الشيخ كاشف الغطاء..خسره الشعر لكن تبقت اشعاره الفلسفية

الشيخ كاشف الغطاء..خسره الشعر لكن تبقت اشعاره الفلسفية

مهدي شاكر العبيدي

نزحَ قبلَ ما يزيد على المائتي سنة من قرية ( جناجة ) المرتبطة في شؤونها الإدارية بقصبة ( الهندية ) ، بحسب تقسيمات الدولة العثمانية للمناطق التي تحتلها وتبسط هيمنتها عليها آنذاك ، شيخٌ يُزَاول كسائر أهلها مهنة الزراعة، هو : الشيخ خضر بن يحيى المالكي ، وجاءه هذا اللقب من سلسلة نسبه الماتة إلى الصحابي مالك الأشتر النخعي، الذي يعزو النسَّابونَ إليه تكوُّن قبيلة بني مالك العربية المعروفة ، وبمرور الأزمان ومع تكاثر الأسرات بالتزاوج والتوالد وانتشارها وتفرُّقها في الأرضين ، والله أعلم .

وكان لهذا النزوح أثره البيِّن في تحدُّر رعيل جم ٍ من الأفراد ذوي المواهب ، حيث البيئة النجفية التي أحلَّ الشيخ ركابه فيها ، تزخر وتكثر فيها حلقات الدروس العلميَّة والأدبيَّة واللغويَّة التي تستهوي أيَّ فردٍ لأنْ ينتظم فيها ويغشى أوساطها وينهل منها ويرفدها بما جُبل عليه من إمكان وطاقة ، وشاء القدر والطالع الميمون ومن ورائهما هداية خالق الأكوان وتوفيقه أنْ يُنجب الشيخ خضر فتىً نابها ً ، هو : الشيخ جعفر ، الذي أصفى نفسه وأوقفها على خدمة الشريعة الإسلامية والإلمام بأحكامها وما تلزم بها الناس من أوامرها ونواهيها لا غير ، لتستقيم حياتهم وتصفو قدر الإمكان من الأدران والأكدار ، فكان سفره الخالد بعنوان : ( كشف الغطاء عن مهمَّات الشريعة الغرَّاء ) ــ وهو كتاب فقهي ــ ومن يومها استبدَلتْ الأسرة لقب ( آل كاشف الغطاء ) بسائر النعوت والأوصاف التي يسبغها فتيتها الدَارجونَ عليها كالجناجي ونحوه ، وشذ َّ منهم واحدٌ بعد سنين ، هو : المربِّي الشاعر صالح الجعفري ، فقد آثر الانتساب إلى الشيخ جعفر الذي هو جدُّه الرابع بدلا ً من لقبه السابق المتوارَث ، في حكايةٍ تعدَّدَتْ بواعثها وأسبابها ، فمن قائل أنَّ جماعة من لداته وأترابه وجدوا في قبوله التوظف في الحكومة تهوينا ً من شأنه وترخُّصا ً في منزلته وخروجا ً على تقاليد الأسرة الرفيعة المقام ، وهو من أغصانها ، فشكوه إلى عميدها لوقته الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء ، الذي تدور حوله هذه الدراسة وتتقصَّى سيرته وبلوغه مرتبة الاجتهاد في العلوم الشرعية ، ودوره في السياسة ونبوغه الشعري في طوره الأوَّل ، وقبل أنْ يقطع الشيخ برأي ما حول ذينك الإزماع والتصرُّف ، أفهمه المشكو منه أنـَّه ينبغي له الابتعاد عن حظيرةٍ لا يستفيد منها ولا يفيد فيها ! ؛ ومن مُختلِق ٍ آخر غير هذا ، فيزعم أنَّ الشيخ عنَّ له أنْ يستفسره عن مدعاة تلقيبه بـ ( كاشف الغطاء ) ، فاستهول أنْ يُختبَر بما هو من البدائه المعروفة للقاصي والداني ، وارتجل بيتا ً شعريا ً في تصوير ندامته على تبعيَّته الطويلة لعمداء الأسرة المتعاقبينَ في منازعهم وآرائهم :
تبَعناكـُم عـلى خـطـأٍ سِنِينا
وأصحَرَتِ الحَقِيقة فاتبعُونا

…………….
ومن يومها انسلخ عن لقب الأسرة التقليدي .
وبذاك المُنجَز الفقهي غدَتِ الأسرة مُعرقة وذات حضور وفاعليَّة في تاريخ النجف العلمي ، يتداول أفرادها الحُصَفاء العقول الزعامة الدينيَّة كابرا ً عن كابر قرابة مائة وثمانينَ عاما ً ، غبَّ رحيل الشيخ جعفر عام 1813م ، حينَ مرَّتِ البلاد العراقية والعالم العربي والإسلامي بصنوفِ المكاره والخطوب من آفاتٍ وفيضاناتٍ وحروبٍ مفروضةٍ ، لتضرِّي الأطماع الأوربية في الاستيلاء عليها واستباحتها ، وذلك لصلاحيَّة موقعها وخطورته بين دول العالم على الأقلِّ ، إنْ كانوا قد عَمُوا عمَّا تحويه بقاعها من ثراوات وكنوز ، إلى جانب ما تسبَّب فيه التطوُّر العالمي وبزوغ فجر الحضارة المستحدَثة ، وأجلبه من جدَّة في حياتها وتغيُّر في معيشتها بعض الشيء ، على الرغم من تناقص سكانها بناءً على تلك المؤدِّيات والعوامل الكارثيَّة .
