التاريخ من منظور الضحايا والمهمشين، قراءة في رواية لطفية الدليمي  سيدات زحل

التاريخ من منظور الضحايا والمهمشين، قراءة في رواية لطفية الدليمي سيدات زحل

شجاع العاني
يحيل العنوان الثاني في رواية "سيدات زحل" الى معنى مزدوج، فالسيدة دال يحيل الى مرجعيات واقعية والى ما قد وقع، وبأن
السرد استعادي، بينما يحيل مصطلح "رواية" الى ما هو تخييلي، وعلى الأقوال المكذوبة أو المتخلقة، وسيكتشف القارئ دقة العنوان عندما يقرأ سطور الرواية،

ويرى كيف يتعانق الواقعي فيها بالحلمي، وبالرؤى الحلمية لدى الراوية، وسيجد ان لمفردة السرداب التي تقطن فيه الرواية حياة البابلي، معنيين أحدهما هو المعنى المعجمي، إذ تقيم الرواية بناء على نصيحة عمها "قيدار" التي نقلها والدها لها وللعائلة، بأن يلجأوا إلى السرداب ويجتمعوا به، إذا ما تحققت نبوءة "قيدار" وأحاق فيضان بغداد أو ضربت بعد الفيضان بالنار.
أما المعنى الثاني فهو المعنى المجازي أو الرمزي، إذ ترد عبارة (سرداب الرؤيا) أكثر من مرة في حديث الراوية، ومعنى ذلك إن السرداب رمز للعقل الباطن وللأحلام والذكريات والرؤى.
وتروي "سيدات زحل" قصة خمس نساء عراقيات، وصحفية فرنسية يعشن جحيم الحرب عام 2003 وما تلاها من عنف وإرهاب، حيث الكل يترصد النساء "المارينز والمسلحون المتشددون، والميليشيات ص 182" والاداريون الفاسدون، بكلمة يعشن الجحيم، حيث "بغداد تلتهم أناسها.. ما هي بغداد؟ غول؟ قدر؟ ثقب جدار أسود سينتهي بالتهام نفسه؟ ص182، كما تتساءل راوية القصة، ومن هنا اقترنت تسمية السيدات بالكوكب زحل الذي ورد حوله في كتاب يؤلفه "قيدار" عن موت المدن، إن زحل قال فيه الكندي "إن من طبعه البرد واليبس وهو الذكر النهاري النحس المظلم.. وان نحس زحل يدوم ثلاثين سنة وسعده ثلاثين سنة أخرى ص242" والشيخ قيدار يقرن الثلاثين الأولى أو بدايتها بحرب إيران، ويقول وهو يحدق بالنجوم عند خطف زوجته (فتنة) وهو أشبه بالمجنون انه "رأى كوكب زحل وكان مشفقا من ظهوره لاعتقاده بنحس سيحل بالبلاد"
وقد تشير كل هذه الأقوال إلى منظور الراوي الذي تروى من خلال القصة والحقيقة، أن الرواية ترد على معتقدات الشيخ قيدار، في حديثها مع خالتها التي تؤكد هذه المعتقدات قائلة: "كل بلاد تصنع قدرها بأيدي أناسها، وتجلب الأيدي النحس والدمار أو الخير والأمان. أفعالنا لا النجوم من يحدد مصيرنا ص285" .

الراوي وبناء الرواية
ما ان يستهل القارئ قراءة "السيدات" حتى يكتشف انه ليس أمام رواية تقليدية، بل إنه ازاء ميتارواية، وهي أيضا ميتارواية خرجت على كل التقاليد لتكون نسيج مؤلفتها الخاص، وتخصص الرواية جزءا كبيرا من الفصل الأول للحديث عن روايتها والتأمل فيها.
وفي الفصل الذي وضعت فيه المؤلفة "الأسماء" عنوانا له، وافتتحته بكلمة للمتصوف النفري من موقف التذكرة، نقف على وظيفة مهمة للراوي هي ما يسميه جروج بلان بـ" تعليمات الادارة" ويعني به ان يضمن المؤلف خطابه خطابا واصفا لتمفصلات خطابه وتعالقاته او تنظيمه الداخلي.
