الحكواتي في مثنوي مولانا جلال الدين الرومي

الحكواتي في مثنوي مولانا جلال الدين الرومي

عبدالكريم يحيى الزيباري
الكثير يلفظون اسم الكتاب خطأ، ومنهم كاتب السطور قبل كتابتها، والصحيح أنَّ الكتاب هو نسبةٌ مِنْ كَلِمَة مُثَنَّى: مُثَنَّوِيّْ. لا بفتح الميم وتسكين الثاء، وفتح النون، كما هو شائعٌ بين المثقفين، وجلال الدين الرومي (604- 672هـ/ 1207-1273م) من أعمدة التصوف، وأعلام الشعر الصوفي في القرن السابع الهجري، انقطع للتصوف وَنَظَّمَ الأشعار وأنشدها،

بعد لقاء شمس الدين تبريزي، وأنشأ طريقة صوفية عرفت باسم(المولوية) تتميَّزُ بإدخال الرقص والإيقاعات في حَلَقْ الذِّكْر، انتشرت في تركيا وآسيا الغربية، ولم يبق لهم اليوم إلا بعض التكايا في تركيا وفي حلب وبعض أقطار المشرق.
بمناسبة مرور 800 عام على ولادته، أعلنت منظمة اليونسكو، عام 2007 للاحتفاء بجلال الدين الرومي، لمكانته العلمية والشعبية، باعتباره رمزاً للمحبة والتسامح، ورفض الأنانية والحسابات الضيقة. فأعدَّتْ بلدية قُوْنِّيَة أكثر من 150 نشاط، في أميركا والعواصم الأوروبية، وكذلك قررت منظمة اليونسكو استصدار ميدالية باسم جلال الدين الرومي، وهو اليوم بين الشعراء الأكثر شعبية في الولايات المتحدة، بينما ما كان معروفاً قبل عشرة أعوام.
لا أحد يعرف أنني أعرف: أنَّنا قَدْ أَخطأنا الطريق مرةً ثانية، أقولها عند أوَّل قراءةٍ لمُثَنَّوِيّْ جلال الدين الرومي، الذي لن يسعني الحديث عنه بمجلداته الخمسة، وأسراره الكثيرة، أولُّ قصة بعنوان"عشق الملك لجارية مريضة وتدبيره من أجل شفائها"(35- استمعوا أيُّها الأصدقاء إلى هذه الحكاية، إنَّها في الحقيقة تصفية لأحوالنا، كان هناك أحد الملوك.. واتفق أنْ رَكَبَ الملك مع خواصه.. ورأى الملك جاريةً في طريقهِ، فَصارَ غلاماً لها ذلك الملك.. وعندما اشتراها وقرَّ عينا، شاءَ القضاء أنْ تسقط تلك الجارية مريضة. لقد كان عند أحدهم حمار ولم يكنْ لديه سرج له، وعندما وَجَدَ السرج خطفَ الذئبُ الحمار- وكان لديه الإناء ولم يكنْ يحصل على الماء، ولمَّا حَصَلَ على الماء انكسرَ الإناء- وجمعَ الملك الأطباء عن يمين ويسار.. ومهما بذلوا من عِلاج ومن دواء زاد في المرض-55- عندما رأى الملك عجز الحكماء، أسرعَ إلى المسجد حافياً..واتجهَ صوب المحراب.. انطلق بلسان فصيح في التحميد الدعاء.. وبينما هو ببكائه غلبه النوم، فرأى شيخاً فيما يراه النائم، وقال له أيها الملك، بشراك، حاجتك مَقْضِّيَة يأتيك غداً من لدنا غريب.. كان الملك منتظراً في الشرفة، حتى يتحقَّق مما أبدى له من سر، فرأى رجلاً فاضلاً وقوراً، شمساً بازغة في قلب الظل، كان يقترب من بعيد، وكأنَّهُ الهلال كان عَدَمَاً ووجوداً كأنَّهُ الخيال، إنَّ الخيال يكون كالعدم بالنسبة للنفس، فانظر إلى عالمٍ بأكمله قائمٌ على خيال، فصلحهم وحربهم قائمان على خيال، وفخرهم وعارهم مُستندان على خيال، وتلك الخيالات هي فِخاخُ الأولياء هي انعكاسٌ لحسان بستان الله، وذلك الخيال الذي رآه الملك في النوم، كان يتجلَّى في طلعة الضيف، وتقدَّم الملك بدلاً من الحجاب نحو ذلك الضيف القادم إليه من الغيب -75 وكلاهما ينتمي إلى هذا البحر تعلمَّا السباحة فيه، وروحهما متصلتان دون رتق- قال الملك لقد كنتَ أنت محبوبي لا تلك الجارية، لكن الأمور في هذه الدنيا تفضي بعضها إلى بعض)جلال الدين الرومي- مُثَنَّوِيّْ- ترجمة د.إبراهيم الدسوقي- المشروع القومي للترجمة- 1996- القاهرة- ص39- 43.