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبعد غياب الشيخ جعفر بن الشيخ خضر بخمسة وستينَ عاما ً أو دونها بقليل ــ تعاقب فيها جدَّان بعد صاحب الكتاب الأثير ذاك ــ أطلَّ على الدنيا الشيخ محمد الحسين بن علي بن محمد رضا بن موسى بن العلامة جعفر الكبير الجناجي ، على اختلافٍ في سنة ولادته ، فبينا يوثقها الدكتور حميد مجيد هَدَّو ، في نبذته المخصوصة لـ ( موسوعة الأعلام ) التي أصدرها بيت الحكمة ببغداد عام 2000م ، أو يخالها صادَفتْ عام 1878م ، تنقل لنا الشبكة العنكبوتية أو الانترنت حسبما زوَّدتها بالمعلومة جهة معنيَّة بالتاريخ والثقافة ، إنَّ ولادته كانتْ عام 1876م ، ولا فرق عندي بين التاريخينَ مادام العَلم صاحِب السيرة عاشَ حياة عريضة حفلتْ بما يُشرِّف ويزين ، من توعية الناس وتنبيههم إلى ما يُحَاكُ لهم من أحابيل لتنكيد عيشهم وتكديره ، على يد أعداء بلادهم الصادعينَ بما يراه الغاشم الأجنبي من زجِّهم بمحالفاته ، لتوريطهم في مغامرات وحروب مع جماعاتٍ وأقوام بعداء عنـَّا ولمْ نلتقهم يوما ً ، وذلك ما عُهدَ عنه في عام 1954م ، من رفضه حضور مؤتمر الجماعات المسلمة والمسيحيَّة المنعقد في ( بحمدون ) بلبنان ، بعد أنْ دعَتْ له الولايات المتحدة الأمريكية ، وأبلغه به الوزير العراقي موسى الشاهبندر ــ أحد المشاركينَ في حكومة محمد فاضل الجمالي ــ وذلك لبحث موقفهم جميعا ً من الخطر الشيوعي الوافد كما يزعمونَ ، فأصدر وقتذاك كتابه المشهور ( المُثل العليا في الإسلام لا في بحمدون ) ، يَرُدُّ فيه عليهم بأنَّ هذه الديارات لا يضرُّ بمصلحتها ويتهدَّد سيادتها غير أطماعهم الأشعبيَّة في خيراتها ومواردها ، فضلا ً عن تسبُّبهم في المشكلات المستعصية على كلِّ حل ٍ تثوب إليه شعوب المنطقة ، أ ليسُوا هم مَن انحازوا لجانب الصهاينة وعاونوهم على اغتصاب فلسطين وشرَّدوا أهلها العرب ؟ ، وقرأ الكثيرونَ هذا الكتاب ربيع عام 1954م ، وتفهَّموا حجَّته الدامغة ومنطقه القوي في تفنيد دعاوى المستعمرينَ المتهافتة في تخويفنا من عدو وهمي نحن كفلاء بتحصين نفوسنا من شر ٍ يأتينا من جهته ، كان ذلك بعد سنين من انكفاء المرجعيَّات الدينيَّة في النجف وانحسار دورها في توطيد كيان دولة العراق إثر خيبة الأكثريَّات ممَّا أسفرَتْ عنه ثورة العشرين من نتائج محزنة في الاستئثار والانفراد وإثابة مَن لا دور له في استقلال البلد .
انبرى المرجع الديني الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء مدللا ً على إدراكه للغايات السامية المتوخَّاة من الدين ، إذ لا يعني الانعزال والابتعاد عن محافل الناس والاقتصار على تفهيمهم كيفيَّة الوضوء ، وتخويفهم من جهنم ، وتحبيب الجنة في عيونهم ، ولا هو تسيسه وتهيُّؤ أربابه لتولي المراتب والتباري مع أندادهم من أشياع الديانات والمذاهب الأخرى في الوطن حول هذا الوطر أو ذاك ، وتحجيمهم عن المشاركة في الحياة العامة ؛ بلْ يعني أنْ يجعل العَالِم الديني وكده رصَّ الصفوف وتضافر جهود الجميع للوقوف بوجه رغائب المستعمرينَ ومآربهم ، وأنْ يكون شاغله الأكبر هموم قومه خارج حدوده حيث يقيم ، غير متقيِّدٍ ونازل عند حسَّاسيَّات متوارثة من اختلافاتٍ مذهبيَّة بصدد تقاسُم المواريث والتركات لا غير ! ؛ فلا غرو أنْ عُرفتْ عنه رحلات وجولات في البلاد العربية قبل الحرب العظمى الماضية ، ليستطلع أوضاعها وأحوالها الراهنة ، ويتصل برجال التنوير والساعينَ لإصلاح شؤونها وتخليصها من التخلف والتردِّي ، فقصد مكة المُكرَّمَة أولا ًَ لأداء فريضة الحج ، وعاد لدمشقَ وبيروت ، وزار صيدا في الجنوب اللبناني ، وطبع فيها بعض كتبه ، وأشرف كذلك على طباعة ديواني : محمد سعيد الحبوبي ، وجعفر الحلي ( آل كمال الدين ) ؛ ويمَّمَ وجهته صوب القاهرة ، حيثُ مكثَ فيها مدَّة وحاضر في الأزهر الشريف ، وخطب وسط الكنائس ، مُسَفـِّها ً أوهام المبشِّرينَ ، وداحضا ً مسوِّغات انطلاقتهم في تمرير أراجيفهم وتحبيبها للأفهام والعقول