محمد كريم صوت خاص في الاغنية البغدادية

محمد كريم صوت خاص في الاغنية البغدادية

مازن لطيف
الارتياب عند المغني الحقيقي يتصل بالاحتمالات غير المحسوبة فيما يتعلق بحنجرته.. فهو يحاول ان يدفع عنها كل حالة طارئة تلحق بها.. كما يلحق الصدأ بالحديد.. والحنجرة رأسمال المغني، ولهذا يحرص كارها على الالتزام بنظام المحافظة عليها.. والكثير من المغنيين الذين تسللت اسماءهم من ذاكرة الاسماع وقبعوا في زوايا النسيان يستعيدون صور الذكريات العالقة

تلوح لهم كاحلام يدعون ان سبب ابتعادهم عن الغناء.. هو ان الحياة قادت خطاهم لغير ما يشتهون. وواقع الحال ان هذا الادعاء اصبح نغمة يعزف عليها اصحاب الحناج الصدئة تلك التي لم تعد تمتلك ما تعطيه، لقد استنفدت حدود الممكن وبدأ الضوء يشحب من حولها وصار لزاما عليها ان تنسحب من ساحة الغناء. لكننا في المقابل لا نخطئ اذا ما قلنا ان بعض الحناجر اقعدها اختلال المقاييس في دنيا الغناء فلا احد لم يلمس التغيرات التي حدثت حيث تمكنت فيه الاصوات الواهنة الملساء الرخوة المغتصة المبلبلة من احتلال المواقع المتقدمة في الغناء، بينما انزوت الاصوات المتدبرة العذبة القوية الجميلة.. تاركة الميدان للاصوات التي يعوزها المران والدربة. ومحمد كريم.. صوت يرمز الى الاحتفاظ بالايحاءات الايجابية في الاغنية البغدادية.. بل انه اثر الاسماء لمعانا وسطوعا.. كان في الخمسينات وفي منتصف الستينات ذلك الصوت المجلجل الذي يملأ حياتنا بهجة ويشجي الاسماع باعذب الالحان تنساب من حنجرته المتمكنة المتدربة الرشيقة.. في فترة ازدهار الاغنية البغدادية كان محمد كريم صورة من حقبة تاريخية عاشها الغناء العراقي هذه الصورة المدهشة جاء عليها حين من الدهر لم تستطع ان تقاوم لغة التطور فدلت الى النسيان. وحقيقة الامر ان محمد كريم هرب مما يحسه في اعماقه هرب بعيدا عن ضغط الصراع في حين ان العدالة الحقة هي التطلع الى معاملة جديدة مع التطور. لكن المهم اننا في هذه القطمة الاستعادية نسجل الجوهرة في الحقبة فذاكرة المستمعين تتذوق نوع من الغناء المعتق حيث يهزها الحنين اليه، لانها محكومة في عصرنا بالسماع لاغان مازالت تبحث عن هويتها الضائعة. ومحمد كريم مازال ناضر الحنجرة وان فقد بعض رنين نبراتها، ويبقى السؤال الذي يتردد هل من جديد في حنجرو محمد كريم وهل في الامكان تحويل هذا الجديد الى عطاء فني؟ وواقع الحال هو ان الفن شيء المعبود عند الفنان الاصيل وواسطة زاهية ممتلئة لنقل العواطف وافكار والخواطر النبيلة! ونجاح الفنان الموهوب المتعلم هوتمكنه من اقتصاء سر لغته الفنية واماطة اللثام عن عناصرها المتنوعة ولهذا فان المغني الفنان هو تعبئة دائمة ومدهشة لان طريقة اكتشافه لعناصر اقتداره ووعيه الكامل نتموها الدائم. لقد اتاح الوقت لمحمد كريم ان ينمي موهبته وان يكتسب فيها مرانا ليخترق عالم التجربة الغنائية بتقص دقيق ومواجهة بارعة لضغوط الحياة.. بالمقابل فان محمد كريم لم يدخل التجربة المعرفية الثقافية في الموسيقى الغناء. فهو لم يتعلم قراءة التونة ولا كتابتها ولم يحسن الضرب علي اية آلة موسيقية، فكانت الموهبة تسير عارية حقلها الخاص بدون ظهير ثقافي يكسبها اللغة بعالم الموسيقى اللا محدود. ومحمد كريم مثال للفنان الذي تذوق من الفن صورته المانعة الزاهية الرخية وتجنب الجراحات فالفنان المعاني المواجه المستبصر المعذب هو جامع للجراحات الجراحات في التطور وفي اتشاف الجديد وفي البحث عن الاسرار ان عذوبة الفن الغنائي عند محمد كريم هو في انغلاقه فالزمن يمضي في فهمه كما لو كان لا يمضي. واجه الفنان الغنائي بحزمة من احم الحرفي