خرائط العقل كتاب (البعيد القريب) لريبيكا سولنيت

خرائط العقل كتاب (البعيد القريب) لريبيكا سولنيت

ترجمة: عباس المفرجي
حول رحلة باطنية تقوم بها منافسة دبليو جي شيبالد وإين سنكلير
بعد أن غادرت الفنانة جورجيا أوكييف نيويورك الى هضبة نيومكسيكو، بدأت بتوقيع رسائلها الى أصدقائها بعبارة ’’ من البعيدة القريبة ‘‘. العبارة المترادفة اللافتة للنظر إستعارتها ريبيكا سولنيت عنوانا لكتابها الجديد، الملهم الحالم، الذي يطوف عبْر العديد من الأماكن، قريبة وبعيدة،

والعديد من الظروف المختلفة المعقدة ( توتر عائلي، مرض، موت ). سولنيت هي عاملة لخرائط متخيَّلة وواقعية معا، وكتابها الجديد يبدأ بمحصول سخي مفاجئ من المشمش، ساقطا ذات صيف من شجرة وحيدة في منزل والدة سولنيت في الصيف الذي سبق وفاتها. الحصاد غير المتوقع يقتضي طقسا، مرثية تؤدَى كفن وقاية منزلي: تختار الإبنة أفضل الثمر، غير المرضوض وتعلّبه؛ تصبح العملية في المقابل رمزا لفلاحة قصصية، حين تجمع القصص لتغذية نفسها والآخرين، لمصلحة الماضي وضد المستقبل. جعلت سولنيت من عملها مثقّبا بحجرات أشبه بقرص العسل، وضعت فيه جرارا من ثمار ذهبية عطِرة، وملأت كل واحدة منها حتى الحافة بخواطر، منقّعة بتجاربها من قلق وحزن ملطفين – يمكن أن يُقال، إستدرار الحلاوة من جرح.
المزاج السايكوجغرافي [ مصطلح عرّفه غي ديبور عام 1955 بكونه (( دراسة القوانين الدقيقة والتأثيرات المحددة للمحيط الجغرافي على عواطف وسلوك الأفراد. )) ] للكتابة إنتشر بقوة، من الحركة الطليعية الافانغارد، السيتيويشنية [ من السيتيويشنزم: نظرية تقول بأن السلوك البشري يتوقف على الظروف المحيطة لا على السمات الشخصية ] حيث بدأ، الى التيار السائد وقوائم الكتب الأكثر مبيعا. إنه يتطلب خبراء يطوفون في الأرض،كما في أذهانهم؛ بعضهم، مثل دبليو جي شيبالد، يستطردون في مسألة المغامرة كلها، آخرون يختارون طريقا راهنا ( الأم25 [ خط مترو يدو حول لندن ] في حالة " لندن أوربيتال " لإين سنكلير ). هؤلاء الكُتّاب لم يؤسسوا حزبا، أو حركة أو ناديا، لكنهم يشتركون بأهداف ونهوج: flâneurs [ متسكعون ]، هائمون على وجوههم، متسلقون، مهذارون، متمدنون وعرّافون، يخطون هنا وهناك ( بجوارب جيدة سميكة ). أغلبهم يمشون، لكن الراحل روجر ديكن كان يسبح. في هذا الحقل الرجولي جدا، كانت سولنيت flâneuse [ متسكعة ] فريدة، وخلال العقدين الأخيرين أنتجت روائع من هذا النوع، منها " شهوة الطواف: تاريخ المشي " ( 2001) و" دليل ميداني للتيه " (2006 ). مع أطلسها المتخيَّل، " مدينة لامتناهية "، وضعت خارطة لمدينتها سان فرانسيسكو، بطبقات وافرة من تاريخ اجتماعي وثقافي؛ في " البعيد القريب " رسمت بدلا من ذلك خارطة متخيَّلة لعودتها الروحية الى الوطن.
تسحضر سولنيت مغامرة شهرزاد لتروي حكايات تبدد غضب السلطان، وهي تصوِّر على نحو بيّن المواظبة على منع الأذى والتهديدات والمخاوف التي جرّبتها. بعض من التسكعات هي جغرافية ( غابات بوليفيا، نور الصيف اللامتناهي في آيسلندا ). أخرى هي شخصية: الصراع النفسي في حياتها الخاصة، بما فيه مرارة حب الأم، التي، مثل الملكة الساحرة في قطر الندى، كانت حسود لإبنتها الشقراء، الذكية. لكن مع الفراغ الآتي للزهايمر في دماغ أمها، يبدأ النزاع بالنقص؛ تتبع سولنيت بألم الطريق الذي تنعكس فيه أدوار الأبوين- الطفل لتصبح أما لوالدتها. ومن ثم هي نفسها تصاب بمرض خطير. يبقى غير مسمى، بينما المعالجة جارية؛ البعيد القريب هو أيضا بمثابة إستعارة عن جسدها الخاص بها، عندما أصبح عدوّا ومصمما على أذاها.