وتخبرنا رواية الأحداث، إن هذه الاحداث هي المهمة، وإنها كانت تكتشف كلما عادت إلى أوراقها اختفاء الاسماء، وقد شرعت الراوية وهي هنا "أنا البطل" بكتابة كراسات منذ سنوات، وان الحكايات كالطوفان في أنهارها بلا منطق أو نظام أو سياق، وتتساءل الراوية عن أهمية النظام في عالم مضطرب لا يقوم على نظام "ما شأني بالنظام والاتساق في عالم مضطرب لا منطق لأحداثه؟ ماذا أفعل بالسياقات المألوفة وبغداد تتقلب في لجج النار والدم ويصرعها الجنون؟ فلا مسرد الحكايا وما تتضمنه كراساتنا كما تتدفق وتأتيني" ثم "الزمن دوامات تلتف حولنا وأحداث ماضينا تستعاد بين دورات الزمن.. فلا تنقل بين الأزمنة وأحوال مدينتي في عصورها وحكايات البنات واضع صورة من كل هذا الحطام كفسيفساء تشبهنا ص21-22"
ثم تضيف شيئا مهما في فهم بناء الرواية "انفجاران هزا بغداد قبل برهة.. الزلزلة تتفاقم، ولا بد لي من أن أنهي تجميع الشظايا وأكمل اللوحة الفسيفساء.. ص23"
وبهذا نكتشف أسرار بناء "سيدات زحل" حتى قبل الولوج فيها، والملاحظ حول الأسماء قد تكون بديهية، فالأدب غير التاريخ، انه يرتفع بالجزيئات إلى الكليات ويعانق بين الخاص والعام، ولكن الملاحظ هنا تعني ان الكاتبة لا تكتب رواية تسجيلية بل تخيلية رغم واقعيتها، كما اننا لن نجد حدثا ناميا في الرواية له بداية ووسط ونهاية، بل أحداثاً مختلفة، بعضها تاريخي وقع في أزمنة سحيقة وبعضها وقع بعد الاحتلال عام 2003، دونت في كراسات مستقلة تجمع بينها موضوعة واحدة هي "بغداد" وموتها وانبعاثها عبر العصور. والملاحظة الثالثة ان نشاط الروائي والرواي أيضا لا يحدث في الزمان بل في المكان، ولهذا كانت الرواية أشبه باللوحة.
تقول الراوية "حياة البابلي" اعطتني البنات في لقائنا الأخير عند مفوضية اللاجئين في عمان ما سجلنه من قصصهن في أوراق مبعثة أضفتها إلى كراساتي، وفي لحظات الهدوء النادرة بين انفجار مفخخة وعبوة ناسفة وموت يتربص بي، أحاول تجميع الشظايا.. وغالبا ما تشتبك الحكايات بين يدي ويرتبك كل شيء فأدعها على ما هي عليه وأمضي قدما ص 21"
في هذا النص الذي ينطوي على وظيفة ثانية للرواي هي وظيفة البينة أو الشهادة والتي تتحدث فيها الراوية عن علاقتها بسردها، ومصادر معلوماتها، نقف على مؤثرات من الموروث السردي العربي القديم، ومن قصص ألف ليلة وليلة، وفن المقامة خاصة. ويتجلى أثر فن المقامة في الرابط بين الفصول والكراسات المكونة للرواية، فكما ترتبط المقامات ذات الموضوعات المتعددة والمختلفة عن طريق الراوي عيسى بن هشام عند الهمذاني والحارث بن هشام عند الحريري وعن طريق البطل الاسكندري أو السروجي، كذلك ترتبط كراسات "سيدات زحل" عن طريق نسق النضد أو النظم، وهو النسق الخاص ببناء فن المقامة العربية، ذلك انك كما تستطيع قراءة أية مقامة من مقامات الهمذاني أو الحريري، منفردة دون المقامات الأخرى، كذلك يمكن أن تقرأ أي فصل من فصول "سيدات" بكراساته منفصلا عن الفصول الأخرى، لقد تحولت قصص الموت والدمار والآلام، التي عاناها العراقيون في اثناء الحرب وبعدها بيد الكاتبة الكبيرة لطيفة الدليمي إلى شعر جميل، فكانت سيدات زحل ببنائها، بستانا ضم كل أنواع الشجر والزهور، وبرغم ان ثمة مدخلا رئيسا لهذا البستان، فإنك تستطيع دخوله من أي مكان شئت.
