مولانا جلال الدين الرومي..  أحوال العشق وخرائطه

مولانا جلال الدين الرومي.. أحوال العشق وخرائطه

حكيم عنكر
في تبريز، ستنشأ علاقة روحية صعبة وغاية في الالتباس بين شاعر صوفي كبير وصاحب طريقة، هو مولانا جلال الدين الرومي، وبين تلميذ لامع متوقد هو شمس الدين التبريزي، تحولت معها الآية معكوسة. لقد أغرم الأستاذ بأدب التلميذ وفيوضه الروحية، وبدل أن يكون الأستاذ قدوة لطالب المعرفة، أصبح الشاب اليافع منجما غنيا لفيوض الأستاذ، يتعلم منه الحكمة التي هي مطلب كل باحث عن الحقيقة الكلية.

ستتعرض هذه العلاقة بين"الشيخ"و"المريد"لضربة قاصمة، بعد أن عثر على الشاب شمس الدين مقتولا. لقد أكلت نار الغيرة قلوب أتباع المولوية، لم يريدوا، حسب فهمهم، أن ينتهي أستاذهم ومعلمهم إلى هذا المهوى السحيق، فجرحوا روحه وكسروا مرآته بأن سحلوا الشاب في حادث غامض، ووضعوا نقطة على السطر في تجربة عرفانية بالغة الإلغاز.
ولأن للألم أوطاناً أخرى يلجأ إليها المكلوم، فقد سدر الرومي إلى منتهاه، وكانت تلك الرباعيات التي فاضت عنه وفاض عنها في تجربة أليمة، تؤرخ لهذا الحب الصوفي الباحث عن كينونة أخرى.
كان خطابه الصوفي خطابا منافاً ومناقضاً، تماما، للعنف والكراهية، خطاباً يؤسس لعالم جديد، قائم على المحبة، والمحبة هي كلمة من كلمات الله ونعمة يوزعها بين البشر، حتى لا يقتتلوا من أجل ومض فان.
أقواله وأشعاره ومساره الحياتي مكان يشد إليه العقل وتهفو إليه الروح، اُنظروا إليه يقول:"إن الحبيب هو كعبة الروح، إن كنتم لا تعلمون، فحيثما تولوا، فولوا وجوهكم شطره".
يكتب إبراهيم الدسوقي شتا، مترجم"مختارات من ديوان شمس الدين التبريزي"، وهو نفسه الذي ترجم كتاب"المثنوي"، أن من صفات عرفان جلال الدين الرومي أنه مضاد تماما لتصوف الزهد والانسحاب، وأنه -إن شئنا الدقة- تصوف المواجهة والصراع والقتال. ومن هنا، كما يقول الدسوقي شتا في مقدمة «المثنوي»، «تشيع روح الحنو على البشر والنظر بعين الإشفاق، بل وأحيانا الفهم، إلى ألوان ضعفهم»؛ فلا معنى لعفة -كما يقول- بلا إغراء، ولا معنى لأي ارتفاع عن مغريات الدنيا إلا إذا كانت هذه المغريات موجودة بالفعل؛ وبالتالي فعرفانه الصوفي هو ابن للحياة وخارج من أنساغها ومن تجاربها.
العشق الصوفي هو سيد كل عشق وهو غاية كل تجربة صوفية، مهما كان زمنها وسياقها التاريخي الذي ولدت فيه؛ ألم يقل قبله الشيخ محيي الدين ابن عربي في ديوانه"ترجمان الأشواق"ما يعزز هذا النحو أو يفوقه، حينما يجعل من"الحب"، أو «الحب الإلهي»، دينا قائم الذات، فيه تتجلى الحكمة السامية لكل الرسالات السماوية.. يقول الشيخ الأكبر مولانا محيي الدين ابن عربي: «أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني.
وحين يصير القلب قابلا كل آية، تنتفي الحدود، ولا تبقى إلا حقيقة واحدة. هذه الحقيقة هي ما يحدثنا عنها مولانا جلال الدين الرومي في ديوانه"المثنوي".
اسمعوه يقول: وهناك زجاجة مليئة بالألم اسمها الجسد، فحطموها على الحجر وانجوا تماما.
في إحدى دفقاته يقول:"وعندما لا يكون عدو فالجهاد محال، وإن لم تكن شهوة لم يكن ثمة امتثال"؛ ويقول في مقام آخر:"ولا يكون صبر عندما لا يكون لديك ميل؛ وعندما لا يوجد خصم، ما بحاجة إلى قيامك بالاحتيال". وفي رد على مناهج الصوفية الأخرى، التي تدعي الزهد والدروشة، يقول:"انتبه ولا تجعل نفسك خصما، ولا تصر راهبا، ذلك أن العفة رهينة بوجود الشهوة".
إن الإغواء مرغوب في تتبع مفهوم الحب الإلهي انطلاقا من العلاقة العرفانية التي جمعت جلال الدين الرومي وتلميذه شمس الدين التبريزي. وأثرها الروحي على الأستاذ من خلال التجليات الشعرية في المثنوي، مع الوقوف على أشكال المقاومة التي تعرض لها فكر يخرق الحدود، كالفكر الصوفي، من طرف أهل التشدد والظاه. فتصوف هؤلاء كان تجربة مرة في خرق الحدود وكسر القواعد وانتهاك مراسيم البلادة.
عن العربي الجديد