وظائف الأفعال: العنوان من ثماني كلمات، تتآلف في شقين، يقسمان القصة:
عشق الملك لجارية مريضة........... شق1
تدبيره من أجل شفائها.............. شق2
وتحت هذين الشقيَّن، تندرجُ بقيَّة الوظائف تحت هذين الشقَّين، (رَكَبَ الملك، رأى جارية، تعلَّق قلبه بها، اشتراها/ شق1)وهذا شقُّ المقدمة، ثمَّ يبدأ الشق الثاني بعقدة القصة من مرض الجارية وفشل الأطباء، ولجوء الملك إلى المسجد حافياً، وحل القصة في الغريب القادم من عوالم الغيب. مع تحفظنا على رَكَاكَة الترجمة الحرفية لجملة(فَصَار غلاماً لها ذلك الملك)تعلَّق قلبه بها، فأسرت قلبه، طار قلبه إليها عشقاً...الخ.
فالقصة بحسب وظائف فلاديمير بروب تتألَّف من ثلاث عشرة حكاية، تنتهي بوظيفة المعرفة كمعظم القصص التي يزخر بها الكتاب، لكن معرفة مَنْ؟ معرفة الله. والتي منها ابتدأ مقدِّم الكتاب بدايةً مختلفة لتحوُّل جلال الدين عن البداية التي ذَكَرها ابن بطوطة(يذكر أنه كان في ابتداء أمره فقيهاً مدرساً، يجتمع إليه الطلبة بمدرسته بقونيه، فدخل يوماً إلى المدرسة رجل يبيع الحلواء، وعلى رأسه طبق منها، وهي مقطعة قطعاً، يبيع القطعة منها بفلس. فلما أتى مجلس التدريس قال له الشيخ: هات طبقك. فأخذ الحلواني قطعة منه وأعطاها للشيخ.. فأخذها الشيخ بيده، وأكلها. فخرج الحلواني، ولم يطعم أحداً سوى الشيخ. فخرج الشيخ في أتباعه، وترك التدريس، فأبطأ على الطلبة. طال انتظارهم إياه، فخرجوا في طلبه فلم يعرفوا له مستقراً. ثم إنه عاد إليهم بعد أعوام، وصار لا ينطق إلا بالشعر الفارسي المتعلق الذي لا يفهم) رحلة ابن بطوطة- باب ذكر سلطان ميلاس- ص141. بينما مقدِّمَة الدكتور إبراهيم الدسوقي (أنَّ مولانا جلال الدين كان خارجاً من مدرسته..وكان يمرُّ من أمام خان شكر ريزان (صابو السكر) وكان شمس الدين نازلاً فيه، فتقدَّم من الموكب وأمسك عنان مطية جلال الدين وقال: يا إمام: هل أبو يزيد البسطامي أعظم أم محمَّد صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب: أي موضعٍ لأبي يزيد إلى جوار أعظم العالمين؟ فقال شمس الدين: فلماذا قال مع كلِّ عظمته:"ما عرفناك حقَّ معرفتك"بينما قال أبو اليزيد: سبحاني ما أعظمَ شأني..الجواب لمولانا: إنَّ أبا اليزيد سَكَرَ من جرعةٍ واحدة، وتحدَّثَ حديث شَبَع، وامتلأ وِعاءُ إدراكه بهذا القدر..