في ألف ليلة وليلة تروي شهرزاد قصصا تسمعها من راو مجهول كلي العلم "بلغني أيها الملك السعيد" وما ان يصل السرد إلى ظهور الشخصية التي يدور السرد عليها حتى تسلم شهرزاد السرد للشخصية، لكي تروي بضمير المتكلم، كان هذا ما تفعله شهرزاد في عصر الشفاهية، لكن حياة البابلي تحيا في عصر الكتابة، وتتلقى قصصا كتبتها بطلاتها، وتقوم حياة التي تتلقى طلبات تلك البطلات، بأن تدون قصصهن لأنها الموصلة لذلك، تقوم براويتها، وهي اما أن تستأثر بهذه الرواية لوحدها، أو تترك لشخصياتها أن تظهر أصواتها من خلال صوت الرواية نفسها، كما فعلت مع عمها الشيخ "قيدار" في كتابه الموسوم "كل يعمل على شاكلته" أو دفتر مذكرات والدتها بهيجة التميمي التي تروي فيها حادث اعتقالها ومجموعة من الفتيات الجامعيات ضمهن تنظيم يدعى الغيفارين، فعذبن واغتصبت احداهن في المعتقل، بينما حول ضابط أمن أجملهن إلى محظية من محظياته، كما قامت برواية قصة منار التي اغتصبها مسلحون اسلاميون متشددون واطلقوا عليها وعلى أمها واخيها النار، لأنها تتسلم أدوية من دول أجنبية وتسلمها بدورها إلى المستشفيات. وقد انقذتها اختها الطبيبة "أمل" وهي على وشك الموت، وقد روت حياة القصة برؤية داخلية واستطاعت ان تجسد احساسات منار ومشاعرها وهي تكاد تحتضر، دون ان ترتكب أي خرق فني، إذ مهدت لرواية الحدث بحوار يجري بينها وبين منار التي ظهر عليها الحمل بعد شهرين من الحادث لتجهض سرا في عيادة اختها، هذا على حين وقع هذا الخرق الفني في حديث الراوية عن (حامد أبو الطيور) مقطوع اللسان، حين تقول الراوية:
"قال لنفسه كم سأكون محظوظا لو، لكن يا لي من رجل سيئ الحظ، ماذا فعل بي لساني؟" ص70،دون أن تستخدم فعلا من أفعال التغريب يظهر على وجه الشخصية ما يشير إلى داخلها، ولا أظن ان روائية كبيرة مثل الدليمي يفوتها ذلك، اظن ان هذا الخرق متعمد!
على انه ينبغي ان نسارع إلى القول بأن أصوات الآخرين في الفصول التي ترويها الشخصيات أو في الأجزاء من الفصول التي ترويها هذه الشخصيات، تظهر واضحة ومتميزة عن صوت البطلة والراوية، حياة البابلي، وخاصة في كتاب الشيخ قيدار الذي يستخدم لغة وأسلوبا قريبين من لغة الموروث الصوفي خاصة، كما تظهر هذه الاصوات في حوارات الشخصيات وخاصة على لسان الايتام الذين افقدتهم الحرب ملجأهم وتركهم المقيمون عليها، لكي يتشردوا في الشوارع، ويصبحوا وسيلة لتجارة الجنس بين القوادين والمجرمين، إذ تقترب لغة الحوار من العامية ومن لغة الحياة اليومية.
