احتلال البريطانيين وبعض معالم الحياة الاجتماعية فيها

احتلال البريطانيين وبعض معالم الحياة الاجتماعية فيها

جرترود بيل
ترجمة: صلاح سليم علي
فيما ياتي ترجمة للفصل الخامس من كتاب المندوب السامي البريطاني آرنولد تالبوت ولسون (دراسة في الإدارة المدنية لبلاد الرافدين) والمعنون "احتلال الموصل" ..ونترجمه رغبة بتوضيح قرائن تاريخية محددة تميط اللثام عن ثوابت اجتماعية وحضارية واثنية مهمة تتعلق بسكان الموصل وبطبيعة تعامل المحتل مع اهالي المدينة العزل ولاسيما في ضوء ماتسقطه هذه المعلومات من ضوء على طبيعة الإحتلال الأميركي الغاشم

وماحدث بعده من اختراقات محلية ماتزال الموصل تعيش في غمارها...ويبدو ان المندوب السامي كلف جرترود بيل بتأليف هذا الفصل لمعرفتها الجيدة بالموصل وبمنطقة نينوى وشمالي العراق التي زارتها عدة مرات وعرفت بحبها للعراق مما دعاها الى تاسيس مكتبة السلام [المكتبة الوطنية في بغداد] ، والمتحف العراقي والنادي المعروف بإسمها [نادي العلوية] وكانت قد زارت الموصل عام 1909 وصورت معالمها التراثية والحضارية وتشكل تلك الصوراحدى مجموعات ارشيفها المصور عن الموصل عام 1909 .وفيما يأتي ترجمة لوصفها احتلال الموصل.
تأخر المضي بالحملة في بلاد الرافدين قدما في ربيع عام 1918 بسبب ضرورة حماية شمالي بلاد فارس من هجوم تركي [محتمل]، إلا أن هزيمة الترك في غزة في خريف عام 1917 انهى خطر قيام الترك وحلفائهم الألمان بهجوم على بلاد الرافدين، ويسر على قواتنا احتلال خانقين [ اي استئناف الحملة في بلاد الرافدين] في كانون الأول [1917] وفي مطلع أيار عام 1918 تم تحقيق المزيد من التقدم..قد كان القائد العام السير وليم مارشال الذي أعقب السير ستانلي مود بعيد موته في تشرين الثاني 1917 [توفي مود بسبب اصابته بالكوليرا اثر شربه لحليب ملوث في بغداد في 18 تشرين الثاني 1917، ودفن بمقبرة الانكليز في الوزيرية وفي مكان قريب من قبر جرترود بيل التي ماتت بعده بتسع سنوات عام 1926]..يأمل ان يصل الزاب الأسفل قبل تصاعد حرارة الجو ثم يشرع من ذلك الموقع الممتاز بالتوجه الى الموصل في موسم الخريف..وهكذا فقد تم احتلال كفري والطوز [طوزخرماتو] وكركوك بنجاح، كما استقبلت قواتنا بحفاوة من قبل الأهالي مع ذلك فإن تأسيس الوجود البريطاني لم يمر بحالة أفضل وأكثر ارتياحا في اي مكان منه وسط هذه الأقوام [غالبا ما تناصب الأقليات العداء لنظم الحكم القائمة في مواطنها وترحب بالأجنبي كمحرر لها] اما العنصر المسيحي المعتبر فقد رحبوا بنا بحماس وتعاون المسلمون معنا بإخلاص في تنظيم المدينة [لم تحدد أية مدينة بالإسم وأرجح انها تقصد كركوك]..والى الغرب في كردستان السورتي [لعلها تقصد أكراد السوران أو أكراد الجنوب تمييزا لهم عن البهدينان او اكراد الشمال في حكاري وسيرت] فقد تم عقد اجتماع ضم الشيوخ [الأغوات] والأعيان في السليمانية واتخذ قرار بتشكيل حكومة كردية مؤقتة يترأسها الأغا المحلي المعروف الشيخ محمود البرزنجي [هو محمود الحفيد ابن الشيخ سعيد نصب نفسه ملكا على كردستان وشارك في التصدي للإنكليز في جنوبي العراق وقصة منديله الذي وضعه في يده لتفادي لمس يد الضابط الإنكليزي الذي مدها لمصافحته مشهورة في الأدب الشعبي]على ان تتخذ موقفا وديا تجاه البريطانيين.