في هذا العصر الذي شرَّعَتْ فيه دولاته الحديثة وأقرَّت الحقَّ لكلِّ فردٍ بما والى وما اعتقد ، مدركا ً ضالته في بحثه عن اليقين ونشدانه الحقيقة وإنْ تعدَّدَتْ ــ أي الأخيرة ــ تبعا ً لتعدُّد مبتغيها وراجيها وملتمسيها ، ومبديا ً استغرابه من كيف تسمح الحكومات لهؤلاء المبشِّرينَ بجوس أراضيها وتجواب آفاقها ؛ وقفل راجعا ً إلى العراق وقد قامَتْ الحرب العالمية الأولى ، ليعِي أنَّ بلاده لا بُدَّ من أنْ تستهدَف بالاحتلال البريطاني ، وبانتْ طلائع ذلك في غزوها من الجنوب ، فتناخى أبناؤها لصدِّه وإيقاف زحفه ، فكان أنْ انخرط في صفوف أولاء الناذرينَ نفوسهم حيث دارَتْ معارك شرسة على مشارف غير مدينةٍ في الوسط والجنوب ، يحدوهم على المفاداة قائدهم الشيخ الشاعر محمد سعيد الحبوبي ، التي حانتْ موتته في الناصرية بعد تراجَع قوَّاتهِ نحوها أو باتجاهها ، نظرا ً لانكسارها في ( الشعيبَة ) البصرية ، وغلبة العدوِّ بسبب تفوِّقه التسليحي كما هو معروف .
واستجاب الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء بعد سنين من قيام دولة العراق الملكية لدعوة المؤتمر الإسلامي في القدس أواسط عام 1930م ، وجال بعدها في ربوع فلسطين ، فزار حيفا ويافا ونابلس ، وهنا نتخالف أيضا ً مرَّة ثانية مع الدكتور حميد مجيد هدو في تحديد سنة انعقاد مؤتمر القدس ، إذ يخاله في العام 1931م ، وتحسبه الشبكة العنكبوتية في العام 1930م ، والأصوب من كليهما وعنده الخبر اليقين وللتثبُّت : ما جاء في هامش قصيدة ( في سبيل فلسطين ) للشاعر محمد علي اليعقوبي ، والتي احتواها ديوانه المطبوع بمطبعة النعمان بالنجف الأشرف عام 1957م ، نظمها بمناسبة عودته للوطن واستقباله ، ألقاها في احتفالين ِ عُقِدا في كربلاء والنجف ، بعد انفضاض المؤتمر في 5 / رمضان / 1350هـ ، ويعادل هذا التاريخ الوارد في جميع الكتابات والمأثورات في الحساب الميلادي عام 1930م .
كان المرحوم محمد الحسين آل كاشف الغطاء إلى جانب تفقهه بأحكام دينه وأصوله ، يمتلك بيانا ً بليغا ً ولغة سلسة تمتاز عين الوقت بفصاحة ألفاظها واحتوائها ما يعنُّ له من معان ٍ أو يخالجه من خطراتٍ وأفكار ، لذا جلـَّى في مساجلة معارضيه ومضارعِيه من أرباب الشواهد والبراهين والأدلة على صـواب منطقهم وسـداد رأيهم ، وأفحم غير واحدٍ من معاصريه أولاء في غير إدلال وزهو بإربائه عليهم في نصاعة الحُجَّة ، وأنَّ وجهة النظر التي يرتأونها متهافتة وغـير ملائمةٍ لطبيعة الأشياء ، بمثل ما اعترض على ما اشتمل عليه كـتاب ( الريحانيَّات ) لأمين الريحاني ، أو جرجي زيدان بخصوص آرائه الشتى التي احتواها كتابه ( تاريخ آداب اللغة العربية ) ــ في جزئه الثاني من أجزائه الأربعة ــ عن مصادر الشعر العربي وبواعثه ، وخطالته في نسبة بعض نماذجه لغير قائليها الحقيقيينَ ، هذا إلى مناقشته نظراءه الديَّانينَ من العلماء المعروفينَ في القاهرة ودمشق ، كالفهَّامة المصري يوسف الدجوي ، والضليع المقتدر في بلاد الشام وموضع ثقة أهلها وإكبارهم لشخصه ، وأعني به الشيخ جمال الدين القاسمي ، خصيم البغاة والجُناة من ولاة الأتراك ومثيري الفتن والمشعوذينَ المحسوبينَ على الدين .
وجميعُ هذه الشِيات والفحاوى عن فاعليَّة الشيخ كاشف الغطاء في المجتمعات العربية والإسلامية باتتْ معروفة للأجيال الجديدة من خلال أجهزة الكمبيوتر المربوطة عليها أو المربوطة هي على شبكة الإنترنت ، والمنتشرة في كلِّ محفل ونادٍ ، بحيث غدَتْ منافسة للمطبوع الورقي في تنوير الأفهام والأذهان بالمعلومة التي يبتغيها الباحثونَ والدارسونَ ؛ وعهدي بالكاتب المصري الأشهر عباس محمود العقاد ، يدع مؤلفاته التاريخية والأدبيَّة المتنوِّعة خلوا ً من المصادر والمراجع التي استوعَب مضمونها بالتأكيد على أساس أنَّ مجتنياته منها صارَتْ جزءا ً من مكونات ثقافته ، فيحسُنْ أنْ لا يُلام غيره أو يُستفهم منه عن درايته بالمصاولات والمماحكات التي خبرها الشيخ كاشف الغطاء ذات يوم .