بمعنى إننا ازاء ما وراء رواية متعددة الاصوات على الرغم من ان الشخصيات جميعها تنطلق من منظور واحد هو العداء للحرب والعنف والكراهية والتبشير بالحب والتعايش السلمي بين الناس، بل ان الراوية تشير إلى مفهومها النسبي للحقيقة، وكيف انه يختلف من فرد إلى آخر بحسب الزاوية التي ينظر منها الفرد للأمر. تقول الراوية للطفل المختطف من عائلته والذي استطاع الهرب فساعدته بان خبأته لديها في دارها الى ان تم الاتصال بأهله. وفي حديث البطلة ما يضاف الى حديثها عن روايتها في الفصل الاول، والذي ينطوي على وظيفة الادارة كما اسلفنا، وذلك عندما يسالها الطفل: ما هو اصل الحكاية وحقيقتها، فتجيب: انا ايضاً لا اعرف.. لا تنخدع وتبحث عنها عند احد، قد تكون عندك ولا تدري هي كسطح الماء في دجلة تحركه الرياح وتشكل له امواجاً والواناً في الضوء فيختلف المنظر حسب موقعك منه، فلو كنت واقفاً على الجسر سترى غير ما يراه الواقف في نافذة منزل.
وتضيف واصفة حكايتها: حكاياتي نوع من الخرافة عن التاريخ واصل الخلافة والبرابرة واهل الظرافة. واذا كنت شهرزاد تروي لشهريار لتؤجل موتها، فحياة البابلي تروى، تقول "نستطيع تحمل الزمان.. لا بد ان يسمع احد حكاياتنا، الناس في البلاد الاخرى لا يصدقون ما جرى لنا ص12".

الطباق والاستعارة في الخطاب
رغم ان المحسنات البديعية مكانها الجملة، فان الكاتبة استطاعت ان تطوع الخطاب للمحسنات البلاغية او انها طوعت البلاغة التقليدية لمقتضيات الخطاب الروائي فاذا كانت الاستعارة تقوم على التشبيه اذا حذف احد اطرافه فان الكاتبة خلقت من الفصول الخاصة بالاحداث التاريخية القائمة على التشابه استعارات روائية جميلة كما خلقت طبقات عن طريق المقارنة بين احداث متضادة تماماً. فكل الفصول التي كتبت عن بغداد واحتلالها من قبل هولاكو ، تيمورلنك ، او عن الطاعون الذي غزاها في زمن داود باشا ، بل وبنائها على يد ابي جعفر المنصور ، هي من قبل الاستعارات فبغداد، كما يرى الشيخ قيدار " تديم حياتها بين نار ونار ومذبحة وطاعون حتى يختم هولاكو عمرانها ببرج جماجم ويقيم تيمورلنك مئذنة من رؤوس اهلها ، ويطلب من كل مغولي ان يأتي بعشرة رؤوس لرجال بغداديين ولما لم يعثروا على المزيد من الذكور فقد عمدوا الى جز رؤوس النساء ص252".
وربما تتضح الاستعارة، حين تقف على الشبه بين حاكم العراق الذي ترك للاحتلال ان يفسد ما لم يفسده هو من مناحي الحياة، وبين الخليفة، حين قدم له هولاكو طبقاً من اطباقه مصنوعاً من الذهب وقال له: " كله، فقال: الذهب لا يؤكل، فأجاب هولاكو: لماذا احتفظت به اذاً ولم تعطه لعسكرك، ولم تأت الى سواحل جيحون من اجل ان نوقف تقدمنا؟ وثمة تشابه كبير بين اولئك الذين نهبوا واحرقوا بالامس واليوم. فقد ورد في الكراسة التاسعة عشرة بعنوان "هولاكو في باب كلواذى" ان نهب بغداد دام "سبعة ايام لما هجم الغوغاء على المساجد والقصور والاسواق ودار سك النقود وسوق الذهب ودار الحكمة والمدرسة المستنصرية... واحرقت سوق الوراقين ص216". وقد تجد الراوية في العوز الدائم بما يجعل المسؤولية تقع على عاتق الحاكم فيما حصل من سرقة ونهب ، لكنها لا تجد مبرراً لتدمير المتحف العراقي وسرقته للآثار والمؤسسات التاريخية والمعرفية الاخرى وهي تقيم لهذا فصلاً يقوم على الطباق بين محتلين