استفزازات جابر محمد جابر الروحية .. مطر ينثال على رصيف الذاكرة

استفزازات جابر محمد جابر الروحية .. مطر ينثال على رصيف الذاكرة

خضر عواد الخزاعي
في مجموعته القصصية القصيرة جداً "مطر على رصيف الذاكرة" الصادرة عن مكتب زاكي 2015 يقدم لنا الكاتب والإعلامي جابر محمد جابر، الذي عرفه الوسط الأدبي في بدايته شاعراً مخضرماً حين أصدر أول دواوينه الشعرية"قصائد ملعونة" في العام 1977 .نصوصاً سردية فيها الكثير من تقنيات النثر والشعر اللغوية والبلاغية، حيث يتلمس فيها القاريء

مواطن الوجع الإنساني في أقصى حدوده، والذي تمثله تلك الخسارات والخيبات الفادحة في أرواح شخصياتها المستلبة، الواقعة تحت وطأة تأثير قوى كبرى ذات حضور مهيمن سواء كان حضورا عينيا كقوة الإحتلال والغزو الأمريكي، كما في قصص (غبار- المارد- الورشان- رصاصة- في عمان- عاشق نهر محتل- وطني)،ففي قصة المارد: وبعد أن تفقد الفتاة كل أسرتها بفعل قصف طائرات المحتل، يكون المارد المعادل التعويضي لقوة المحتل، بعد أن افلتته الفتاة من قمقمه حيث وجدته بين حطام المنزل المدمر، وحين تطالبه الفتاة بإعادة الزمن إلى ماقبل الاحتلال يختفي المارد، لتبقى قوة المحتل هيّ المهيمنة.فيما يسجل لنا القاص في قصة رصاصة: وبحرفية العين الإعلامية، المساوئ والآثار السلبية التي يتركها المحتل حتى بعد رحيله"وقف عن بعد يتأمل الارتال العسكرية وهي تخلي مواقعها وتغادر بلده"، لكن السؤال مالذي ستتركه ورائها هذه القوة الغاشمة؟ "وبعد جهد وانتظار طويل غير قليل وجد من يسأله باستفزاز عن غايته من هذه التلويحة المقرفة" ليقدم لنا القاص في النهاية، ماتركه المحتل وماكان يضمه الرجل بكفه وهو يلوح بغضب لتلك الأرتال المغادرة، "اكتفى بإيماءة من رأسه إلى عكازه التي أسندت ماتبقى من ساقه اليسرى" ليس هذا فقط بل ان هناك أثرا أخيرا تركته تلك القوة وراءها، وهي الرصاصة التي قطعت ساقه"خذ هذه الرصاصة التي قطعت ساقي سلمها للقوات الغازية لتأخذها معها عند رحيلها عن أرض بلدي" لينهي كل وجود مادي لتلك القوة الهاربة.
بينما نجد القاص يقدم شخوصه في تمظهر آخر وهيّ ترزح تحت جبروت قوة غيبية أزلية كالموت والفقدان كما في قصص(السرة- الكحلاء- 13/12/2005 -حارس المناديل- الى الأصدقاء الغائبين- رسالة- موعظة- ثروة الذاكرة)، أو تلك الإيحاءات التي تتمثل من خلال حالات الاسترجاع Flash Back أو ضغط الأحلام أو الكوابيس، التي تحاول أن تشغل لها حيزاً تعويضياً عما يخلفه الواقع ورائه جراء تلك الإحباطات، التي تولدها الخسارات المستمرة كما في قصص( ذكريات- ذاكرة معطوبة- شيء عالق في الذاكرة- لعبة- سؤال في الحب- دعاء خافت، بكاء).
ومن خلال بناء بيلوغرافي موسوعي"أماكن مُعرّفة- شخصيات معلومة أو مجهولة الهوية" يحاول القاص تقديمها بطريقة سردية مختزلة ومكثفة، مستخدماً كم هائل من أسماء بلدان ومدن وقرى وبلدات وأنهار وشوارع وساحات، وكذلك مجموعة كبيرة من أسماء الأصدقاء، والشعراء والأدباء، والثائرين، حيث تحوّلت تلك البيلوغرافيا، إلى إيجازات تتشكل من خلالها العلاقات الوظيفية بين الأماكن والشخوص، بأسلوب فيه الكثير من المقاربات المؤلمة والتي تكون في العادة، نتيجة منطقية لحالة الانقطاع بين مرجعية المكان كدلالة نفسية وحسية أو إشارية وبين أبطال يجدون أنفسهم في وحشة الخواء واللامكان ، محاولين العبور إلى رحبة عوالم أكثر اتساعاً لما تصبو إليه أرواحهم الجريحة، كما في قصص (الكحلاء-البحر الميت-ذكريات- في عمان- الحزن الفاخر)، من خلال بناء علاقات وثيقة بينها تفرضه الوقائع والثيمات، لتؤرشف نصوصها تبعاً لانتمائاتها المكانية والزمانية، ومدى تعلق شخصيات نصوصه بهذه الأماكن، ففي نص "الكحلاء": تتحول الشوارع والنهر إلى أدوات مساعدة للوصول إلى حالة روحية يتحول فيها الجسد والمكان الى حالة مقدسة منشودة لدى القاص. كذلك الحال في قصة"ذكريات": حيث يرتبط العطش هنا مع السارد كحالة تثويرية أكثر منه فسلجية، فيما يتحول اللون الأبيض لدى الطائر، لحالة استذكار للمصير النقي، فيما تبدو العلاقة بين الحجر وفلسطين علاقة وظيفية دلالية ورمزية تأريخية معادلة لموضوعة التحرير في قصة "الحزن الفاخر": وبلغة مفعمة بالشعر، يكون لنهر دجلة هذا الحضور المحاكي المستفز للذاكرة، حيث يمنحنا الموت فرصة أن نتعلم ونتماهى مع كيفية العيش خوفاً.