توفي الإمام محمد الحسين كاشف الغطاء يوم الاثنين 18 / ذي القعدة / 1373هـ ، الموافق ليوم من أواخر شهر آب عام 1954م ، بقرية ( كرند ) الإيرانية غربي كرمنشاه ، والتي قصدها للنقاهة بناءً على توصية من معالجيه بمستشفى الكرخ البغدادي ، لِمَا تتمتع به من جمال طبيعي وهواءٍ نقي ومناظرَ خلابة ، غير أنَّ صحَّته لم تتحسَّن ، ففارق الحياة ونقل جثمانه في اليوم التالي ليدفن في النجف الأشرف بمقبرة خاصة أعِدَّتْ له ، تاركا ً في القلوب حزنا ولوعة ، وندبَ عارفوه سعيه لتوحيد المسلمينَ ، وحرصه على السيادة الوطنية ، وتجنيب البلاد الوقوع في حبائل المستعمرينَ وأذنابهم الذين اجترأوا بعد غيابه على ربطها بالتحالف الشائن معهم ، واستبدال اتفاق جديد هو حلف بغداد بمعاهدتهم القديمة سيِّئة الصيت المبرمة سنة 1930م .
وأقيم له حفلٌ تأبيني كبير في النجف الأشرف ، استذكر المشاركونَ فيه من الخطباء والشعراء مواقفه الجريئة في مقارعة المفسدينَ والجائرينَ ، فالشاعر صادق القاموسي استوحى في مرثيَّته مواقفه الجهادية المضفية على شخصه صفة السياسي المتمسِّك برأيه ، واستحضر تأثره وعاطفته وحزنه الحقيقي لافتقاده ، فقال :
فتشْ عَن المَجْدِ فِي التاريخ لسْتَ ترَى
إلا الـذينَ أجـَابُوا الـخـَيـرَ حِيْنَ دُعُوا
آمَــنـْتَ بــالـمُـثـل ِ الـعُــلـيـا مُــتمِّـمَة ً
مَََََـجـْـدا ً لِمَجْـد ٍ بـِـهِ تـَسْمُـو وترتـَفِعُ
كـُنـْــتَ السِّـيـاسِيَّ فِـي شَـتـَّى مَواقـفهِ
لا هــمَّ عَفـوَكَ إلا الـمَـكـْرُ والـخـُدَعُ
كـَشَفـْتَ عَــنْ كـُلِّ مــا تـُخفِي مُؤامَرة ٌ
وافــَى يُـدَبــِّرُهـَـا مُـسْـتعْمِـرٌ جَـشِـعُ
وصُغـْـتَ مِـنْ مَكـْرهِ مكرا ً يَحِيقُ بـِهِ
وَكـِـدْتَ لـَوْلا قـَـضَـاءُ الله تـَـنـخـَـدِعُ
وأفـضَلُ النـَّاس ِ مَنْ كـَانـَتْ نـَقـَائِصُهُ
مـعـدودة ً وَخِـلـتَ مِنْ بَيْنِهَا الخـُـدَعُ
والنـَّفس ِ مَهْمَا تـَخَلـََََََََّتْ عَنْ عَناصِرهَا
فـَإنـَّمَا مَـالِكـاهـَـا الـخَـوْفُ والطمَـعُ
مَــا يَنـْفعُ النـَّاسَ يـَبـْقـَى فِـي مَعَـادِنِِـهِ
وَيَـذهـَـب الـزَّبَـد الـرَّابـي ويَنـقـَشِـعُ
مَــا قيمــة ُالعِـلـْم إنْ لـَمْ يـُزج ِ مَنـْفعَة ً
أولى بـهِ الجَهــلُ حَيْثُ العذرُ مُتـَّسِعُ

…………….
أمَّا الشاعر حسين علي ( العبيدي ) الأعظمي ، فقد أكتنه صلاته بمعاشر الناس واصطلائه بمكرهم وكيادهم ، رغم ما يتظاهرونَ به أو يرتسم على وجوههم من الصفاء والود وطيب السريرة ، فخاطبه :
كـَشَـفـْتَ عَن الدنيا الغطاءَ مـُنـَقـِّبا ً
فشَاهَدْتَ بَعدَ البَحْثِ فِيهَا عَجَائِبَا
رأيْـتَ بهَا ناسَا ً إذا مَـا اخـْتـَبَـرتهُم
وَجَـدْتَ قـُرُودَا ً مِـنـهُـمُ وَثـَعَـالِبَا
وإنـَّـكَ إنْ صَـافـَيْـتـَهُم واصْطفيْتهُم
وَجَـدْتـَهُمُ رُغـْم الصـفاءِ عَـقاربَا
إذا حَـسُـنـَتْ أخْـلاقـُهُـم فـَفِـعَـالـُهُـم
مِـن القـُبْح ِ كانتْ للعُيُوبِ مَـعَايبَا
وَضَلــُّوا طريقَ المَكرَمَاتِ عماية ً
وَلـَمْ تـَرَهـُم إلا مَـعِـيْـبَا ً وَعَـائِـبَـا
وألـْفـَيْتَ بَيْنَ النـَاس ِ حَرْبا ً خـَفيَّة ً
وإنْ لمْ تـَجـِدْ فِيها ظبَىً وَقوَاضِبَا

…………….