مع ذلك فإن قواتنا في بلاد الرافدين مازالت معرقلة بسبب النقص في وسائل المواصلات، وليس بمقدورنا التقدم بقوات كبيرة الى الموصل بطريق كركوك..إلا ان وحدة صغيرة تم ارسالها صوب التون كوبري [أي "جسر الذهب" وهي مدينة تركمانية صغيرة تقع على الزاب وتعد همزة وصل بين بغداد وكركوك والموصل وأربيل في قلب المثلث الآشوري] لحماية جناح القوات الرئيسة المتقدمة شمالا بمحاذاة دجلة.. فتم لقواتنا [البريطانية] أحتلال كركوك مجددا في 25 تشرين الأول..وبعد مواجهة عنيفة ارغمت الأتراك على مغادرة مواقعهم المستحكمة في وادي دجلة اسفل قلعة الشرقاط وقد تم اعتراض قواتهم من الشمال فاستسلمت القوة بأكملها في 30 تشرين الأول.وفي تلك الأثناء تمكنت القوة الشرقية [المرسلة الى التون كوبري]من ارغام العدو [التركي] على عبور الزاب الأسفل في الوقت الذي أضحت فيه قوة دجلة [القافلة الرئيسة] على بعد بضعة اميال من الموصل.
وكان القائد العام التركي علي احسان باشا [قائد الجيش التركي السادس] الذي بقي في المدينة [الموصل] مع عدد قليل من القوات قد أمر بإخلاء المخازن والسجلات كلها، ولكن في الأول من تشرين الثاني تم الرجوع عن هذه الأوامر فاعيدت السجلات ورجع الموظفون الى دوائرهم من نصيبين وزاخو ومن حيثما كانوا قد ارسلوا. وبعد عدة ايام من التفاوض حول ما اذا ترتب على علي احسان باشا الإستسلام وفق بنود الهدنة. وكانت اوامر قد وصلت من القسطنطينية [اسطنبول] حول إخلائه. فاحتلت الموصل من قبل قواتنا ورفع العلم البريطاني فوق بناية السراي في 8 تشرين الثاني. وفي العاشر من تشرين الثاني، غادر علي احسان الى نصيبين وتولى مهام ادارة الموصل اللفتنانت كولونيل [ [جيرارد] لجمن بصفته اول ضابط [حاكم] سياسي لولاية الموصل..غير ان المستقبل السياسي للولاية [الموصل] لم يتضح [يتحدد] بعد فوفق اتفاقية سايكس – بيكو لعام 1916، التي يعددها الفرنسيون ملزمة بغض النظر عن التحول الجوهري للأوضاع التي تم عقدها خلالها بسبب الثورة الروسية، تقع ولاية الموصل بأكملها ضمن مجال النفوذ الفرنسي..وعلى هذا الأساس صدرت من حكومة جلالة الملك تعليمات بضرورة عدم شمول الموصل بنظام الحكومة المركزية المعمول به في ولاية بغداد..ويتوجب وضع [الكلمة التي استخدمتها بيل هي "ربط" ] الموصل تحت إدارة عسكرية [يؤكد الأنكليز في تقاريرهم على ان للموصل هوية عسكرية ولأهلها ميل قوي للأستقلال والقيادة مما جعلهم عصيون على الأنقياد أقوياء الشكيمة ليس من السهل بأي حال إرضائهم، كما في تقرير كرسته بيل لوصف الموصل حصريا، وهي تشاطر في رأيها في الموصل واهل الموصل موقف مارك سايكس الذي كان وراء تخلي بريطانيا عن الموصل لفرنسا ولعله وراء اقتراح وضعها تحت ادارة عسكرية صارمة كونه المسؤول الأول في حلقات صنع القرار الخاص بالشرق الأوسط في ذلك الوقت]..ولكن وبغضون اشهر ساد التفاهم ضمنا ان الإتفاقية [اتفاقية سايكس – بيكو] يجب ان تعدل بما يتعلق منها بولاية الموصل، على ذلك تم دمج الإدارة المدنية فيها بإدارة القسم الجنوبي من الأراضي [العراقية] المحتلة..
