعة فلم يكن هناك ما يكفيه من المؤن والعتاد حسب تقديره بما يكفيه لاكثر من ثلاث أسابيع. فسارعت القيادة البريطانية في البصرة بتحضير القوات اللازمة وارسالها الى جبهة الكوت لآنقاذ القوة المحاصرة. في ذات الوقت تمكنت القوات العثمانية الجديدة من تعزيز حصارها لمدينة الكوت ومجابهة القوات البريطانية القادمة. كان دي نوغالس بصحبة المارشال الألماني دير غولتز وخليل باشا ضمن القوات العثمانية التي تقدمت لأحباط تقدم فرقة الآنقاذ البريطانية. تألفت القوات العثمانية من الكتيبة 40 من الفرقة الثانية والخمسين ومعها الكتيبة 35 وكذلك لواء الخيالة تحت قيادة المقدم عاكف باشا، تقدمت هذه القوات نزولا بمحاذات نهر دجلة الى الجنوب من مدينة الكوت الى منطقة الفلاحية لتوقف اي تقدم للقوات البريطانية.
كانت خطة المارشال ديرغولتز، كما آمر خليل باشا بتنفيذها، يقضي بسجب القوات العثمانية من مواضعها عند بدء هجوم القوات البريطانية، وأستدراجهم الى آراضي خالية تكون القوات العثمانية مستعدة لقصفهم وآبادتهم. طلب غولتز من دي نوغالس بأن يرافق قيادة خليل باشا ويكون معه على أتصال لأي طارئ. يقول دي نوغالس أنطلقت على حصاني المفضل "مسرور" مع مجموعة ضباط خليل باشا الى جبهة الفلاحية، وحين حل الظلام وفي خضم المعركة وتحت هدير المدافع وازيز الرصاص وتقاطع خنادقنا مع خنادق العدو أحسست في لحظة ما أنني بين مجموعة من الجنود الهنود للجيش البريطاني، فخدعت أحد الجنود الهنود بالتحدث باللغة الأنكليزية، وربما ساعد نوع الخوذة الآوربية التي أرتديها والظلام على ذلك. سارعت منطلقا كالسهم بالهرب والعودة بأتجاه القوات العثمانية، وحين رأيت شرارات الضوء القرمزية المتلألة للفرقة الثانية والخمسين، اطمأننت، وقصدت الى حيث لجأ بعض من الضباط الاتراك في حفرة كبيرة للمراقبة. وبعد أنجاز مهمتهم، غادرت معهم حيث معسكر قيادة خليل باشا في الخلف. حين وصلنا لم يكن لخليل باشا ان يميز وجهي في الظلام، واستمر في حديثه مع الضباط حوله، ناعتاُ المارشال غولتز بأبشع الكلام، ومنتقداً خطته بسحب القوات التركية من مواضعها بدلاً من مجابهة العدو، حتى أدرك وجودي، فقال : دي نوغالس بك، ربما أصبحت الآن تجيد التكلم بالتركية، أليس كذلك ؟؟ فأجبت على الفور : "نعم سيدي،" ثم أكملت قائلا : " تفاجأت بشدة أنتقادك وبهذه الطريقة وأمام الجميع لقائدك وقائدي المارشال فون دي غولتز، الذي ندين له بحريتنا وربما بحياتنا بعد تحركات العدو المتكررة بالألتفاف على قواتنا، ربما لكنا كلنا اليوم، وانت كذلك، أما قتلى، أو في قبضة الأنكليز." ثم قدمت له التحية، وخرجت لأدخن سيكارة قرب حصاني.
في صباح اليوم التالي وحين كان دي نوغالس مستعداً للعودة الى وحدته قرب الكوت، تحت قيادة الفريق محمد فاضل باشا الداغستاني، أستدعى رئيس أركان الجيش دي نوغالس، وسلمه طلب خليل باشا بالتحاقه فوراً تحت قيادة المقدم عاكف باشا. رفض دي نوغالس ذلك، وأخرج كتاب تعيينه في لواء الفريق محمد فاضل باشا، موقع ومختوم من قبل قائد القوات الآعلى للجيش السادس الفيلد مارشال فون دير غولتز. رفض رئيس الأركان حتى النظر في الكتاب، وأخبره ان هذه هي اوامر قائد الجيش العثماني في العراق خليل باشا. عندها قرر دي نوغالس بعد مشاورة مع الضباط الألمان تقديم أستقالته من الجيش وقفل عائداُ الى بغداد.
في بغداد أمضى دي نوغالس بضعة أيام في زيارة معالم المدينة وانطلق منها بالقطار عائدا الى سامراء ثم الى الموصل ونصيبين. التحق دي نوغالس في القوات العثمانية المحاربة على جبهة فلسطين في رام الله، بعد أن صدرت أوامر وزير الدفاع أنور باشا بذلك.
لم يعش المارشال الالماني فون دير غولتز ليرى النجاح الذي حققه في الكوت، فأصيب بمرض التيفوئيد وتوفي في بغداد في يوم 19 نيسان 1916، وبعد عشرة أيام فقط، انتهت معارك الكوت بفشل قوات الانقاذ البريطانية، واستسلام قوات الجنرال طاوزند المحاصرة في الكوت في يوم 29 نيسان 1916. فنال خليل باشا شرف الفوز والنصر الكبير، وجاء وزير الدفاع أنور باشا الى بغداد للأحتفال بتلك الانتصارات.
بعد أنتهاء الحرب العظمى شارك دي نوغالس في الحركة الثورية في ناكارغوا، ثم أمضى بعض الوقت في الآسكا، في البحث عن الذهب ، ثم شارك مع ثوار المكسيك في ولاية كاليفورنيا الامريكية ، وبعد ان عمل كراعي بقر في ولاية آرزونا الأمريكية ، اصبح رئيسا لمقاطعة آبوري الفنزويلية، بعدها عاش في المنفى في بانما حتى وفاته في سنة 1937.