لغز الماريشال تيتو

لغز الماريشال تيتو

بقلم "بيفان"
الوزير البريطاني الثائر
كاتب هذا التحقيق الصحفي هو مستر ايتورين بيفان وزير العمل السابق في بريطانيا الذي استقال وهاجم الحكومة البريطانية هجوما قاسيا احدث ضجة وهزة سياسية في شتى دول العالم فقد قال انه استقال لان الحكومة "تسرق" الاعتمادات المالية المخصصة للاغراض الاجتماعية لانفاقها في مشروعات الاستعداد للحرب،

وانه لا يستطيع ان يتعاون مع حكومة تفضل الدفع على الخبز!.. وقد كتب بيفان الوزير الثائر هذا المقال على اثر زيارته ليوغوسلافيا واجتماعه بالماريشال تيتو رجل يوغوسلافيا الاول الذي فعل مالم يفعله اي زعيم سواه في اوروبا الشرقية.. الرجل الذي تحدى ستالين اقوى رجل في العالم، وانتصر عليه.
كاتب هذا التحقيق الصحفي هو مستر ايتورين بيفان وزير العمل السابق في بريطانيا الذي استقال وهاجم الحكومة البريطانية هجوما قاسيا احدث ضجة وهزة سياسية في شتى دول العالم فقد قال انه استقال لان الحكومة "تسرق" الاعتمادات المالية المخصصة للاغراض الاجتماعية لانفاقها في مشروعات الاستعداد للحرب، وانه لا يستطيع ان يتعاون مع حكومة تفضل الدفع على الخبز!.. وقد كتب بيفان الوزير الثائر هذا المقال على اثر زيارته ليوغوسلافيا واجتماعه بالماريشال تيتو رجل يوغوسلافيا الاول الذي فعل مالم يفعله اي زعيم سواه في اوروبا الشرقية.. الرجل الذي تحدى ستالين اقوى رجل في العالم، وانتصر عليه.

كل الصحف تتحدث عن يوغوسلافيا!.. وكل الكتاب يكتبون عن الماريشال تيتو!.. وكل العالم يراقب ما يحدث وراء اسوار هذه الدولة التي اصبحت اكثر دول شرقي اوربا دويا!.. ان عدد سكانها لا يزيد على 16 مليون نسمة!.. ومع ذلك فان الجميع يتحدثون عنها!.. وعد سكان بولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا يزيد على عدد سكان يوغوسلافيا بحوالي 37 مليون نسمة.. ومع ذلك فالجميع يتحدث عن يوغوسلافيا.. ولا احد يتحدث عن بولندا او تشيكوسلوفاكيا او رومانيا!
لماذا ؟.. لان يوغوسلافيا احدثت من الضجيج والصخب مالم تحدثه دولة اخرى!.. وليس هذا بجديد عليها .. فقد احدثت ضجيجا وصخبا مماثلين في عام 1941 ! وكان المارشال "تيتو" الذي يحدث الصخب والضجيج اليوم هو نفس الشخص الذي احدث الضجة في عام 1941، مع فارق واحد هو ان "تيتو" 1941 كان شخصا مغمورا لايعرف عنه العالم اكثر من انه يتزعم مقاومة الالمانيين والايطاليين ويقض مضاجع رجال الجستايو.. ولمع نجم "تيتو" المغمور وبدأ الجميع يتحدثون عن مغامراته ونضاله!.. وكما يحدث عادة كلما لمع نجم جديد، بدأ الصحفيون والساسة يحاولون معرفة كل شيء عن تيتو!.. عرفوا انه ثائر، وانه مكافح، وانه ذو عقلية منظمة وانه وهذا اهم مافي الامر – شيوعي!..
