جورجي أمادو..  روائيّ الأزقّة والفقراء

جورجي أمادو.. روائيّ الأزقّة والفقراء

امبراطـور باهيـا، مسـقط رأسـه، أم امبراطـور الروايـة البرازيلية - العالمية؟ جورجي امادو يمثـل كليهما معاً لكونه اكثـر الشخصيات البرازيلية شعبية، وأكثـر الكتّاب العالمييـن شهـرة وغزارة وترشيحاً لجائزة نوبل.!


رُشح غير مرة لنوبل. وان لم يتوَّج، ظلّ الروائي العالمي في الصدارة. ولعلّ القارئ يتذكر روايتيه الأكثر شهرة"دونا فلورا وزوجاها"و"القرنفلة غابرييلا والقرفة"اللتين ترجمتا الى لغات عديدة واقتبستا سينمائيا.ً
لجورجي امادو اربعون رواية، وترجمت الى اربع وخمسين لغة. كتب روايته الاولى"بلاد الكارنافال"في التاسعة عشرة، أي عام،1931 وهو ابن تلك الارض الشاسعة والغريبة بخليط اعراقها ولغاتها وتقاليدها. ابن الارض الغامضة لطالما رفض فكرة الموت، وهو القائل ذات مرة"مهما تقدمنا في العمر، زمن الحياة قصير.
في الحقيقة، الموت مخلوق غريب جداً". وها امادو يستسلم لـ"المخلوق الغريب"رغماً منه، هو الذي كتب من اجل تحسين الحياة لدى الفلاحين والفقراء.

والفلاحون، الفقراء في اميركا الجنوبية، غالباً ما يكونون من العرق الخلاسي، المزيج الهندي والاسود، ولن نعود الى التاريخ. من ملامح جورجي امادو، يدرك المرء انه من العرق الآخر، الابيض، اي من جذور برتغالية أصيلة، ولن نعود ايضاً الى التاريخ.

تلك البرازيل الرطبة والغزيرة الخصب والمساحات والاعراق، طهرت في تناقضاتها الرحبة والغامضة الاعراق المختلفة في لغة واحدة، في مصير واحد، في حب واحد، صهرت اللغة بأرضها ومناخها وجغرافيتها حتى منحتها قالبها الخاص وشكلها الفريد، وميّزتها كثيراً عن البرتغالية الاصلية التي تستعمل في البلد الأول، الأم، اي البرتغال. وكسائر المنفيين في عصرنا هذا، يحط في باريس، او يزورها في الاقل من منفاه.

مكث جورجي امادو في العاصمة الفرنسية فترة من الزمن، متوجهاً اليها من بوينوس أيرس منفاه الأول، وصولاً الى مدينة براغ، خلافاً لباقي المثقفين والكتّاب. ورغم التقارب الجغرافي بين البرازيل والارجنتين، فان البلدين مختلفان مناخاً وطبيعة ولغة وعرقاً.ً

ومن هنا اعتبار الثانية منفى حقيقياً حيث تكون الغربة في أشدها.

كان عليه ان يواجه الاسبانية لغة، والاختلافات الطبقية بين العرق الأبيض المسيطر (أي الاسباني) والهندي الأصلي، وتفاوت المناخ بين معتدل وقطبي جنوبي، والتقاليد الاوروبية الشديدة التجذر في الحياة اليومية والتي لا علاقة لها بتقاليد البرازيل الافريقية الخلاسية.

أمادو الماركسي في بداياته، عاد مع الوقت الى طبيعته البرزايلية، ابن شعبه الأصيل. عاد الى الغنائية وفكاهته، الى طرافة الموقف ودفء الرؤية، ليكون ابن ارضه في تعبيرها الأول والأنقى.

عاد أمادو الى حنوّ الكلمة والصورة، واذ لم يتخلَّ يوماً عن الاهتمام بأزقة المدن وشعبها المكافح او الجائع. ازقة المدن المنسية وراء مباهج الترف والثروات التي يعرفها مجتمع البرازيل.

قال أمادو مرّة:"اولئك الرجال والنساء الكادحون، اولئك الفقراء ولكن غير الحزينين، اولئك المحتكرون ولكن غير المهزومين"حين اراد وصف ابناء باهيا المنسيين وشخصيات رواياته.

الطرافة والسخرية رافقته في كتاباته كما في حياته الواقعية هو الذي اختلق الجمال الكتابي من وحي البؤس الجميل. جميل لأنه الاقرب اليه، الاكثر تفهماً له والاشد تعلقاً به، أي بمصيره.

ألم يقل:"وهل كنت شيئاً آخر سوى روائي العاهرات والمتشرّدين؟ أذا كان ثمة جمال في ما أكتبه، فهو نابع من اولئك المعدمين، من اولئك النساء الموسومات بالعار."

وهل سينضم هذا المجال الحزين الى جمال النهاية. والموت في حلّته الأبهى حين يستحيل رماداً منثوراً، عند كعب شجرة المانغو؟
رفات جورجي امادو تحوّلت رماداً مزروعاً عند غرسة تلك الشجرة في حديقة بيته حيث امضى الأربعين سنة الأخيرة.

بذا لا يكون قد انتهى جورجي امادو، هو الذي بدأ كتابة الرواية عام،1931 ومذذاك لم يتوقف عن خوض الحياة البرازيلية بشعبها وغنائيتها وخصبها الهائل ليحوّلها ابداعاً روائياً.

ابداع استقبله العالم في حفاوة منذ البدء ولم ينزل، وباع اكثر من عشرين مليون نسخة من كتبه في العالم، كما في البرازيل. كيف لا، وقد احسن المزج بين النقد الاجتماعي والغنائية الفولكلورية، مانحاً كتابته، لغة فائضة، غنية، متشعبة التعابير والعواطف والنبرات.

نقل جورج سحر البرازيل بتشعباتها العرقية، وهو سحر يختلف عن نظيره غابريال غارسيا ماركيز، نظيره في الكتابة الروائية، ولدى الثاني عوالم غامضة لكنها ترتبط بمناخات مختلفة، بدءاً بكونها غير برازيلية، ولكون ماركيز خلاسيا.ً
يبقى هذا الكاتب الواسع والمتعدد الموهبة (اذ كتب في المسرح والقصة) في الذاكرة العالمية، كما بقي كثر سواه في اميركا الجنوبية واشهرهم خورخي لويس بورخيس الارجنتيني، الاسباني - الانكليزي الجذور.

يقال الكثير عن كتاب اميركا الجنوبية، ويبلغون الشهرة والاعتراف العالمي بهم، لكن سبب تلك العالمية ليس ديون تلك البلدان، ولا الخلاسية، ولا الهنود الحمر، كما يعتقد معظمنا. سبب منزلة اولئك الروائيين العليا هو تجذّر الثقافة الاوروبية (الاسبانية - البرتغالية) الاستعمارية، وتواصلها لغة وتقاليد فكرية ضمن تلك الجغرافيا، الى اختلاف الطبيعة بتعددها وغناها..