من الناحية الفيزياوية [شكل الأرض وتضاريسها]، تطرح ولاية الموصل متناقضات معينة لولاية بغداد. فهي تقع شمالي جبل مكحول الذي يعد امتدادا لجبل حمرين والطريق اليها يمر عبر مسافات طويلة من الأراضي الحجرية وهو تغير محبب بعد الطمي الرسوبي الممثل لجنوبي بلاد الرافدين. ومن الجهة اليمنى لدجلة أي في الجزيرة، نجد ان الريف بأكمله ارض متموجة لاتقطعها سوى كتلة جبل سنجار..ومن الضفة اليسرى [الجانب الأيسر لدجلة]، تمتد السهول على مسافات متنوعة بدءا من النهر حتى حافات الجبال الكردية. وتقدم السلاسل الأقرب [الى المدينة] من خلفية المشهد المنظور اليه عبر النهر من مدينة الموصل منظرا محببا لدى المشاهد الذي اعتاد على السهول الجنوبية لبلاد الرافدين..ولايرتفع اعلى جبال تلك المنطقة اكثر من 7000 قدم ولكنها شديدة الإنحدار وجرداء. وتشكل السلاسل المنفصلة وديان ضيقة ومتباعدة يترتب على الطرق فيما بينها اما ان تتسلق معابر عسيرة او تتبع طرقا وديانية متعرجة.. وفي التلال تتوفر المياه في اكثرها على مدار السنة اما الوديان فمكتظة بأشجار الفاكهة كالكروم والجوز واللوز وشجر الحور والصنوبر.. وتكثر على جوانب الجبال اشجار البلوط المتناثرة متمعجة الاغصان..ولكن في الجزيرة نجد ان المياه الوحيدة توجد في تلعفر وفي العيون المتدفقة في سفح جبل سنجار وعدد قليل من الينابيع، ومعظمها، كبريتي، تنتشر في خط التلال الممتد من القيارة وحتى تلعفر..وهذه الينابيع هي السبب في ثروة تلعفر.وتجري المياه الباقية غير المستعملة بالزراعة من سنجار في منحدر الثرثار على نحو مواز لدجلة لتصب في المستنقعات المالحة شمال – غربي بغداد.. ومياه وادي الثرثار وينابيع الصحراء كلها كانت منذ القدم وحتى الآن مالحة [خضمة، أجة أو مجة: وقد تكون مرة]. وفي الضفة اليمنى من وادي الثرثار تبرز آثار المدينة القديمة الحضر، وتعد الأراضي في تلك المنطقة أراض رعي شهيرة ل [قبيلة] شمر الجربا حيث تكثر عيون المياه المالحة في انحائها، وفي سهول الضفة اليسرى لدجلة تنتشر قرى تحتضن عيون مياه عذبة تيسر الزراعة في موسم الصيف، ولكن ثروة الضفة اليسرى [الزراعية] تعود الى وفرة المياه التي يغدق بها عليها نهر دجلة فضلا عن نهري الزاب الأعظم والخابور..وتنمو اشجار الحور والصفصاف على ضفاف الأنهار..ولكن السهول المتبقية جرداء من الشجر، ولاوجود للنخلة في الأراضي الواقعة شمالي منخفض الفتحة [وهو منخفض يقع بين بيجي والشرقاط يتجه شرقا ويقع من الناحية الجيولوجية في المنطقة الانتقالية بين السهل الرسوبي ومنطقة الجزيرة وقد دارت فيها مواجهات بين الجيش العثماني وجيش الاحتلال البريطاني ..ويبدو ان بيل اعتبرتها بداية الأراضي المتموجة او شبه الجبلية حيث لاتنمو النخيل..ولا ادري اين كانت بيل قد شاهدت نخيلا بين شمال سامراء وحتى الفتحة ان لم تعتبر منطقة طوزخورماتو ضمن المناطق الصخرية]، ويوجد النفط والقير والفحم في المنطقة وكذلك نوع من المرمر الرمادي الناعم سهل القطع يستخدم كثيرا في المباني ويحفر بنماذج زخرفية تميز معمار المنطقة ويزين الجوامع والكنائس والبيوت الراقية..
