عين القارئ

عين القارئ

محمود الرحبي

تلك العين التي يحتاج الكاتب أن ينظر بها قبل أن يغامر بإرسال كتابه إلى المطبعة. هي العين التي لا يمتلكها الكاتب، ويمتلكها كل قارئ مهما كان شأنه، وهناك أمثلة كثيرة في تاريخ الأدب تدلل على هذا الافتراض، وعلى أهميته بالنسبة للكاتب المحترف.

فالكتاب تتنوع موضوعات اشتغاله، والذين كثيرا ما يضطرون – بحكم طبيعة بعض الموضوعات – للدخول إلى مناطق بعيدة يكونون فيها غرباء وضائعين إن لم يتعضدوا بخبرات الإنسان العادي الذي يعتبره بورخيس (مكتبة لحاله).
هنا عليه ولكي يتوثق من اشتغاله، ولكي لا يتحول ما يكتبه إلى مادة للضحك والسخرية، – بسبب ترفعه الوهمي- أن يلجأ إلى الانصهار في هذا المناخ الجديد ويعيشه ويعرفه ويتشرب منه ويفيد من مزاوليه من البشر المحترقين روحا وجسدا في أتونه.
الكاتب الروسي الكبير إيفان تورجنيف، حين انتهى من مخطوطة روايته الآباء والبنون، كان يكتبها في جزيرة، فعرضها على أحد المصطافين تعرف عليه صدفة في تلك الرحلة، وقد فاجأه بملاحظات في غاية الأهمية: (صرت أنصت وأتطلع باهتمام كبير وكأنني أريد التثبت من صحة أحاسيسي) وكان تور جنيف يفعل ذلك من منطلق إيمانه العميق بضرورة تفاعل الكاتب مع بيئته بكل ما تحتويه من بشر وطبيعة، وكذلك من منطلق إيمانه بالحرية، حرية الكاتب التي لا يحدها سوى العقل، كيف لا وهو القائل: (إن الموهبة وحدها غير كافية، فلا بد من التواصل الفاعل مع البيئة التي ينوي الكاتب تجسيدها، ولا بد من الصدق، الصدق الذي لا يرحم، ولا بد من الحرية، الحرية الكاملة في الآراء والمعتقدات، ولا بد أخيرا من المعرفة).
في هذا السياق، قرأت بأن الروائي الإيطالي امبرتو إيكو، والذي باع اثنين وخمسين مليون نسخة من رواية واحدة وهي (اسم الوردة) قبل أن يشرع في كتابة روايته التالية التي تدور حول عالم البحار، لم يكتف بالقراءة والمعرفة والبحث في هذا الموضوع، بل فوق ذلك قام بتعلم فن الغوص، واضطر لأن يغوص إلى أعماق البحار، لكي يستطيع أن يلامس مناخ روايته روحا وجسدا قبل أن يشرع في الكتابة.
هؤلاء الكتاب كانوا يبحثون عن خيرات تلك العين التي لا يملكونها، فإذا كان الكاتب يملك القلم المجرد، فإنه لا يمتلك العين المجردة التي تلتقط أصعب النقاط من السطح، والتي تجعل الكاتب يتساءل فاغرا فاه: (أوه.. كيف لم انتبه!).
ماركيز حين انتهى من رواية (الجنرال في متاهته) التي تدور حول الأيام الأخيرة من حياة محرر أمريكا اللاتينية (سيمون بوليفار) عرض روايته على فيردريك كاسترو الرئيس الكوبي الذي كان صديقه، فكانت دهشته لا توصف حين اكتشف كاسترو ـ وعبر عينيه المجردة الثالثة – أخطاء منطقية لو وقع فيها ماركيز لنسفت مشروعه الروائي نسفا.
وأنا شخصيا جربت ذلك حين كتب روايتي القصيرة (خريطة الحالم) والتي تدور حول شخصية إمام مسجد يسافر في رحلة قصيرة إلى نيوزيلندا، فالتجأت إلى إمام مسجد شاب في حارة جبروه بمطرح، ومن خلاله تجنبت الوقوع في منزلقات منطقية ما كان لي أن أتجنبها لو لم أطلب منه أن يمدني بيد العون.
عن جريدة النهار اللبنانية