لكن حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كان لديه استسقاءٌ عظيم وظمأٌ شديد، وكان صدره المبارك قد صار أرض الله الواسعة مِصداقاً لـ(ألم نشرح لك صَدرك).. وأنَّ أبا اليزيد عندما وَصَلَ إلى الحقِّ وَجَدَ نفسهُ ممتلئاً ولمْ ينظرْ إلى ما هو أبعد) جلال الدين الرومي- مُثَنَّوِيّْ- ترجمة د.إبراهيم الدسوقي- المشروع القومي للترجمة- 1996- القاهرة- ص18.ثمَّ أنَّ مريدي جلال الدين بدؤوا يتحرشون بالشيخ الغريب العجيب شمس الدين، الذي اختفى فجأة في يوم الخميس 21 شوَّال 643 هـ، وهو ما تناوله الروائي أورهان باموك في روايتيه"اسمي أحمر"و"الكتاب الأسود"بخيالٍ جامح لا يعرف الحدود، والحديث المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم(سبحانك ما عرفناك حق معرفتك)لا أصلَ له في كتبِ السنَّة، ولكن ذكره المتصوفة في كتبهم، كتفسير شهاب الدين الآلوسي"روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"وبعض الكتب الأخرى على أنَّه من الأدعية المأثورة عن المتصوفة، ومعناه: فما عرفه العارفون من حيث هو وإنما عرفوه من حيث هم وفرق بين المعرفتين.
وبداية الخطاب من شقين أيضاً:
استمعوا أيُّها الأصدقاء إلى هذه الحكاية. شق1
إنَّها في الحقيقة تصفية لأحوالنا...... شق2
استمعوا = دال تأكيدي لرواية ابن بطوطة أنَّه ما خطَّ بيدهِ شيئاً، ولكن تلامذته دونوا من بعده أقواله، وأيَّدّهُ ابن بطوطة (فكان الطلبة يتبعونه ويكتبون ما يصدر عنه من ذلك الشعر، وألفوا منه كتاباً سموه المثنوي. وأهل تلك البلاد يعظمون ذلك الكتاب ويعتبرون كلامه، ويعلمونه ويقرؤونه بزواياهم في ليالي الجمعات)رحلة ابن بطوطة- باب ذكر سلطان ميلاس- ص141. وأنَّ جلال الدين كان من القصَّاصين، للازِمَة(استمعوا أيُّها الأصدقاء) أو يكون أملى عليهم، وأنَّهُ قد تتلمذ على يد شمس الدين التبريزي الذي حَوَّلَ مَسَار جلال الدين من علم القال إلى علم الحال والخلوة والذِّكْرْ، كَمَا بَيَّنَ في الشقِّ الثاني. وهكذا تأتي بقيَّة العبارات من شقيَّن، كلازِمَة شكلية، للبيت الشِّعري(صدر/ عجز). وبيَّن الغرض من القصة(إنَّها في الحقيقة تصفية لأحوالنا)وهي في الحقيقة انعكاس لحال جلال الدين، والجارية التي عشقها هي شمس الدين التبريزي.