اثنين، احدهما الانجليزي بالامس والآخر هو الامريكي اليوم. ففي الفصل الذي حمل عنوان "متاهات" مشهد للقوات الامريكية تقيم مهرجان النار وتحرق ذاكرة الهور واشجار النخيل على طريق مطار بغداد. وفي هذا المشهد نرى فرس (مس بيل) تعدو مسرعة غير آبهة بالنار والرصاص متجهة الى مقبرة الانكليز في محلة الكرنتينة لتقف عند قبر الخاتون (مس بيل) وتذرف دموعاً على الاشواك واللبلاب البري الذي يزحف على شاهدة قبرها" ص104 وتخاطب الراوية يا للمفارقة: ماذا ستقولين يا مس بيل لحليفك الامريكي الذي دمر الحقب والعصور والحضارات؟ ماذا كنت ستفعلين وانت ترين متحفك الذي اسسته مقابل ان تستولي بريطانيا على نصف الآثار المكتشفة ، ماذا ستقولين وانت ترين مؤلفاتك في علوم اللغة والانساب والرحلات والكشوف التاريخية قد احرقت مع ما احترق من مكتبات بغداد ص103). وثمة فصول اخرى تقوم على التشبيه فتحت احساسا ومفهوما (للحلول) تشعر البطلة ان ذاكرة جدتها زبيدة التي عاشت في زمن داود باشا حلت في جمجمتها وانها تعيش او تحيا الآن الاحداث نفسها التي عاشتها زبيدة التميمية، كما تحيا تجربة الحب والعشق التي عاشتها زبيدة مع ناجي الراشدي الذي عمل ترجماناً في جريدة "جورنال عراق" ولعل قصة الحب التي تعيشها البطلة الآن مع ناجي بعد ان طلقت من زوجها حازم الذي قام النظام السابق باخصائه بسبب صلته بجمعية لحقوق الانسان في الخارج هي شبيهة تماماً بقصة الحب التي عاشتها زبيدة التميمي من قبل. يبدأ زمن الفصل الاول في عام 2008 لكنه يغور عمقاً في التاريخ لنشهد الطاعون زمن داود باشا واحتلال هولاكو وتيمورلنك لبغداد وتأسيس بغداد على يد المنصور ولنغور في تاريخ ابعد من ذلك هو تاريخ العراق البابلي والسومري، ففي واحدة من رؤى البطلة الراوية تهرب الانثى المهمشة حياة البابلي من اور عندما كانوا يوشكون على دفنها مع الوصيفات العازمات. وتستعرض تاريخها الانثوي تحت حكم الذكر عبر حضارات وعصور عديدة، فلا تستفيق الا مع طبول الحربن تقول: اصحو على "طوفان دجلة وجائحة طاعون قضت على ثلاثة ارباع سكان بغداد في عصر داود باشا.. ثم اصحو على طوفان آخر اجتاح المدينة وحاكم استبد بالناس اطاح به غزاة دمروا ما نسيه المستبد، افيق الآن فاجد الفناء مكتملاً، وانا في السرداب ادون قصتي وقصة المدينة ص208".

الراوي والشخصيات
في حديثنا عن الراوي قلنا انه "انا البطل" فهل تعد حياة البابلي بطلة الراوية فعلاً، واذا كانت الراوية تصف سيرة ناس ومدينة، افلا يكون للمدينة دور في البطولة؟ خاصة وان ثلاث شخصيات في الرواية يؤلفون كتباً عنها؟ واذا كان عنوان الرواية (سيدات زحل) الا يكون لهؤلاء السيدات دور في البطولة؟ تشير البطلة الراوية الى انها فقدت وعيها خلال تجولها في احياء بغداد اثناء الحرب، وانها شعرت بعد عودة الوعي لها انها حملت وان احداً غشيها، وتشير الى انها شعرت ان المدينة حلت في احشائها وانها اصبحت الجنين في رحمها، وتناهت اليها نبضات جنين غارق في احشائها ص98 مما يدفعنا الى ان نقرر ان البطولة في الوراية جماعية تمثلها (السدات كلهن) وان ضمن هذه البطولة الجماعية المكونة من بغداد والسيدات ثمة بطولة اخرى هي بطولة الراوية. ومن الجدير بالذكر ان الكاتبة التي وظفت مؤثرات من القص العربي في روايتها، عمدت ايضاً الى توظيف