وأنشد الشيخ محمد علي اليعقوبي في رثائه قصيدة رنانة تطفح بالوجد والأسى والإحساس بالفجيعة ، فقال :
بمَن الهُدَى بَعْدَ الحُسَين ِ يَصُولُ
ولِمَن مَـقـَالِيدُ الأمُـور تـَؤُولُ
وَبمَن يُحَاط حِمَى البلادِ وتـَمـنعُ
الأوطانُ فِيهِ كمَا يُحَاط الغِيلُ
وبمَـن نـَرُدُّ الحَـادِثاتِ إذا عَـدَتْ
غاراتهَا يقفـُو الرَعِيلَ رعيلُ
ومَـن الذي يهدِي المُـضلَّ بفترةٍ
فِيها تفشـَّى الجَهلُ والتضليلُ
اليومَ تحـتَ التربِ أغـمِد للهدى
سيفٌ على هَام العِدَى مَسلولُ
وتخـَارَسَتْ بَعْدَ الحسين مَقـَاولٌ
لمْ تـَدْر ِ إذ تـَرثِيهِ كـَيفَ تقولُ

…………….

مِن المؤلفات النفيسة التي طبعَتْ في القاهرة في بداية العقد الثالث من القرن العشرين كتاب ( الأدب العصري في العراق العربي ) ، المطبوع بالمطبعة السلفية فيها ، على نفقة المكتبة العربية ببغداد والتزام صاحبها الأستاذ نعمان الأعظمي ، عام 1923م ، وهو للكاتب الأعجوبة الموصلي روفائيل بطي ، وأقول الأعجوبة لأنـَّه لم يعمِّر سوى خمسة عقود ونيِّف ، تحفلُ بالمَعطى الأدبيِّ الثرِّ والخدمة الصحفية الدؤوب في العراق ومصر ، لا يتناسبان وهذا المقدار من السنوات القليلات التي حييها ، وأنجز هذا المطبوع الثمين الغالي في عمر يزيد على العقدين ِ بقليل ، فقد احتوى تراجم وتعريفات بأشهر شعراء العراق من الموجة الجديدة التي تبنـَّتْ قضايا زمنها الراهن وتجاوبَتْ في تشوِّفاتها وتطلعاتها صَوبَ ما يجول في وجدان الجمهور من أشواق ورغائب في تحسين أوضاعه ، حيث لم يكن بمنأىً عن الأحداث والهزاهز التي عصَفتْ بواقع نظرائه من الذين يدينونَ للتسلط العثماني الذي عانى منه أسلافهم وانتهى إليهم وتوارثوا ما أجلبه من الإرهاق والخسف ، وكتِبَتْ هذه النبذ الضافية بلغة صافية وبيان مهذب وأسلوب في غاية المتانة واستهواء قرَّائه وشغفهم به ، هذا إلى وفرة المعلومات والحقائق المتصلة بحيواتهم والتجارب التي عرَضَتْ لهم ومخاضاتهم الشعرية ، وكيف تأتـَّتْ لهم القابلية الفائقة على تجسيدها وصوغها ، يلي ذلك إطلاع القارئ على شواهد ونماذج ولقيات محكمة من أشعارهم ، ترجم فيها لـ : جميل صدقي الزهاوي ، ، خيري الهنداوي ، و ( محمد ) رضا الشبيبي ، وعبد المحسن الكاظمي ، وكاظم الدجيلي ، ومعروف الرصافي ، وعبد الحسين الأزري ، وعلي الشرقي ، ومحمد حسن أبو المحاسن ، ومحمد السماوي ، ومحمد مهدي البصير ، ومحمد الهاشمي ؛ واكتفى بسوق قصائد للشعـراء : ( محمد ) حبيب العبيدي ، و( محمد ) باقر الشبيبي ، وعبد العزيز الجواهري ، ومحمد الحسين آل كاشف الغطاء ؛ على أمل أنْ يترجم لهم في قسم المنثور وعلى أساس أنـَّهم متفننونَ ومبدعونَ ومجيدونَ في كلا اللسانين ِ الذربين ِ : الشعر والنثر ؛ وأحال بهم جميعا ً إلى قسم المنثور الذي لم يُطبع لحدِّ هذا اليوم .