وإذا كان جلال الدين قد ذَكَرَ(وتلك الخيالات هي فِخاخُ الأولياء)فإنَّهُ لم يذكر بأنَّها فِخاخُ شياطين الإنس والجن أيضاً، وهو ما نستنتجه من مفهوم المخالفة، كاستدلالنا باعتبار مفهوم المخالفة من الحديث(الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا) يَنْفْيِ الشُّفْعَةِ عَمَّنْ لَمْ يُوَاثِبْهَا. فأطماعُ الإنسان ومخاوفه التي تدفعهُ لارتكاب أبشع المجازر ما هي إلا تخاريف وخيالات لا أصلَ لها في الواقع، وكما يقول علماء النفس المعاصرين أنَّ أكثر من 99% مما نخاف منه لا يقع ولا يحدث، وكما في قوله تعالى(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)آل عمران: 175. وأولياءَهُ في الآية الكريمة مفعول به، والشيطان هو الفاعل المتأخِّر، وتقدير القول هو: الشيطانُ يُخّوِّفُكُمْ أولياءَهُ، أيْ نحن نخاف أولياء الشيطان، والأصحُّ أنْ نخاف الله، ولو كان خوفنا من الله بحقِّ قدرهِ، لَمَا أمِنْاهُ وخِفنا غيرهُ، وما خافَ الله إلا مؤمن، وما أمِنَهُ إلا مُنافِقْ.(فالروح في كلِّ يوم من جرَّاء ضغوط الخيال، والتفكير في النفع والضر، وخوف الزوال- 415- لا صفاءَ يبقى لها ولا لطف ولا جلال، ولا طريق لها ترحل منه صوبَ السماء/ مُثَنَّوِيّْ- ص72).
لم تنتهِ القصة، بل جاء الغريب يفحص الجارية، ليكتشفَ عشقها لطبيب من سمرقند، فيحتال الملك لإحضاره، ويدخله مع الجارية ستة أشهر، حتى ينطفئ عشقها، ثم يسقيه شراباً يقتله، ويقارن قتله بِقَتْلَة الغلام في قصة موسى عليه السلام مع الخضر(مُثَنَّوِيّْ/ص56).
ويروي الكثير من القصص والحكايات بمقصد العبرة والحكمة، كقصة الملك الأحول والأستاذ الأحول(مما يروى أنَّ أستاذاً قال لأحد المصابين بالحول، أدخل الحجرة وهات تلك الزجاجة، فقال الأحول أيُّ الزجاجتين أحضرها؟ بيِّنْ لي الأمرَ جيداً..فقال الأستاذ: اكسرْ واحدة من الزجاجتين، وعندما كسرَ واحدة اختفتْ كلتاهما عن ناظريه..فالغضب والشهوة يجعلان المرءَ أحول، ويحوِّلان الروح عن طريق الاستقامة/ مُثَنَّوِيّْ- ص65).
ثمَّ يُوَظِّف قصة قصير صاحبُ جَذيمة الأبرش مع الزَّبَّاء، فوجَّهَ إليها قصيراً اللخمي، مجدوع الأنف وكأنَّ جَذيمة قد طرده، فاستأمنته الزباء، ووجَّهت قَصِيراَ اللَخْميّ بالعِير ليَجْلِب لها من بَزِّ العراق، فجعل الأحمال صناديق، وجعل في كل صُندوق رجلاً معه السلاح، ثم تنكّب بهم الطريقَ وأخذ على الغُوَير، فسألْت عن خَبره فأُخبرَت بذلك، فقالت: عسى الغُوَير أَبْؤُساً. تقول: عسى أن يأتي الغُوَير بشرّ، فقتلت الزَّبَّاء وأدركَ جَذيمة ثأره. ملك من ملوك اليهود، نَظَرَ بعين الأحول إلى النصارى وأراد فناءهم(وهكذا صارَ الملك أحول من الحقد اليهودي/ مُثَنَّوِيّْ- ص65) فَقال له وزيره المجوسي المحتال(أيها الملك اقطع أذني وابتر يديَّ واجدع أنفي..ثمَّ إيتِ بي إلى المشنقة/ مُثَنَّوِيّْ- ص66.)فيستأمنه النصارى على دينهم فيبثُّ بينهم الفرقة والنزاع والتحارب. ثمَّ يوظِّفُ قصة صاحب الأخدود، وتشجيع الرضيع لأمِّه على الولوج في النار(فصاحَ بها ذلك الطفل إني لم أمتْ/ مُثَنَّوِيّْ- ص102.). وهكذا يوظِّفُ جلال الدين الرومي جميع القصص والحكايات الشهيرة التي كان قَدْ قَصَّها في مرحلته كحكواتي وقَصَّاص في الترويج للمولوية.