ومن جانب آخر نجد ان اعادة تنظيم الإدارة اسهل في الموصل منه في أماكن أخرى..فبينما لم نجد في البصرة وبغداد سجلات [مدنية] سابقة وكان موظفوا الحكومة التركية قد انسحبوا منهما مع الجيش، وجدنا في الموصل السجلات [المدنية] كلها متوفرة وكذلك معظم الموظفين..وفي اواخر تشرين الثاني قام الكولونيل لجمن بزيارة تلعفر وسنجار وزاخو والعمادية ودهوك وقرية بيرة كبرا وعقرة، فرأى في كل تلك الأماكن العلم التركي مرفرفا وكان في معظمها جندرمة وموظفين أتراك..فعمل على صرف الموظفين والجندرمة الأتراك وأمر بإنزال الأعلام التركية ثم قام بتعيين ضباط سياسيين [اداريين] مساعدين في تلك المناطق الخاضعة لإحتلالنا. والمنطقة باستثناء سنجاق السليمانية كانت تشكل ولاية عثمانية، وسكانها أكثر تنوعا منهم في اي مكان آخر في العراق.
ويوجد في الريف الخصب حول المدينة [الموصل] والى الشرق من دجلة اعداد من المسيحيين اكثرهم من الكلدان على الرغم من وجود جماعات صغيرة من اليعاقبة والنسطوريين ايضا. ويقيم البطريرك الكلداني [مار يوسف عمانوئيل الثاني] في الموصل حيث يشكل الكلدان اكثرية الحرفيين المهرة في المدينة.. بينما يعمل الكلدان الذين يقيمون خارج المدينة بالزراعة ويشتهرون بمهاراتهم اذ تعد قراهم أكبر القرى في الولايات [العثمانية] واكثرها ازدهارا. وهنالك رسول بابوي معين في الموصل لرعاية مصالح الكلدان والسريان الكاثوليك فضلا عن اعتناء الآباء الدونوميكان بمدرسة ومستشفى في الموصل وهناك الكثير من مرتادي المدرسة والكنيسة الدونوميكانيتان.كما تحتضن الموصل قساوسة سريان كاثوليك ونسطوريين ويعقوبيين..كما تعزز التنوع المسيحي في المدينة ليشمل جماعات من الرومان الكاثوليك والبروتستانت والأرثودوكس التابعين للكنيسة اليونانية. وكان الرومان الكاثوليك والكنائس الوحدوية البابوية (الكلدان والسريان الكاثوليك)..تحت الحماية الفرنسية كما هو الحال في الأنحاء الأخرى في الأمبراطورية العثمانية. ولايوجد أدنى شك ان امكانية ضمان محام اوربي [عن مصالح الطوائف المسيحية الشرقية] لدى الدولة العثمانية، كان محفزا قويا للتوحد [الإنضواء تحت ] مع كنيسة روما [الكاثولوكية]. وكانت سياستنا قبل الحرب تتسم بالميل لحماية الكنيسة النسطورية [الآشورية] أزاء الكنائس المتفرعة عنها كالكنيسة الكلدانية الكاثولوكية.ودافعنا لذلك كان وجود هيئة تبشيرية صغيرة ولكنها مثيرة للإعجاب بين النسطوريين تعرف ببعثة اسقف كنتربري التبشيرية للنسطوريين. [بذل الأنكليز ومعهم الأميركان ومنذ بداية القرن التاسع عشر جهودا جبارة في نشر المذهب البروتستانتي بدون تحقيق نجاح يذكر نظرا لتمسك المسيحيين المشارقة بكنائسهم والنجاح النسبي للكاثوليك والدونوميكان في تحقيق بعض المكتسبات للكنيسة الكاثوليكية]. ومن جهة أخرى عزز وجود البعثة التبشيرية الدونوميكانية بمدرستهم الجيدة ومستشفاهم في الموصل الميل للتطلع الى فرنسا.. فالعلاقة مع روما قوية ويرجح ان تبقى كذلك لأن الكنيسة الكلدانية لا اموال [أو أوقاف] لها وتعتمد في تمويلها على روما.[في الواقع تتمتع الكنيسة الكلدانية بأموال تردها بطريق الهدايا العينية لأتباعها وأكثرهم أغنياء كما توجد في الكنائس الكلدانية مكتبات ثرية بالمصادر النادرة]