فالظاهر أنَّ الدارس روفائيل بطي كان على درايةٍ بما للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء من نتاج نثري ، وأنـَّه تداول بعض لقياته ونصوصه التي جلـَّى فيها قبل عام 1923م ، وهو العام الذي ظهر فيه قسم المنظوم بجزأيه من كتابه ذاك ، أيَّا ً كانتْ الأغراض والشؤون التي يُعنى بها ويعالجها ، إنـَّه نتاج له حظه الموفور من الإبداع والفنِّ ، وليس شأنه واستحقاقه أنْ يُنسَب إلى التسطيح والخواء والافتقار إلى الأفكار الدسمة والمعاني العميقة ، وهاكم عيِّنة ممَّا قدَّم به للديوان الأوَّل للشاعر محمد مهدي الجواهري ، المطبوع عام 1928م ، لنستدِلَّ بها على أنَّ الشاعر لا يفهمه إلا الشاعر :
( أجلْ نظرك أيُّها الأديب في إضمامةِ هذه الأزهار وباكورة هذه الأفكار البديعة التراكيب ، ثمَّ انظر إلى ناظم سلكها وهو في ريعان شبابه وأوَّل أيَّامه ، ولم يتجاوز العقد الثاني من عمره ، هنالك يتجلى لك عِيانا ً ، وتحسُّ بداهة أنَّ صفاء الذهن وحدَّة الفهم ولطف القريحة وسلامة الذوق وغزارة المادَّة ونابغيَّة الاختراع ، كلُّ ذلك مواهب لا مكاسب ، ومنائحَ لا مكادِح ، وهناك تعرف أنَّ المراتب مواهب ، وأنَّ الصحَّة منحة ، وأنَّ السجايا عطايا : ألطافا ً ربَّانية ، ومنحا ً إلاهيَّة لا تنال بالسعي ولا تدرك بالجدِّ ولا تحرز عبر السنين وتمادي الأعمار ؛ وإلا فمن أينَ لهذا الجسم النحيف وذلك الطبع اللطيف ، ولهذا العمر القصير ــ أطال الله عمره ــ أنْ يخطو بخواطره إلى ذلك الشأن الخطير ) .
أرأيْتَ انسياقه البديع في وصف الإلهام الشعري المتأتـِّي للجواهري ، وأنـَّه من قبيل المنحة الإلهيَّة والعطاء الربَّاني ، لا يحوج صاحبه أنْ يوالِي تدريب قابليَّته وترويض ملكته على العطاء ، كما يصنع آخرونَ من النقاد والكتبة في نصحهم وتوجيههم الشعراءَ ، بينا أحجمَ الشيخ كاشف الغطاء عن اتباع هذه الخطة وزهد في ذينك النهج والمنوال في نقده التأثري المصوغ ببيان غايةٍ في الأسر والعذوبة والجمال .
ومنذ أنْ ظهرَتْ قصيدة الشنفرى الأزدي الموسومة بـ : ( لامية العرب ) زمن الجاهلية ، والشعراء التالون لمرحلته يشاكلونه ويقتفونَ خطاه ويترسَّمونَ طريقته في نسج مطوَّلات شعرية يسمُّونَ الواحدة منه لامية العرب الجديدة ، أو يصرفونَ النظر عن الأخذ بأيَّة مواصفة تميِّزها عن سائر القصائد المعروفة ، غير أنَّ منهم مَن يبذ ُّه ويربو عليه في نفسه الطويل ، ويغرق في ابتداعه وإتيانه بالمعاني المستحدثة في الجهر والتشكي من مفارقات الحياة وغربته فيها ، ويعدو ذلك إلى تصوير تعجُّبه واستغرابه من توافر النعيم والسعادة لغير ساع ٍ في طلبهما وابتغائهما ، بينما تنسدُّ كلُّ أبواب الأمل دون قوي ِّ العزم مستنفر الهمَّة وشريف النفس ، ومن أولاء الشعراء الذين انتقيناهم من عصور متباينة في أنظار ذويها وأحكامهم بخصوص جودة الشعر الفنية أو القطع بركته وإسفافه : ( أبو العلاء المعريِّ ، والطغرائي ، وابن الوردي ، ومحمد رضا الشبيبي ، ومحمد مهدي الجـواهري ، ومحمد الحـسين آل كاشف الغطاء ) ؛ ويستوي جميعهم في الفخر بأنفسهم ومباهاتهم بما جبلوا عليه من بعد الهمَّة وطول الأمل واطـِّرَاح اليأس دون بلوغ ما يرنونَ له من حاجات وأسباب ، لولا أنَّ جور الزمن كبا بهم عند هذا العثار الذي ليس بوسعهم تجاوزه ، فلم يفتهم إرسال حكمتهم البليغة التي يتعزَّوْنَ بها عن إخفاقهم وفشلهم ونكوصهم عن مُشَاكلة الناس في توَقـُّل هذه الوسيلة أو تلك في سبيل الوصول للمآرب والغايات .