في اضمامة القاص جابر محمد جابر الضوئية البلاغية "مطر على رصيف الذاكرة" يمكننا أن نقسم النصوص القصيرة إلى ثلاث مستويات بيانية رئيسية مختلفة، بالاضافة الى مستويات فرعية ثانوية أخرى.
المستوى الأول: تتشكل النصوص هنا عند هذا المستوى، من حزمة مفردات جمالية تقف بالضد تماما من رموز دلالية هي في الغالب ذكورية، أو سلطوية، كما في قصص:
"عتمة": يتولد الشعور بالألم لدى البطل، من مراقبة، السماء، الغربان السود، العتمة، الأرض، البشر، الشوارع، أعمدة الكهرباء، القمر، الشمس، المدينة، في النهاية لم تسعفه كل تلك الامتدادات الدلالية إلا إلى حالة من النكوص، ليكون وحيداً في منزله وليبحر بعيدا في أعماق روحه الخائبة.
"عشق": هنا تتحول مفردات، دمشق، الحديقة العامة، النافورة، الحدائق الخضراء، مدينة العمارة، الأشجار، أبواب الوطن، الغيوم، إلى مقاربات ذهنية لدلالات إشارية رمزية، تقود إلى استذكارات فيها الكثير من اليأس، حينما يتحول الشعراء الممتحنون بين عالمين متضادين، دمشق والعمارة، إلى صعاليك تأريخيين ينشدون حميمية الافتقاد، برسم الغيوم على رؤوس حبيباتهم، ربما احتراما لزمن قادم، لايجدون أنفسهم فيه منشطرين ذهنياً بين فجاجة الأماكن والتذكر.
"أخطاء تالفة": هنا يكون الحاضر الذي تمثله، ركام الغيوم، الليلة الصيفية، السماء، الجسد النحيل، إلى امتداد لمستقبل لن يكون إلا وعاء روحي لأخطاء تالفة.
"احباط" : العيش تحت وقع هاجس من الريبة، إن كل مايحيط به عدائي وينتظر الفرصة للإيقاع به، حتى الحركات والمواقف البريئة البعيدة عن أي نوايا شريرة، الغرض منها الابتزاز كونه قد "أشهر التزامه وتمسكه بمبادئه"، حتى تتحول تلك الهواجس إلى مرض نفسي تجعله يشك حتى بظله، أو حتى بمن يحاول التقرب منه وابداء النصيحه له، لكن السحابة الجميلة وحدها التي غزت قلبه ذات يوم وحدها استطاعت "أن تسيطر على كل كيانه"، لكن حتى تلك السحابة الجميلة، حين تلامس روحه فإنه لا يشعر بها إلا وهي جافة!.
"الصريخ": مجموعة مفردات حسية/ اللغات، الإشارة، الرسم بالكلمات، يستخدمها القاص كإشارات إلى حجم الفجيعة في ظل الاحتلال، في صراع مع الحضور المادي للغمامة أو الهالة الضوئية، التي يمثلها المحتل كقوة أغرائية، والتي تُفشل كل محاولاته في إيصال رسالته للناس القريبين منه، لكن ذلك لن يمنعه من المحاولة مرات متعددة، حتى يعيد ترتيب اصطفاف الناس إلى جانبهإ إزاء قوة المحتل.
المستوى الثاني: يقدم لنا القاص في هذا المستوى أبطال متوحدين منقطعين عن الواقع الطبيعي ولا يرتبطون حتى بذواتهم إلا من خلال واصلة انعكاسية هي"المرآة" تُعيد انتاج ذواتهم من جديد كما في قصص:
"اصدار" : حيث تتشظى الشخصية الرئيسية إلى ظلال متناثرة على صفحة المرآة، محاوِلة مجارات حركة الأرض التي تتوالد منها الأيام والشهور والسنين، في النهاية ليس هناك غير روحه الجريحة، التي يستفيق عليها من غيبوبة الوقوف الممل على قارعة رصيف أيامه.