وقد حافظت الإدارة البريطانية على التقسيمات الإدارية التركية للولايات فأخذ الضابط السياسي أو الإداري المساعد للمقاطعة مكان قائمقام القضاء. وبما ينسجم مع ممارساتنا في أماكن أخرى [الهند] تم دمج الشؤون الإدارية بالشؤون الإقتصادية: فتم تقسيم كل مقاطعة [قضاء] الى نواح حسب الأيرادات [الدخل الوارد من كل ناحية]، وأنيطت الإدارات في النواحي لمامورين عرب يكونون مسؤولين أمام مدير الناحية في رئاسة القضاء.. وفي عام 1919 تم تعيين السيد حسن بيك [العمري]، رئيسا لقسم [الأراضي ]السنية في العهد العثماني، مفتشا للدخول [الشؤون المالية] في الموصل، وهي وظيفة اوكلت مؤقتا مرتين ولمدد قصيرة لضابط اداري مساعد [كان حسن بيك العمري فيما يذكر الدكتور ابراهيم العلاف مديرا لبلدية الموصل في عام 1919].
وكان مركز إدارة الأراضي السنية [وهي اراض زراعية وضع السلطان عبد الحميد يده عليها وخصص لها ادارة خاصة] لعموم العراق في الموصل. ولهذه الأراضي تنظيما خاصا بها وترتبط مباشرة باسطنبول ولذلك فهي مستقلة عن الإدارة الإقليمية. ولكي نيسر للمأمورين التعامل مع القضايا الصغيرة في الموصل وتلعفر في وقت ومكان حدوثها او طرحها، تم منحهم صلاحيات قضاة من الدرجة الثالثة. وهي تجربة حققت اجمالا قدرا من النجاح. وفي منطقة الموصل وبخاصة في السهول، حيث تكون الوحدة الإجتماعية هي القرية وليس القبيلة، يلعب المختارية او رؤساء القرى ادوارا مهمة، فهم مسؤولون عن حفظ النظام والنظافة في قراهم فضلا عن حسم النزاعات وفق العرف والعدل، وعن توقيف المخالفين في الجرائم الخطرة، ومتابعة تنفيذ أوامر الحكومة، وتوفير السكن لموظفي الحكومة وسلامة المسافرين والقوافل التي تمضي الليلة في القرية. كما انهم ملزمون بمساعدة المدراء في الشؤون الزراعية كتقدير المحاصيل. وبالمقابل من الممكن لهم استلام ايرادات معينة على سبيل المثال، نسبة مئوية على السلع التي يبيعها التجار في قراهم، كما تعطيهم الحكومة، كل في قريته، نسبة مئوية لاتزيد عن 3% من المحاصيل الشتوية ومن محصول العنب في الموصل. والموصل كبغداد والبصرة أعادت أربعة أعضاء الى غرفة [التجارة] التركية. وكان أحد هؤلاء مسيحي شهير في المدينة [الموصل] كان قد عين ملحقا سياسيا فيها. [وهو نمرود رسام الأخ الأصغر للآثاري هرمز رسام والقنصل السابق كريستيان رسام، عين ممثلا لبريطانيا في الموصل عام 1893 حتى عام 1908]..