ولنستعرض محتويات لاميَّة العرب الجديدة لهذا المفضال الذي انقطع عن قول الشعر ، نزولا ً ومجارة للاعتقاد السائد في محيطه المستمسك بقواعد الدين وأحكامه وأصوله الملزمة لعلمائه بوجوب تطليق الشعر إنْ كان لهم به عهدٌ وممارسة قبل تبوِّئهم مرتبة تخوِّل لهم هداية الناس وتبصيرهم بأمور دينهم ودنياهم ، وهي قصيدة قوامها أربعا ً وأربعينَ بيتا ً نظمها أثناء إقامته بوادي النيل ، ختمها بإعرابه عن حَرَدِه ونقمته وسأمه العيش في مصر ، وسخطه على إقفارها من الفضل وتمادي المتحكمينَ فيها في استباحة الحقوق وانتهاك الحُرُمَات ، وهي على رحابتها وانفتاحها أقصر يدا ً من أنْ تحتويه ، فيشرع بمغادرتها واصما ً إيَّاها بالعار والشنار لضيقها بمَن مثله في توقد الحسِّ وسموِّ الشعور ولطافة الوجدان ، ممَّا يحمل على الاستغراب والدهشة ، فقد استقبل بالحفاوةِ وحُسن ترحيب علماء الأزهر الشريف له حينَ حلَّ بينهم ، ومنهم شيخ الأزهر نفسه سليم البشري ، ومفتي الحقانية الشيخ المحقق العلامة محمد بخيت المطيعي ، الذي ارتجاه طالبا ً منه المكوث بينهم ليشهد احتفالاتهم السنوية بالمولد النبوي الشريف ؛ ونختار من هذه اللامية الخالدة الأبيات التالية :
وَخُيِّـلَ لِي فِي مِصـرَ لـَمْحَة بَارق ٍ
فقلتُ عَسَى للغيثِ تلكَ المَخـَائِلُ
وَمـَـا أنـَا فـِـيـهـَا وَاغــِـلٌ بـِـمـَـذلـَّةٍ
Lوَلـكِـنَّ يَأسَ النفس ِ للنفس ِ قاتِلُ
وَكـَم ْمُحِيَتْ فِـيـْهَـا حُقـُوقٌ كريمَة ٌ
وَكـَمْ هـُضِمَـتْ فـِيها كِرَامٌ أمَاثِلُ
وَدَورُكَ فِـيهـَا يَا أبَا الطيِّبِ ارتمى
إليَّ وَحَـقٌ فِي الـكِـرَام التـَمَـاثـُلُ
فـَأفـْلـَتُّ مِـنهَا ناكِصَا ً وَعـَـزائِمِي
عـَوَاذِرُ لِـي والـتـَجريَاتُ عَوَاذِلُ
أقولُ لهَا لو يُصبحُ الأيْـك عَالِـمـا ً
مَن الشَجْو مَا تـُملِي عَليهِ البَلابلُ
أ مِصرُ رُبُوعُ العيش مِنكِ زَواهِرٌ
وَلكِن رُبُوعُ الفـَضْل فِيكِ مَوَاحِلُ
تناهيْتِ فِي طول التمَدُّن فاقصِري
فـَعِـنـدَ التناهِي يَـقصُر المُتطاولُ
أيَا مِصرُ لا وَادِيكِ بالنـُجـْح ِ نافِـحٌ
لِـرَاج ٍ وَلا نادِيكِ بالبـِشْـر حَـافِلُ
لـَئِـنْ ضِقـْتِ عنـِّي فالبلادُ فسِيحَة ٌ
وَحَسْبُك عَارا ً أنـَّنِي عَنكِ رَاحِلُ

…………….

ولعلَّ من غرر شعره التي شاءَ الأستاذ المرحوم روفائيل بطي جعلها أوَّل اختياراته ، الخريدة المعنونة : ( وقفة عند تدمر ) ، وهي قصيدة فلسفية تحكي عن العفاء الذي يعرو الجسوم والأرواح ، وتبقى العمائر والآثار بعدَ مَن غادروا الخلان والأحباب ، وأمسكوا عن الرغبات والآمال ، وهمد إحساسهم بالبُغض والكراهية ، أو خلاف ذلك من المودَّة والحبِّ ، فاستراحُوا من أحقادهم المتلظية التي يكنونها حِيَال مَن وقف في طريقهم ذات يوم وحال بينهم وبينَ تحقيق ما يصبونَ له من هـدفٍ وغايةٍ ، يقول :
عـِـبـَـر لـَـو وَرَاءَهـُـنَّ اعــتِـبَـارُ
وَادِّكــَـارٌ لــَـو يَـنـفـَعُ الإدِّكـَـارُ
أيُّ آي ٍ يـَـتـلـُو لـَنـَا غـَــابـِـرُ الــ
دَهـر ِ ولكِنْ على العقول غبارُ
كـُـلَّ يَـوم ٍ يَـتلـُو عَـلـَيْـنا عِظـَاتٍ
قـَدُمَتْ فـِي حـُدُوثِها الأعصَارُ
كــَمْ عـلـى هــذهِ البَسِـيـطـَـةِ مِـن
حـُـرِّ صـنـْع ٍ فِيهِ العُقولُ تحَارُ
دَمـَّـرَتـْهُ الأيَّـامُ حـَـتـَّى عـلـى تـَدْ
مُـرَ يَأتِي الفـَنا ويَقضِي الدَمَارُ
…………….
عَمْرُكَ الله كيفَ تبقـَى العِـمـَـارَاتُ
طويلا ً وَتـَذهـَبُ الأعـمـَـارُ
بَـقِـيَتْ هذِهِ العـِـمـَـارَاتُ لـــكــن
أينَ تِلكَ الأعــمـَـار والعـُـمـَّـارُ
سَلْ سُـليمانَ أيــنَ بلقيسُ أو سـَـلها
وَبَعْضٌ مِن السُكوتِ حِوَارُ
…………….
لـَو أفـَقـْنـَا مِن سَكرةِ الأمَل الكـاذِبِ
أو خـَفَّ سُـكـرُنا والخِمَارُ
مَا بَنيْنا فِي الأرض دَارا ً ولا دَارَ
عَـلـَيْـنـَا إلا الـفـَلا وَالقـِـفـَارُ
حِـكـَمٌ فـِـي عِـظـَاتِـهـَا بَـالِـغـَـاتٌ
صـَـامـِـتـَاتٌ وَكـُلـُّهـَا تـَـذكـَـارُ

…………….