وبسعي تفاخري يخترق دوامات حياته، منحه امل ان ينضم للدورة الاولى للتمثيل في معهد الفنون الجميلة، ومن ثم ليقدم اغنيته الاولى في الاذاعة على الهواء عنوانها حيران بعدك ثم اغنيته الثانية سحر حبك لوعني والاغنيتان من الحانه وكلماته. تأثر عميقا بصوت محمد عبد الوهاب الكرواني وكانت اغنية يالوعتي ياشقاي من الفيلم الوردة البيضاء هي التي رسخت فيه حب الغناء ثم تاثر بمحمد عبد المطلب لفترة من الوقت وكان انشداده العميق الاخر بعد عبد الوهاب هو لفن فريد الاطرش الذي شغل كيانه الفني وهو دائم السماع لعبد الوهاب وام كلثوم وفريد الاطرش واسمهان وصالح عبد الحي ورياض السنباطي وليلى مراد. هؤلاء هذبوا فيه الذوق الفني وتعلم منهم كيفية انتقاء الكلمات، يذكر باعتزاز لقاء عاشه في بداية حياته في بلودان بسوريا حيث عقد مؤتمر كشفي عربي في العام 1936 وكان محمد كريم ضمن الوفد العراقي حيث غنى في المؤتمر وهو تلميذ ابوذية عراقية وجاء من يقول له ان احد الفنانين يريد رؤيتك وكان هذا الفنان فريد الاطرش وشقيقته اسمهان حيث ابدى الاطرش اعجابا خاصا بصوته وشجعه على الاستمرار في الغناء. طارت له اغان بغدادية وانتشرت هنا وهناك ومازالت حلاوتها تشجي الاسماع، انا الربيت والغير يصيرون يا شاعر النار بقلبي النار من الحان احمد الخليل وحاسديني عليك تستاهل ياقلبي لا ياسالي لا تظن اني احبك الدنيا حلوة ياسمين ياورد من الحان علاء كامل ودايما على لساني يا لحبهم خاب ظني من الحان سمير بغدادي سلم ياحبيب الروح من الحانه قصيدة همسة الليل من الحان محمود عبد الحميد ابوي شلون انساك من الحان محمد عبد المحسن وعدد من الاغاني الاخرى غنى ما يقرب من 115 اغنية. مؤلف وملحن النشيد الشهير الجيش سور الوطن في عام 1945. تركت الغناء لاسباب اجتماعية * كان اول سؤال وجهناه الى محمد كريم هو لماذا تركت الغناء؟ - تركت الغناء لاسباب اجتماعية تتعلق بالدرجة الاولى بنظرة المجتمع الى المغني. * الم تكتشف هذه النظرة الا اخيراً؟ - لاسباب خاصة لا اريد الخوض فيها جعلني اترك الزمن الغنائي، قبل الطفرة النوعية التي شملت نظرة المجتمع للفنان المغني وهي جزء من التربية الجديدة التي جاءت بها الثورة. * متى هويت الغناء؟ - هويت الغناء وانا طالب صغير في ثلاثينات هذا القرن، الا أنني دخلت الاذاعة كمحترف في عام 1947. صوتي متكامل * حدثنا عن صوتك؟ - ان صوتي متكامل فيه قرار وجواب. ورأينا في صوت محمد كريم انه من الاصوات الجميلة المؤثرة التي عاشت ردحا من الزمن تعطي بتمكن وسلاسة يغني بعذوبة حلقت حولها الاسماع فكانت الاغانيه تترتم بها ربات البيوت وطالبات المدارس وتتناقلها الشفاه، يتسع صوت محمد كريم الى عشرة مقامات بدرجات صوتية او تزيد بقليل، تنطلق مقاماته سليمة رائقة، تؤدي بكفاية عالية الالعان المصممة لها، ونبراته فيها حلاوة ظاهرة وجزاله متميزة في الغناء.. تطرب السامع ذبذباته الصوتية بطيئة قليلا ذلك ان ضيق تلك الذبذبات او سعتها لا يؤثران على سرعتها، في اوتاره الصوتية غلظة وهذه الغلظة متكونة اساسا من بطئ الصوت غير ان جمال نبراته الغنائية يقلل من تأثيرات هذه الغلظة في ادائه يكمن الحذق والبراعة والمسافة بين الدرجات الصوتية متوسطة ولذلك فان محمد كريم لا يلجأ الى الجوابات العالية في غنائه، لان اطلاق صوته يعرضه الى الضعف لهذا فان درجة غناءه لا تكتمل الاعند الطبقة المتوسطة. لا يستطيع صوته ان يصل الى الصول في القرار باية حال من الاحوال لذلك فان اغلب الالحان التي اداها كانت تحاول ان تكون مناسبة لدرجات صوته، يزدهر غناؤه وتنطلق نبراته في غناء المتوسط في الطبقة من ناحية العلو والانخفاض لذلك بقي صوته في المقدمة من اصوات الاغنية البغدادية عميق الاصداء قوي التأثير يحاور الاسماع في الفة وانسجام. * لماذا لم تتعلم العزف على آلة موسيقية؟ - من المؤسف جدا انني لم اتعلم العزف على اية آلة موسيقية والسبب يعود الى التزمت الذي كان يحكم بيتها، فلقد حطم والدي ثلاثة اعواد ومهما يكن فانني اتحمل لوحدي هذا القصور. انعدام المقاييس العلمية في اختيار الاصوات؟ *مارأيك في واقع الغناء العراقي؟ - في عصرنا كان لكل صوت غنائي ما يميزه فنحن نسمع اي صوت غنائي نستطيع على الفور ان نتبين اسم صاحبه، حاليا فان الغناء العراقي يعيش في فوضى الاصوات المتشابهة التي تنقصها الاصالة والتفرد فاغلب الاصوات لا تستطيع ان نتبينها وواقع الحال فان لذلك سببه الحقيقي وهو تفشي مسألة اسشهال الغناء، فاي صوت يتقدم للاذاعة والتلفزيون لا يلقى مقاومة لانعدام المقاييس العلمية لاختيار الاصوات واتساع لجنة فحص الاصوات بحاجة الى تطعيمها بالدارسين والمتخصصين لوقف التداعي الذي حل بواقع الغناء العراقي. في عصرنا عانينا الكثير والكثير ومرت سنوات من المحاولة حتى استطعنا ان نحصل على فرصة الوقوف خلف الميكرفون لا سبيل لانقاذ سمعة الغناء العراقي غير العودة الى الاصالة وتطعيم لجان الفحص بالمتخصصين فانني اقولها بمرارة ايها الغيارى حافظوا على السمعة الفنية للغناء العراقي. اسألوا الاذاعة * لماذا لم نعد نسمع لك شيئا من تراثك الغنائي في الاذاعة؟ - كنت اتمنى ان توجه هذا السؤال الى الاذاعة نفسها، اقولها بلا فخر ولا غرور ان الاغاني التي اديتها رددها الجمهور البغدادي على امتداد عصرنا بل ان المعاصرين من السمعية مازالوا يحتفظون لهذه الاغاني بالكثير من التقدير وحقيقة الامر ان الاذاعة قد منعت الكثير من الاغاني العائدة لي وهي بهذا الاجراء قد قضت على اجمل اغاني التراث البغدادي ومهما يكن من امر فانني مؤمن بان الاذاعة ستعود يوما ما الى الاغنيات العراقية الاصيلة. * على امتداد عصر باكمله ماذا ترى في الاصوات النسائية في الغناء العراقي؟ - لازلت اعتقد ان اعظم الاصوات النسائية التي قدمها الغناء العراقي هي ثلاثة.. ما عداهن لا اجد في اي صوت نسائي الى الان ما يستحق الاشارة اليه، هذه الاصوات هي زكية جورج، سليمة مراد، زهور حسين، ولكل واحدة من هؤلاء لها صوت مميز وتأثير خاص على السامع في مرحلة فنية كاملة، فزكية جورج تشجه السامع وتنقله الى عالم من المتعة الراقية، وسليمة مراد وجبة دسمة من الغناء الذاهب الى الاسماع والمؤثر في النفوس الى حد بعيد وزهور حسين صوت شعبي ممتاز ملامحه الاصالة البغدادية الفريدة. * وعن ارائه في قدرات الملحنين العراقيين هؤلاء الذين طرحنا عليه اسماؤهم حيث اجاب: يحيى حمدي.. طاقة من الموهبة الجيدة في التلحين فقط. احمد الخليل.. ملحن متمكن من صنعته. سمير بغدادي.. فنان لم يعط لفن التلحين جهده كامل. علاء كامل.. ملحن صاحب قدرات غير محدودة. عباس جميل.. فنان وملحن اعتز به.. وله فضل كبير في الاغنية العراقية ولقد فانتي ان اغني له لحنا من الحانه العراقية الصميمة. رضا علي.. مقتدر من التلحين وله موهبة جيدة وكان الافضل له ان ينصرف للتلحين دون الغناء. محمود عبد الحميد.. في التلحين والغناء جدير ومتمكن. محمد عبد المحسن.. في الاداء مقتدر وكان الافضل له لو انصرف للغناء دون التلحين. ولما سالناه عن ملحني الجيل الحالي قال.. - لا اعرف لاحد له فضل في التلحين وباقتدار سوى الفنان محمد جواد اموري ففي رأيي انه اثبت فعلا انه الملحن الوحيد الذي يمكن ان تقارن انجازاته في عالم الاغنية العراقية بانجازات ملحني جيلنا.