الى حد ما، يمكن ان يكون كتاب سولنيت الجديد موضوعا على الرف مع مذكرات الأحياء والأدب الناشئ لغير المسلّين والمحرومين. يمكن أيضا انه ظلّ مجموعة تقليدية من المقالات والخواطر، حتى لكتاب يُعرّض نقديا وحديث المائدة. لكنه خصوصي أكثر ورحِب، نهم في مساحته من الوهم، وسولنيت تتنبه صاغية لنماذج متجاوزي الحدود ( ايمرسون ، ثورو ). هي ايضا تصطف الى جانب تقليد أمريكي باهر من مذهب فعالية شعري، وسلفها النسوي الأكثر قربا كانت الكاتبة والمخرّفة [ راوية الخرافات ] ذات الطبيعة العاطفية، آني ويلارد. وإن كانت نَصَحت بالتيه في الماضي، فإن إستطراداتها المميزة لمؤلف محترف هنا تطيع علم الهندسة بوضوح، لا dérive [ إنحراف ] جزافي. كان " البعيد القريب " مُعَدّاً ببراعة فنية لخطة موحدة تنبع من إرتباط سولنيت بحرفة رواية القصص ووسائلها الضرورية. هي أيضا تلقح مجموعة كتاباتها في المواضيع المختلفة بخيال إنشائي له طابع الحكايات الخرافية: الفصول الأولى تدعى مشمش، مرايا، ثلج، طيران، جرح؛ هذه العناوين مرتبة على صفحة محتويات في كُبَّة على شكل حرف v، مع كلمة ’’عقدة ‘‘ في قمتها، مؤشرة الى مرضها؛ ثم، بادئة مع عبارة ’’ غير معرّض للريح ‘‘، لا يتعرّض النمط الى الريح حتى يعود ’’ المشمش ‘‘. مع إسترجاع الفاكهة، يعاد إكتساب الزمن،ويُعثَر على التسوية وتتحقق الحرية.
تسود ذخيرة سولنيت الغنية فكرتان رئيسيتان: المخيلة، الناشطة عبْر القراءة والفن، التي يمكنها المساعدة على التغلب على إحساس كونك غريبا في العالم، تائها وسط الغرباء؛ والثانية، أن الشخصيات والأماكن يمكن أن تبني وطنا آخر، وتمدّ بحبكات كئيبة وبناءة من حياتنا الخاصة. (( نحن جميعا أبطال قصصنا الخاصة بنا، )) تكتب هي، (( وواحد من فنون النظرة هو رؤية نفسك صغيرا في مشاهد لقصة أخرى، رؤية إمتداد واسع لعالم لا يدور حولك، رؤية القوة، لتصنع حياتك، لتصنع الآخرين، أو تحطمهم، لرواية قصص بدلا من أن تكون مروية لك من قبلهم. )) لو كانت لهذا وعظية منزلية طفيفة، فإن روايتها للقصة تتجنبه، لأن سولنيت نسّاجة داهية للحكايات وملفقة للرموز، صحفية مقتدرة، قارئة مدهشة لأعمال كُتّاب آخرين، سريعة ورشيقة مع الأقوال المأثورة.
المواضيع البعيدة تتضمن: صنع أسطورة ماري شيللي [ أديبة انكليزية، زوجة الشاعر شيللي، لها رواية عن فرانكشتاين ]، مع وحشيها العصريين المأساويين، فرانكشتاين ومخلوقه؛ تحوّل شي غيفارا من طبيب ناكر للذات شجاع، جالبا المعرفة والعون للمجذومين في شدتهم، الى جلاد ثوري قاسٍ؛ جزء آكلي لحوم البشر الحديث نسبيا في القطب الشمالي، حيث تلتهم أم أطفالها كي تبقى على قيد الحياة؛ و، ربما الأكثر غموضا، الحكاية الخرافية عن الفنان الصيني وو داوزي في عهد التانغ، الذي رسم، وكانت حياته مهددة من الامبراطور، صورة منظر طبيعي بكهف يدخل كهفا، ويختفي.
قد يبدو الكتاب أشبه بقائمة قراءة، لأنها صفّته على نحو موسوعي لكنها لم تعط مراجعا كاملة؛ في حالة الفنانين، هي احيانا لم تذكر حتى الإسم الأخير، لذا لا يمكنك أن تستطلع تفاصيل أخرى. كانت لشيبالد سابقة في هذا التكتم – يمنح السايكوجغرافيون أنفسهم إمتيازات الروائي، بخلاف المؤرخين الذين يتحركون مثقلين بالملاحظات. أحيانا أيضا، الإحساس المفعم بالأمل لدى سولنيت، وإيمانها بالأدب والقصص يبدوان مفروضان عليها. في الماضي، كانت تستخدم شعار ’’ شمعة في الظلام ‘‘ ( عنوان نقض حاد قصير أكثر قدما )، وغالبا ما تبدأ بكتابات ومعتقدات بوذية. ربما من المفهوم محاولة بلوغ إيمان لا يكون مبنيا على تضحية دموية، رغم ان الأحداث الأخيرة في بورما كشفت أن حتى الرهبان البوذيين يمكن أن يكونوا متعطشين للدماء. هناك بعض من الإبحار، بعض من الحشو، لكن القسم النهائي يصل بمقالة- مذكرات سولنيت الى الخاتمة: (( ’ الأنا ‘ العادية المعطاة إلينا لها كل الإتساع الملائم لنوع الشخصية التي يختص بها الروائي، وليس لها نفاذ لأي من لحظات يقظتنا، للخيوط المنحلّة، للأحلام الغريبة، للمنسي والمتذكّر على نحو خاطئ، لحصص الحياة المعاشة من خلال قصص الآخرين، للتفكك والتنافر، لبانثيون dei ex machina [ عبارة لاتينية تعني ’ الالهة من الآلة ‘: تقنية في الأدب القصصي وهي وسيلة حبكة، تُحَّل فيها المسائل، التي تبدو غير قابلة للحل، على نحو مفاجئ وحاد ] والعشرة الحلوة للأشباح. هناك طرق أخرى للقول. )) " البعيد القريب " مشغول على نحو رائع، بيان مكثف وبليغ عن سماع القصص – وإختلاقها.

عن الغارديان