ولنتتبَّع فنستقري نفرته من المكث في الغربة والعيش في مصر أكثر من سابق عهده بها في قصيدة ثانية معنونة : ( ألا هذه مصر ) ، ليطالعنا تشاؤمه وذكرياته المفعمة بالصدِّ والإعراض :
وَقدْ غرَّنِي فِي الليل حُسْنُ ابتسَامِهـَا
وَيَـا رُبَّ لـَـيْـثٍ لـلفــَريـسَـة يَـفـْـتـَـرُّ
وَأعجَبَنِي فـِي وَطـْئِها لـَيـِّنَ الـثـَـرَى
وَرُبَّ رَمـَادٍ كـَامـِـن ٍ تـَحـتـَهُ جَـمْـرُ
فـَهـَا أنا مُـلقـَىً فـِي حَنـَايَا رُبُوعـِهـَا
كـَأنـِّي فِـيهـَا قـَـدْ تـَنـَاسَانِـيَ الـدَهْـرُ
نـَـزيـلٌ وَلا وَجــهٌ يَـرُوقُ ولا رُؤَىً
وَضَـيـفٌ وَلا مـَاءٌ يَـرقُّ وَلا خـَمْـرُ
وَوَاسِعَـة لمْ يـَنـفـَسِـح بـِيَ صَـدرُهَـا
وَلمْ يَنشرحْ لِي قط ُّ يَومَا ً بهَا صَدْرُ

…………….
يتـَّضح من وراء تأمُّل هذه الشواهد والأقوال الشعرية الزاخرة بمزيد وافر وفائق من الحكم وتدبُّر قضايا الوجود وظواهر الكون والدهشة لمَا يحفل به العالم الأرضي من الغرائب ، وأبينها الإنباء عن وشك زواله وعفائه ، والدهشة أوَّل دلائل الاعتبار المؤدِّية إلى التفكر الفلسفي الذي يتعلل به المرء عمَّا يكرثه من الأهوال والمصائب ، قلتُ : يتـَّضح منها جميعا ً أنَّ ذلك المرجع الروحاني والقطب الربَّاني كان على جانبٍ كبير من الإطلاع الواسع الجمِّ على أشتات المعارف والعلوم العربية ومحيطا ً بالثقافة الأدبية في شتى مظانـِّها وأوعيتها ومصادرها ، وأنـَّه كان من أعلام الشعر المُبَرَّزينَ منذ أواخر القرن التاسع عشر أسوة بنظرائه : الزهاوي والرصافي والشرقي والأزري ، وسائر مَن عُنِيَ بدرسهم وتقصِّي فرادتهم وتفننهم ، كالمجتهد الرائد روفائيل بطي ، فسلـَّط على ما ورَّثوه للأجـيال الجـديدة مـن نتاجاتهم ومعطياتهم ، إنْ لم يبزّ رعيلا ً منهم في ما شارفوه وأوفوا عليه من تحليق وابتكار في المعاني والتشابيه والأخيلة ؛ وهو ــ أي الشيخ كاشف الغطاء ــ الذي أخذ بناصر الباحث المصري المعروف الدكتور زكي مبارك ودلـَّه على قول ابن الفارض في المناجاة الإلهيَّة حينَ عرف منه أنـَّه مشغول بدرس التصوف وتحضير رسالة لدكتوراه ثالثة ، فجعل ــ أي ابن الفارض ــ من نفسه إمامَ العاشقينَ ومحبوبه إمامَ المِلاح ، حين قال :
كـُلُّ مَـن فِـي حِمَـاكَ يَهْـوَاكَ لـكِـن
أنا وَحْدِي بـِكـُلِّ مَن فِي حِمَاكـَا
فـُقـْتَ أهْلَ الجمال حُسْنا ً وَحُسْنى
فـَـبـِهــِـم فـَاقــَة ٌ إلى مَعـْنـَـاكـَـا
يُـحْـشَـرُ العَاشِـقـُونَ تـَحْـتَ لِوائِي
وَجَـمِـيـْعُ المِلاح ِ تـَحـْتَ لِواكـَا

…………….
وحفظ له الدكتور زكي مبارك هذه الدالة بهامش ٍ في رسالته : ( التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق ) ، المطبوعة في كتابٍ بجزأين في مجلد واحد ، من منشورات المكتبة العصرية للطباعة والنشر في صيدا ببيروت . لولا أنْ أجبَلتْ قريحته ونضبَتْ عاطفته الشعرية ــ ليس بمعنى أنْ صَارَتْ نفسه كثيفة ً وجَسَا فؤاده أو قسَا قلبه ــ إثر بلوغه مرتبة الاجتهاد الديني ، وإشهاره على أسماع الملأ باعتلائه مقام المرجعيَّة التي يُلجَأ إليها كلما تجهَّم الخطب وعبس المكروه وتلفـَّتَ الناس من حوله يلتمسونَ سبيل الهدي والرشاد ، ويبتغونَ الطريق المِهْيَع والجادَّة المنجية لمَن سلكها من الزلل والعثار والجهل والتضليل ، بدعوى تشِيعُ في محيطٍ يتردَّد الشعر فيه ليل نهار على الألسنة وبدون استثناء عدا العلماء الواصلينَ ، لأنَّ ( الشعـر بالعلماء يزري ) لا غير ، كما توارثوا هذه القالة . ما أحوج العرب اليوم لمَن مثله من التجرُّد والصَون وسجاحة الخلق في هذا العصر الذي تفشَّى فيه الجهل والتضليل ، وغدا الدين والمذهب لعِقا ً على الألسنة ، والوطنيَّة والقوميَّة مرتزقا ً وباب ثراء!.