للحقول الخضر  ينشد لوركا قصائده

للحقول الخضر ينشد لوركا قصائده

احمد ثامر جهاد
مع كل قراءة جديدة لشعره تلوح في الأفق المحسوس للقصيدة روح أبدية تواجه رصاص الموت الفاشي، ويستعاد المصرع المأساوي للشاعر في مدينة غرناطة سنة 1936، هناك حيث انداحت الحدود الفاصلة بين حياته وشعره، ليبلغ الإحساس الصادق كماله والموقف النبيل ثباته والأيمان بالإنسان أعلى تجلياته.

ذلك هو فدريكو غارسيا لوركا شاعر أسبانيا الأشهر الذي حدس بخبرة الرائي إلى أن مشهد القتل المجاني الذي ينتظره لن يعدم كلماته الدافئة من أن تنشد مع الغجر بعض أغانيهم الفرحة والحزينة وهي تنير الطريق إلى سماء الحب والحرية والربيع، وكأنها روحهم السائرة عبر الأزمان تعزف لحنها الأبدي.
نراه قائلا في قصيدة (الوداع):
حين أموت..
اتركوا الشرفة مفتوحة
الطفل يأكل البرتقال
(من شرفتي أراه)
الحصّاد يحصد القمح
(من شرفتي أحس به)
حين أموت
اتركوا الشرفة مفتوحة.
ربما من فضائل كتاب (لوركا: مختارات شعرية) الصادر عام 1999 عن وزارة الثقافة السورية بترجمة متميزة لـ مروان حداد، انه منح القارئ فرصة أخرى مضافة لتأمل مجموعة رائعة من القصائد القصار للشاعر لم يظهر بعضها في ترجمات سابقة. وربما الأجمل هنا أنها جاءت مشفوعة بشكل متناغم مع تخطيطات ورسوم رقيقة بريشة لوركا نفسه في صورة كتاب شعري أنيق. لكن الأهم إن ترجمة هذه المختارات قد أعاد إلى الشعر موسيقاه بتفوق، فهي من بين ترجمات كثيرة الأرق والأغنى والأشد إخلاصا لأسرار الشعر:"لوركا برائحته وصوته"على حد تعبير الناقد (نزيه أبو عفش) في كلمة الغلاف.
وكما عرفناه يبرع لوركا في استخدام خصائص الشعر الفنية والدلالية بصيغ دقيقة تستثمر كل طاقات التعبير الحسي في القصيدة الغنائية، محققا بذلك انسجاما لغويا سلسا تنساب المعاني فيه بطلاقة وعفوية تؤشر إلى ظلال من الحزن والأسى ما انفكت تستوطن قلب الشاعر الإسباني.
امضي سائرا في المساء
بين زهور الحقل
مُخلفا على الطريق ماءَ حزني …
من الطبيعي أن تتقارب مضامين قصائد لوركا في ما يظهر انه عاطفة صادقة أو صوت رافض يلمح إلى هموم إنسانية كبرى تتطلع دوما إلى التحرر من شتى أشكال القمع والاستلاب التي تفتك بحياة البشر وآمالهم، كذلك في أشكالها وإيحاءاتها تبدو قصائده وثيقة الصلة بالجذور العميقة للثقافة الشعبية الإسبانية وضروبها المختلفة من أغان وحكايات وصور، خاصة حين توظف غالبيتها بذكاء ملحوظ وحس أنساني شفيف يسهم في تحقيق الاتصال الجمالي بالمتلقي ويبتكر بأسلوب متفرد إيقاعه الشعري الخاص عبر طرائق فنية عدة، ربما أبرزها: استخدامات اللازمة المتكررة واللون وتناغم القوافي والصور الحسية، وهو ما يشكل في النهاية السحر اللفظي للقصيدة.
ليس لي
صدر من زجاج
ويؤلمني لحم القلب
ولحم الروح
وعند الكلام،
تطفو كلماتي في الهواء
مثل قطع الفلين فوق الماء
من اجل عينيك وحدهما
أعاني هذا الألم.
يمكننا القول إن لوكا هو الروح الراعشة التي تتمثل إسبانيا بجمالها وقسوتها، حيث لاشيء اكثر عادية من الموت في شوارعها الموحشة. لكنه أيضا الذات المبدعة التي تعرف أسرار خلود الشعر، قوته وأشكاله الخفية. روح لا يهمها التصالح مع الأشياء الزائفة أو الطارئة، لان ارتباطها بالأرض والإنسان لم يكن يوما ما أمرا عارضا، فهي دائمة الصراع مع كل ما يُفقد الوجود قيمته أو يسلب الروح عطرها وأغانيها، لا سيما أن لوركا كان يجد في صراع الثيران اعنف صورة يمكن للروح المبدع بلوغها … وعلى هذا فالروح المبدعة قوة وليست سلوكا، انه صراع وليس تصورا، على حد قوله.
ربما ليست مبالغة ما ذهب إليه النقاد من أن شعر لوركا موجه للأذن لا للعين فقط، كما ان قدرته التصويرية الرائعة وإيقاعه التتابعي وسحره اللفظي يستحيل على الترجمة، خاصة مع التذكير بمقولة شاعر كبير مثل (حمزاتوف) يعتقد ان الترجمة بحال من الأحوال تشبه قفا سجادة. رغم ذلك أضافت هذه المختارات إلى فضاء اللغة العربية قصائد رقيقة لشاعر بالغ الجمال والعذوبة، نسمعه يردد:
الرمانة قلب
يخفق فوق المروج
قلب شامخ..
حيث تخشى العصافير ان تنقر
قلب..جداره قاس..
مثل قلب إنسان..
لكن من ينفذ إليه
يقطف عبق ودم آيار … (من قصيدة أغنية شرقية)