الموروث الديني والشعبي في خلق شخصية مهمة في الرواية هي شخصية (الشيخ قيدار) الذي يشبه الى حد بعيد كلا من الخضر والمهدي المنتظر، فالبطلة طوال الاحداث تبحث عنه دون جدوى، اذ لا تجده حاضراً الا في كتابه المعنون "كل يعمل على شاكلته" لكنها تكتشف وجوده في بغداد وفي غرفة الضيوف لدى عائلة البابلي مع صديقه (الاب جبرائيل) وقد جاءا لنقل مخطوطات ثمينة من مكتبة العالم الراحل حسين محفوظ واعمال المؤرخ (البيرابونا). وبعض المخطوطات من مندى الصابئة؛ تقول الراوية عن عمها الشيخ قيدار الذي اختفى منذ اختفت زوجته (فتنة) وظن ان رجال حماية احد المسؤولين اختطفها. ( سيبدو لمن يراه على وشك المغادرة وعلى اهبة الوصول بين ظهور واختفاء، حتى يحقق هوى الفؤاد الاخير، كتابه الكبير عن بغداد ورواد عدلها وحراس سرها، وسيلتحق بمن مهدوا له فكرة العمل على تدوين ذاكرة مدينة موشكة على التلاشي ص238). لقد اتاحت هذه الشخصية للرواية حركة واسعة في الزمان والمكان فتحقق من ورائها وصف لجغرافية العراق ومكوناته الاجتماعية واحداث الحروب التي مرت بها، والحضارات التي نشأت على ارضه عبر التاريخ، كما حقق التعرف على شواخص بغداد التاريخية، وخاصة ما يتعلق بالمتصوفة الذين دفنوا فيها.
تعاني "سيدات زحل" وبضمنهن الراوية البابلي المعوقات والآلام نفسها اذ يتعرضن للتهديد والقتل والاغتصاب، من جنود الاحتلال او من المسلحين المتطرفين على حد سواء، بل ان تلك التنظيمات الاسلامية المسلحة كانت اشد وطأة عليهن من جنود الاحتلال، مما دفعهن جميعاً للهرب من بغداد الى دول الجوار وطرق ابواب منظمات اللاجئين او ابواب المهربين غير الشرعيين طلباً للنجاة، وقد خرجت البابلي بجواز سفر مزور وباسم آسيا كنعان، خرجت سراً بعد ان تلقت مثل زميلاتها تهديداً بالقتل من هؤلاء المتطرفين، وكانت في العهد السابق بعد ان فقدت اخويها في حروب النظام ومات والدها بعد ان اعتقل واهين عقب اعدام ولده ماجد الذي فرّ من الجيش في حرب الكويت.
كما فقدت زوجها وطليقها فيما بعد "حازم" فحولته في المعتقل على يد طبيب تجميل عراقي وفنان تشكيلي عرف بلوحاته التي تنهش فيها رؤوس البشر طيور الغربان.
كما فقد مدرس الانجليزية "حامد ابو الطيور" لسانه لأنه قرأ على طلبته في الصف مقطعاً من الحوار في مسرحية ماكبث لشكسبير وكان هذا عاملاً في صدود الفتاة التي احبها عنه، وزواجها من رجل لا تحبه كي يساعدها في السفر الى خارج العراق.
لقد وضعت الرواية بالبستان الذي يستطيع القارئ دخوله من أي مكان شاء، وهو بستان شاءت المؤلفة ان تضع في طريق الخروج منه زهور الحب والتعايش السلمي بين الامم والشعوب.في الدافع الى الحكي تقول الراوية انها تريد ان يعرف الآخرون ما تعرضنا له نحن العراقيين من اهوال وآلام، ولقد استطاعت الكاتبة الكبيرة الدليمي ان تقدم التجسيد الخيالي الادبي لما مرّ به العراقيون من آلام فاقت كل حدود التصور.
لقد دونت فنياً تأريخ الضحايا والابرياء والمهمشين والمغدورين جنباً الى جنب مع تأريخ الطغاة والقتلة والسفاحين ومجرمي الحروب واللصوص، ولكن الكاتبة رأت كل هؤلاء بعيون المهمشين والضحايا الابرياء لا سيما المرأة.
ولا تشكل هذه الكلمات سوى ملاحظات أولية، حول رواية ملحمية كبيرة، يحتاج الناقد، ليضيء معالمها ومفاصلها كاملة، الى كتاب كامل