ولفت الرجل الشيوعي الثائر نظر تشرشل فراح الزعيم الانجليزي المحافظ يهتم بأمره!.. قال تشرشل ان تيتو شيوعي ولكنه يعلن حرب العصابات على المانيا قبل ان تحدد روسيا موقفها من الحرب.. وذلك فمن الحكمة تتبع سياسته لانها ستكون بمثابة المؤشر الذي يشير الى الاحداث المقبلة!.. وقال تشرشل ان تيتو محبوب من العمال والفلاحين، ولذلك فمن الممكن تشجيعه!.. واخيرا – وهذا هو المهم ايضا – قال تشرشل ان تيتو جعل من نفسه جلادا وجزاراً للالمانيين.. ولذلك فمن الواجب الاعتماد عليه في استئصال شاقة البرابرة الالمان!
الرجل المغمور يصبح مشهوراً
وهكذا اصبح "تيتو" المغمور رجلاً مشهوراً يتحدث عنه اقطاب السياسة في العالم!.. وارسل تشرشل بعثة عسكرية هبطت في يوغوسلافيا بالمظلات لدراسة الحالة فيها.. ودرست البعثة الحالة هناك وشجع تشرشل تيتو فأصبح ذلك الرجل بطل الساعة!..
وحتى هذا المجد كله يمكننا ان ندعه جانبا، فأنه تاريخ قديم.. قديم جداً اذا قيس بالامجاد الجديدة التي احرزها تيتو!.. ان تيتو.. ذلك الرجل الذي فرض نفسه على ساسة العالم في 1941 عاد ففرض نفسه على العالم مرة اخرى بصورة أقوى واعنف!.. لقد فعل مالم يفعله اي زعيم في شرقي اوروبا.. تحدى ستالين ولم يكن في نضاله جبانا او خائراً..
ولهذا النضال قصة متعددة الفصول فيها ما يثير الاشفاق وفيها ما يثير الاعجاب!.. ولقد بدأت القصة في عام 1948!.. ففي ذلك العام راج بين الدوائر السياسية في شتى انحاء العالم همس لا يكاد يسمع يقول ان الحزب الشيوعي اليوغوسلافي بداً بالتحرر من سيطرة الحزب الشيوعي الروسي!.. وكان ذلك الهمس خافتا فلم يبلغ آذان الكثيرين!.. وحتى اولئك الذين بلغ الهمس اسماعهم كانوا يتشككون فيما يسمعون! كانوا يقولون انها خدعة شيوعية لجأت اليها روسيا لتدخل في روع الرأي العام العالمي انها لا تفرض سيطرتها على الدول الشيوعية!.. وكانوا يقولون انها حيلة بارعة عمد اليها ستالين ليخفي القبضة الحديدية التي يحكم بها اوروبا الشرقية، في قفاز من حرير!.. ومع ذلك ارتفع الهمس وعلا.. واشتدت اللهجة قوة وعنفاً.. وبدأ الناس يسمعون الفاظا جارحة يتبادلها الحزبان الشيوعيان في موسكو وبلغراد.. لقد كانت قصة القطيعة بين روسيا ويوغوسلافيا صحيحة!..
الصراع يبدأ
واتهم الروس تيتو في بادئ الامر بانه متعجرف لانه كان يتحدث عن نفسه كما لو كان نداً لستالين!.. وكان ذلك الامر حريا بان يغضب روسيا التي لا تريد ان تعتبر أية دولة شيوعية نفسها ندا للاتحاد السوفياتي!.. وغضب تيتو كذلك لانه عز عليه ان تتعالى روسيا هكذا وتشمخ بأنفها!..
وكما اتهمت روسيا الماريشال تيتو بأنه "متعجرف" اتهمها تيتو بأنها تكاد تذهب فريسة للانفعالات النفسية التي تنتاب كل شخص يصاب بجنون العظمة!.. وكان ذلك الذي يقوله الماريشال تيتو ردا قويا ومؤدبا في الوقت نفسه!..
فقد أراد ان يقول بأسلوب غير جارح ان روسيا استعمارية وانها تريد من يوغوسلافيا ان ترقص على الانغام التي تتصاعد من موسكو!..