وعند وصولنا وجدنا ان اوضاع الولاية [الموصل] كانت سيئة جدا. فالمدينة مكتظة باللاجئين وتنتشر فيها المزابل..والسبب الرئيس في ذلك الإستملاك والمصادرة والسخرة من قبل العسكر [لم تحدد بيل اي عسكر والأرجح انها تقصد الترك] فضلا عن قيام الجنود والمراتب الألمان والنمساويين بإرسال طرودا الى اوطانهم [لم تذكربيل محتوى الطرود]. وتدور الروايات عن موت 10.000 شخص بسبب الجوع خلال شتاء 1917 – 1918. وفي الولاية خارج الموصل غادر السكان قراهم باستثناء القرى المسيحية بسبب التجنيد الإلزامي. اما النقل والزراعة فقد تجمدا نتيجة مصادرة اعداد كبيرة من الحيوانات. وبلغت نسبة الأراضي غير المزروعة 50% والغلتان الرئيستان في [ولاية ]الموصل هما الحنطة والشعير حيث يتجاوز انتاج القمح في الموصل ماتنتجه ولايات الجنوب مجتمعة بكثير مما جعل بغداد تتطلع الى الموصل لتزودها بالقمح فضلا عن الفاكهة والمكسرات والخضراوات التي تتميز بنوعيتها الجيدة. بل وحتى تلك التي تنتج عند سفوح التلال..على ذلك تسبب اغلاق طريق الموصل من آذار 1917 وحتى تشرين الثاني 1918 بصعوبة ملموسة واسهمت الى نقص التجهيزات الغذائية عن بغداد خلال عام 1917. [تسببت العمليات العسكرية بإغلاق الطريق بين الموصل وبغداد].
وتعتمد الغلال الشتوية في ولاية الموصل كليا على مياه الأمطار، ولكن نظرا للحاجة الماسة لمياه الصيف في السهول، فإن المحاصيل الصيفية في السهول لاتكاد تذكر، ربما بإستناء حافات الأنهار حيث تسقى البساتين بواسطة النواعير وغيرها وكذلك الحال في القرى التي تمتلك ينابيع دائمية على مدار السنة.. ويكون الري على افضل حال في حوض الزاب الكبير..اما في الجبال، من جهة أخرى، فتعد الغلال الصيفية المتمثلة بالرز [رز عقرة] والتبغ والفواكه أكثر أهمية من غلال الحبوب الشتوية..وتعد طرائق الزراعة بدائية حيث يستخدم المحراث الخشبي تجره الثيران المزاوجة بنيراو البغال او الحمير..وجرت العادة ان يزرع الفلاح نصف ارضه ويترك النصف الاخر مجذوما لحراثته لموسم آخر.ومع بذر بذور السنة الماضية، تتم حراثة المساحات المجذومة بعكس اتجاه حراثتها الماضية وتترك بدون بذار خلال الصيف. وفي الخريف وبعد بواكير المطر، تحرث طوليا وتصبح جاهزة لنشر البذور. ويستعمل افضل الفلاحين السماد. ويبلغ عطاء البذور للأكر [الفدان] الواحد حوالي 120 ليبرة [قرابة 39 كيلوغرام]. ويبلغ معدل المحصول سبعة الى ثمانية اضعاف الكمية المبذورة. وبعد الإحتلال، اتخذت خطوات فورية لأسترجاع الإزدهار الزراعي. وفي السنة الاولى تم توزيع 550 من مواشي الحراثة [المواشي التي تستخدم في الحراثة] و150.000 روبية على شكل قروض زراعية للفلاحين. بالاضافة الى كميات كبيرة من الحبوب التركية قمنا بمصادرتها وتوزيعها.
وهنالك مؤشرات الى ان القسم الأكبر من الأراضي في الولاية هو في ايدي مزارعين محليين حيث يقوم كل شخص بحراثة ارضه، ولكن ماوجدناه في الوقت الحاضر ان معظم الأراضي انتقل الى ايدي الملاكين الكبار الين يسكنون في غالبيتهم في الموصل. ويمتلكون الأراضي بطريق سندات طابو. ولكن هناك الكثير من الشكاوي حول تطبيق هذه الطريقة في انتزاع الاراضي واستملاكها. فهناك من يقول ان الفلاح يعطى 25% فقط من قيمة ارضه وإذا رفض بيعها تلفق له تهمة قتل احدهم ويرمى في السجن، ويبقى في السجن لسنوات حتى يغير رأيه. لقد اعطى استقدام الطابو وجهاء المدينة فرصا لنهب الفلاحين وانتزاع مساحات هائلة من اراضيهم بطريق وثائق مزورة هي نتيجة معاملات بيع قسرية وما الى ذلك.
