بغداد تشيع الملك فيصل الأول 15 أيلول 1933

بغداد تشيع الملك فيصل الأول 15 أيلول 1933

علي أبو الطحين
كان صباح يوم الجمعة 15 من أيلول سنة 1933 يوماً مشهوداً في بغداد ، لم تشهد مثله في تأريخها ، حيث خرجت جماهير الشعب عن بكرة أبيها لتوديع فارسها ومليكها ، الملك فيصل الأول رحمه الله . كان الملك فيصل قد توفي في بيرن في سويسرا في اليوم الثامن من أيلول ونقل جثمانه بالبحر من أيطاليا الى حيفا في فلسطين بالباخرة البريطانية (دسباج) ، فوصل يوم 13 أيلول ،

ومن فلسطين نقل الجثمان بالطائرة الى بغداد . حطت الطائرة في مدرج الرطبة في ظهر يوم الخميس 14 أيلول ، ولم يكن هناك متسع من الوقت لأقامة المراسم في بغداد ذلك اليوم، فبقيت الطائرة جاثمة في الرطبة تحت حراسة قوات الهجانة العراقية ، حتى أنطلاقها الى بغداد فجر اليوم التالي 15 أيلول .

بدأت الجماهير تتدفق على طريق موكب التشييع في بغداد منذ الليل ، وحين حلت ساعة الفجر كانت سطوح البنايات والشوارع قد أمتلئت بالمشيعات والمشيعين، وغص شارع الرشيد ومقتربات جسر مود بالمواطنين ،كبارا وصغارا ، فقراء وأغنياء، تركوا بيوتهم وتجمعوا في منظر غير مألوف. تقول المدرسة الأميركية عايده ستاوت في مذكراتها: حصلت على موقع في سطح أحد البنايات المطلة على جسر مود التي تشرف على طريق موكب الجنازة ، وبقينا ننتظر طويلاً حتى اشرفت تسع طائرات رافقت طائرة جثمان الملك تحلق فوقنا بنسق دائري منتظم . وقد أضاف شبان الكشافة في الأسفل نسق من الالوان مع حشود الجماهير الممتدة ، بينما اتشحت السطوح والبالكونات بسواد ملابس النساء .
كانت تسع طائرات من طائرات القوة الجوية العراقية قد انطلقت لأستقبال الطائرة القادمة ، وحامت بنسق دائري حول مدينة بغداد ، حتى هبطت الطائرة بسلام في المطار المدني في الوشاش في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم . قدم مع الجثمان من فلسطين بالطائرة كل من الملك علي ، ووزير الخارجية نوري باشا السعيد ، ووزير الأقتصاد والمواصلات رستم بيك حيدر ، وسفير العراق في لندن جعفر باشا العسكري .
تقدم الملك غازي ليستقبل عمه الملك علي عند خروجه من الطائرة ، فقبل يدي عمه وتعانقا في منظر مؤثر . لم تسمح قوات الشرطة سوى لعدد قليل من المستقبلين في مبنى المطار ، يضم رئيس الوزراء والوزراء ورئيسا مجلس الاعيان والنواب وآخرين ، وكذلك الأمير عبد الله الذي سبقهم من عمان الى بغداد . وعند نزول النعش عزف السلام الملكي وحيته فصيلة من حرس الشرف بأفراد من كتيبة الهاشمي والحرس الملكي . قام ستة من ضباط الجيش العراقي النصحاء بحمل النعش ، ورفع عالياً ليوضع في عربة مدفع عسكرية ، وضعت أمام النعش صورة كبيرة للملك الراحل وقد غطى النعش بقماش من حرير ، وأحيط من فوق بأثنى عشر علماً عراقياً . وخلف النعش قاد أحد الضباط حصان الملك مجللا بالسواد وحاملا الى جانبه سيف الملك المرصع . ويسير كذلك خلف النعش مجموعة من ضباط الجيش حاملين أوسمة ونياشين الملك الراحل موضوعة على وسادات من حرير .
انطلقت عربة النعش ، تجرها ستة خيول مجللة بالسواد ، ويتبعها الملك غازي مع الحرس العسكري ، في رحلة طويلة وبطيئة لأربعة أميال من المطار عن طريق الصالحية وجسر مود الى شارع الرشيد ثم البلاط الملكي . كان من المتوقع صعوبة العبور على جسر مود لكثرة الجماهير المكتظة التي تنتظر منذ الفجر . فالتجأ منظمو الموكب الى حيلة، فبعد أفساح الجماهير المجال للنعش والوزراء المشيعين بالعبور على الجسر ، تم قطع الجسر من خلفهم ، تاركين عدة ألآف من الجماهير دون سبيل للعبور خلف النعش . بعد العبور وقع حادث لأحد ضباط الجيش المرافقين ، الرائد رشيد علي ، حين أدى التدافع الى سقوطه تحت عربة النعش فدهس بعجلات العربة وتم نقله الى أحد الفنادق القريبة لتلقي العلاج .
سبق موكب التشييع الى البلاط الملكي أكثر من خمسمائة شخص من المدعوين من سفراء ورجال السلك الدبلوماسي والوزراء السابقين والنواب والاعيان والقناصل وكبار الموظفين والتجار واعضاء الجاليات الاجنبية والاشراف والوجهاء والمحامين والاطباء وارباب الصحف وغيرهم . تقول عايده ستاوت أن زوجها كان من المدعوين الذين ينتظرون في البلاط ، وطال انتظارهم لوصول النعش . وكان مدير التشريفات يدعوهم بالأصطفاف في باحة البلاط حسب المرتبة والاهمية للسير خلف الجنازة كلما سمع خبر قرب وصولها ، حتى ضاقوا ذرعاً ، ولما وصلت الجنازة بشكل مفاجئ ذهبت كل ترتيباته ادراج الرياح ، فزوجها كان من المقرر ان يكون في المقدمة بجانب ناظر خزينة الملك ، لكنهما وجدا نفسيهما بعيدا خارج المسير بتدافع المشيعين من كل الجهات .
وصل النعش الى البلاط الملكي في تمام الساعة العاشرة ، فسار الموكب يتقدمه فصيل من الحرس وموسيقى الجيش العراقي التي كانت تعزف الالحان الحزينة . وأنتظم المشيعون يتقدمهم العلماء والرؤساء الروحانيون في مقدمة الموكب ، ثم جثمان الملك الراحل على العربة ويسير خلفه الملك غازي والملك علي والامير عبد الله والامير الحسين والامير عبد الاله وبقية افراد العائلة الهاشمية يتبعهم الوزراء وكبار الشخصيات . وعند الوصول الى ساحة المقبرة الكائنة قرب جامعة آل البيت (دار البرلمان) قام رجال الشرطة بأستخدام العصي والهراوات لمنع الجماهير الغير مدعوة من الدخول الى موقع الدفن ، فلم يحضر الدفن سوى بضعة مئات من المدعوين . حمل جماعة الضباط جثمان الملك ووضعوه على المكان المعين لاقامة الصلاة عليه وبعد أن أقيمت الصلاة حمل الضباط الجثمان مرة ثانية وانزلوه الى مرقده الاخير وفي اثناء ذلك اطلقت المدافع 99 اطلاقة . وبعد أن تم الدفن عزف السلام الملكي واطلقت ثلة من الجنود الطلاقات الأخيرة من بنادقها لوداع الملك . ثم قام الوزراء والمدعون فوضعوا آكاليل الزهور على قبر الملك الراحل ، وتقدموا بعدها يمرون بالنظام لتعزية الملك غازي الذي وقف جانباً مع افراد العائلة المالكة لأستقبال المعزين .