"يوميات رجل خارج السيطرة" : في محاولة يائسة لتعويض الفقدان، فقدان النصف الثاني للرجل، "تَذَكَرَ المرأة التي كانت معه ورحلت" ولن يكون هذا التذكر إلا من خلال أداة تتماهى وظيفياً مع حالة معاكسة للتذكر/النسيان، حين يجعل الكاتب من زجاجة الخمر مرآة لروحه التي تعيش وحيدة وسط عالم ساكن.
"رسام وشاعرة وصعلوك" : في هذه القصة يقف الصعلوك وحيداً أمام المرآة يحدث نفسه، مع وجود فرصة مسبقة لأن يكون بمعية الآخرين، وداخل وسط اجتماعي، تهيئه له صديقته الرسامة "في معرض مشترك مع زملاء وفنانين تشكيليين أصرت على دعوة صديقها الشاعر الصعلوك ليعطي رأيه باللوحات المعروضة" ، لكن هذا الشاعر الصعلوك لن يجد ذاته إلا منفرداً" وجد الشاعر الصعلوك نفسه وحيداً قبالة مرآة يحدث نفسه بصوت عال أشبه بالأداء المسرحي".
"مطر قديم": يحاول البطل في هذه الأقصوصة إسقاط ذوات الاخرين وإنجازهم الروحي والإبداعي على نفسه، التي تتنازعها الأحزان المشتبكة مع أوهامه وافتراضاته اللامنطقية فهو هاهنا يقف أسير بين ذاته المنهكة، وذوات الاخرين المتصارعة لبسط نفوذها على روحه.
المستوى الثالث: في هذا المستوى تكون الأحلام والكوابيس اشارات دلالية مغايرة لما يقاربها من وجود عيني ومادي ولاترتبط بهذا الوجود المادي الواقعي، لتعكس حالة الشذوذ والنفور والإنعكاس بينهما، كما في قصص:
"حارس المناديل" : هنا الرجل الحالم بالغيوم والمطر والذي يفهم لغة الأشجار والبقر، يضع القاص حداً لحياته بسؤال فيه من البراءة أكثر من الحيادية، عن سبب قيام المحتل باعتقاله بتلك الطريقة المهينة ليجدوه ميتاً بعد ساعة.
"في عمان" : في محاولة لتعويض ماكان، مقابل حاضر تتصارع عليه قوتين حسّيتين /عمان بشوارعها الجميلة ونشاطها وحيويتها وفتنة نسائها، وبغداد الحاضرة الغائبة في واقعها الملتبس بالانفجارات والمفخخات والرعب، يكون هناك إسقاط لبغداد أخرى، بغداد ماقبل الاحتلال، تكون العبوة الناسفة فيها هيَّ الحد الفاصل بين الواقع والحلم.
"الحزن الذهبي" :كما تتحول المرأة إلى علامة تعجب دلالية، الأحلام أيضاً يمكن لها أن تتحول إلى مجازات مادية ويمكن لها أن تكون رفيقة رحيلنا، بعد أن يتوقف التناغم بين البوح والمزاج.
"دعاء خافت" : هنا تصل الأحلام بالفتاة إلى درجة من الامتلاء والسأم تجعلها تفكر بالهروب من سطوة النوم، وفي استعارة بلاغية لليل" وحين داهمني المعطف الأسود" لن يكون هناك مهرب من الحلم، بل سيكون هناك دعاء الأم بترميم ما تتركه تلك الأحلام من أوجاع وخيبة.
"حلم" : أحلام اليقظة المزعجة تقوم هنا مقام أحلام الليل، فيبدو وكأن الوظائف الدلالية تتبادل الأدوار بطريقة ميتافيزيقية، وللهروب من هذا الحال المربك، والذي هو القانون السائد والافتراضي للحياة يقرر عكس الحالة، وحين تداهمه الأحلام من جديد، لا يجد أمامه من مفر غير أن يغلق نوافذ روحه، ليترك لقلبه فقط حرية استقبال الضوء دون استئذان.
"بكاء" : في مفارقة سردية يبكي أحدهم بعد أن عجز عن تذكر حلمه في الليلة السابقة، ومن أجل استرداد ذلك الحلم، تنصحه أمه أن يجرب النوم من جديد، لكنه يفشل، فقط حين يقرر أن لايحلم مرة أخرى، ويخلد الى النوم، يجد إن الحلم قد سبقه إلى الفراش.
ليس من شك في أن هذه الإضمامة الضوئية من المجموعة القصصية "مطر على رصيف الذاكرة"، انجاز جمالي وسردي بلغة شاعرية شفافة، حاول فيها القاص المبدع جابر محمد جابر استحضار الكثير من أدواته الإبداعية في مجال الصحافة والشعر والقصة والمعلوماتية متجاوزاً القيم الموروثة الثابتة في آليات الكتابة السردية وتتابعها الزماني ومحدودية مكانها. ليقدم لنا نصوصاً في غاية الإثارة والجمال الحسي والبصري.