اما الشؤون البلدية في الموصل فقد كانت تدار من قبل مجلس بلدي منتخب. ولم تكن الإيرادات البلدية بذات شأن يذكر. كما كان الفساد منتشرا، وكانت المدينة في حال لايوصف من الوساخة، مما جعل اعادة التنظيم مسألة ملحة، فبات امرا حتميا ان يصبح العمدة والمجلس [البلدي] مجرد مسميات تغيب تدريجيا من المشهد لحين ان تختفي تماما. والآن تمت اعادة التنظيم بنجاح، فقمنا بدراسة الخطط لمجلس بلدي معدل على نحو طفيف..ولعلنا نعقد الأمل على ان يكون لدى اعضاء المجلس الجديد روحا تقدمية لأن مثل هذه الروح لم تكن تنقصه حتى في الفترة السابقة للحرب. وكان الأتراك قد شرعوا خلال الحرب بفتح شوارع رئيسة في المدينة، كما في بغداد [شارع خليل باشا الذي سمي بالشارع الجديد ثم بشارع الرشيد]. وفي بغداد تم انجاز العمل وبرهن على ان فيه خير لايقدر بثمن لأن بغداد قبل الحرب كانت تخلو من شارع عريض بما يكفي للسماح بمرور عدد محدود من العربات التي تسير على عجلات.
وفي الموصل يتقابل الشارعان الجديدان في زاويتين قائمتين احدهما مع الآخرغير انهما في باكورة التنفيذ لأنهما لم يكونا قد اكتملا قبل الإحتلال فعمدنا الى اكمالهما عام 1919. وسيكونان جديران بالأموال المنفقة عليهما سواء في التعويض [اي تعويض الناس الذين هدمت بيوتهم ومحلاتهم في مواقع قطع الشارعين] والإنشاء، على الرغم من ان ذلك تضمن منحا مساعدة كبيرة قدمناها للبلدية.
والجسر القديم في الموصل مايزال قائما. ولكن فيه خصوصية تكونه من جزء من القوارب يبدأ من وسط النهر.ويصار الى رفع هذا الجزء [المرتكز على القوارب] فيترك ها الجزء من النهر مفتوحا تماما في اوقات الفيضان خوفا من ان تجرفه مياه النهر. وعندما يحصل الفيضان فإن الأراضي في النهاية الشرقية للجسر [الجانب ألأيسر] تنغمر بالمياه بينما تبقى دعامات الجسر [الحجري] شاخصة للعيان مهجورة ولكن على نحو ملفت للنظر في وسط النهرالفائض بالمياه. لكن جسرا جديدا هو الان قيد الإنشاء وننظر في وضع خطط لتجهيز المدينة بمياه الشرب . فالمدينة اليوم نظيفة وأولئك الذين يحتفظون بصور ذهنية عن المسالخ عند نهاية الجسر القديم [كما وردت في رحلات مارك سايكس ورحلات أخرى] في العهود التركية سيجدون صعوبة في التعرف على موصل اليوم وسيتساءلون إن كانت هي نفسها موصل الأمس.
ومن بين الإيجابيات التي قدمتها الحكومة، ربما لم ينل أيها شهرة أو يتمخض عن نتائج سياسية افضل كما هو الحال مع الخدمات الطبية. فقد تحقق تقدم كبير في هذا الإتجاه. فقد تم توسيع مستشفى الهلال الأحمر القديمة لتصبح مستشفى مدنية بردهات مخصصى للنساء الى جانب ردهات الرجال. وكان الجراحون المدنيون [المحليون] يساعدهم طبيب بريطاني مساعد ورئيسة ممرضات وممرضتين بريطانيتين كما استقدمنا عددا من الممرضات الأرمنيات بالإضافة الى طبيبين او ثلاثة من الموصل : [هنا نقتبس ماذكره الدكتور محمود الحاج قاسم حول الطبيب سليمان غزالة (1853 ــ 1929) "الذي كان أديبا وشاعرا فضلا عن دراسته الطب في جامعة باريس، والدكتور حنا خياط مدير مستشفى الهلال الأحمر في الموصل، وكذلك الدكتور عبد الله قصير(1877ــ 1987) والدكتور كريكور استارجيان الذي تخرج في جامعة اسطنبول عام 1907 م وكان لهُ مؤلفات وكتابات وبنى قصراً فخماً في الموصل قبالة جامع النبي يونس"، وننوه بالدكتور داؤد جلبي والدكتور آكوب جوبانيان وغيرهم..ويرجح ان بيل قد اشارت اليهم في معرض حديثها عن الأطباء المحليين..وقد قدم هؤلاء الأطباء الرواد خدماتهم للموصل في العقود الأولى من القرن العشرين..مما وضع اللبنات الأولى لهذه المهنة الجليلة في الموصل التي ماتزال من أفضل مدن العالم وأكثرها عراقة في تقاليدها الطبية..وكان الدكتور البريطاني باترسون رئيس صحة الموصل عام 1919، قد دعى الى تشكيل "الجمعية الطبية في الموصل"، وقد إنظم إليها 25 عضواً منهم 3 بريطانيون و19 طبيبا عراقيا و3 صيادلة..و تألفت اللجنة الإدارية للجمعية من كل من د. باترسون رئيساً ود. داؤد الجلبي نائباً للرئيس ود. عبدالله قصير سكرتيراً .وكان من مهام الجمعية نشر الوعي الصحي وإلقاء المحاضرات التي تولت الصحافة المحلية نشرها كما يعود الفضل في تأسيس جمعية الهلال الأحمر العراقية الى الموصلي أمبن عاصمة بغداد عام 1932 أرشد العمري الذي دعا 150 شخصا من وجهاء الدولة العراقية واعيانها ومفكريها الى اجتماع في مكتبة الاوقاف العامة حيث عرض عليهم فكرة تشكيل جمعية للهلال الاحمر العراقية فتم تشكيل الجمعية وبمساندة كبيرة من البريطانيين ومن الملك فيصل الأول قبيل وفاته بسنة]. وقد قدمت الممرضات الأرمنيات خدماتهن على أحسن مايرام فكن على قدر عظيم من الفائدة..وكان الأطباء المحليون [الموصلون] على درجة عالية من القدرة وكانوا مدربين في مهنتم على افضل وجه وكان أحدهم قد تلقى تعليمه [في الطب] بالتمام في باريس [الأرجح ان المقصود هو الطبيب سليمان غزالة].
كما تم فتح المستوصفات في كل مراكز الأقضية والنواحي [تتبع الموصل ستة أقضية، هـي الموصل المركز، العمادية، زاخو، دهوك، عقرة، سنجار، ويتبع هذه الاقضية احدى عشرة ناحيـة] وكان الأطباء العسكريين يقدمون في بعض الحالات خدماتهم فور نشوء الحاجة اليها في تلك المناطق. وتعد الملاريا أكثر المشكلات الصحية خطورة وبخاصة في مناطق التلال [تقصد المناطق التي تتخللها منخفضات ارضية تشكل مستنقعات ملائمة لأنتشار البعوض]. وهناك أماكن يعاني سكانها بشدة من انتشار الملاريا وتعد الوفيات بين ألأطفال بسبب الإصابة بالملاريا عالية بشكل ملحوظ. وكانت الحكومة العثمانية توزع الكنين مجانا كإجراء صحي. وتعد خطورة الملاريا وحدها كافية لتبرير تجهيز المساعدات الصحية في الريف كلما تتاح الفرصة لمثل هذه المساعدات.
وقد تيسرت المواصلات كثيرا مع بغداد بواسطة سكك الحديد الممتدة حتى قلعة الشرقاط التي تبعد 70 ميلا عن الموصل..وقد تم تمهيد جوانب كبيرة بين الشرقاط وبغداد وتزويدها بالمعدات الضرورية لإكمال الخط. ويبدي الناس رغبة كبيرة بإكمال خط سكك حديد الموصل ..فقد يكون فيه اشارة لجعل الولايتين [بغداد والموصل] أقرب الى بعضهما كثيرا مما سبق).