واحتدم النزاع وقويت حدته وحرارته واتسمت الاوصاف والنعوت التي كان الطرفان يتبادلانها بميسم جديد.. فبعد ان كانت روسيا تصف تيتو بأنه متعجرف بدأت تصفه بأنه منحرف ومخدوع في قوته!.. ثم اتهمت روسا يوغوسلافيا انها تتباهى كذبا بما يخيل اليها إنها أحرزته من مجد وبطولة!.. وكان جريا ان يجرح ذلك الكلام شعور اولئك الذين ضحوا في يوغوسلافيا. ومن هنا اتخذ النزاع بين تيتو والساسة الروس مظهرا جديداً!.. لقد اصبح صراعا بين شعبين.. الشعب الروسي والشعب اليوغوسلافي!.
الحرب الباردة
وفي مايو\ايار من عام 1948 تطايرت اللهب التي كانت مختفية وراء الرماد.. وتمت القطيعة بين روسيا ويوغوسلافيا!..
فقد رفض الماريشال تيتو الاشتراك في اجتماع الكومنفورم (المكتب الشيوعي الدولي) على الرغم من توجيه دعوة رسمية اليه!.. وقال يبرر رفض الدعوة ان روسيا اصدرت حكمها عليه ولذلك فمن العبث ان يذهب الى الكومنغورم ليستمع الى نفس الاتهامات او ليرد عليها!..
وهكذا قاطع الماريشال تيتو الاجتماع!.. وكان ذلك بناء على رغبة الحزب الشيوعي اليوغوسلافي!.. وكانت هذه الخطوة عملا جريئا بغير جدال .. فقد تحدى تيتو الاعزل الضعيف ستالين القوي الجبار!
وتحدث يوغوسلافيا الصغيرة المسكينة كل دول الكومنفورم.. البانيا وبلغاريا والمجر ورومانيا!. تحدث يوغوسلافيا كل هذه الدول التي تتاخم حدودها دون ان يأخذها في ذلك خوف او رعب!..
وبدأت "الحرب الباردة" بين المعسكرين :المعسكر الروسي والمعسكر اليوغوسلافي!..
وراحت البانيا وبلغاريا والمجر ورومانيا تضيق الخناق على يوغوسلافيا وتضغط عليها بعنف وقسوة.. وبدأ ساسة هذه الدول جميعا يوجهون اللطمات الى الماريشال تيتو!..
ولكن تيتو رد الصاع صاعين، والكيل كيلين.. كما صعدت يوغوسلافيا ولم تحفل بعداء "جاراتها" لها!.
لماذا نجح تيتو؟
وهكذا صمد "تيتو" الأعزل امام ستالين القوي!.. ولم يسقط حصن تيتو فاستبدت الدهشة بالمراقبين السياسيين في كل مكان!.. كيف قدُر لهذا الرجل الاعزل ان يصمد؟. وكيف حافت الهزيمة بستالين القوي!..
ولقد تساءلت عن ذلك كله مع المتسائلين وفي بلغراد وجدت الجواب!.. قيل لي ان روسيا اخطأت التقدير والحساب!.. لقد قال لها وكلاؤها – وكذبوا فيما قالوا – ان الشعب اليوغوسلافي كله يعشق ستالين لفرط ما هو شيوعي!.. وقالوا لها ان الحزب الشيوعي اليوغوسلافي لا يسير وراء ستالين وما تيتو الا ظل ستالين على ارض يوغوسلافيا!.. وقالوا لها ايضا ان عمر تيتو لن يطول وان نجمه لا بد منطفئ وان كلمات قليلة تنطلق من افواه زعماء الشيوعية في روسيا ستكون بمثابة المعول الذي يحطم بناء تيتو المتداعي!..
وصدقت روسيا هذه الاكاذيب العريضة وانطلقت من افواه زعماء الشيوعية مجلدات لا كلمات ولكن تيتو لم يسقط!.. بل زاد علوا ومكانه!.
لماذا؟ لان الشعب اليوغوسلافي لا يسير وراء ستالين كما زعم وكلاء موسكو، وانما يسير وراء تيتو، ولان الشيوعيين اليوغوسلافيين تجري في عروقهم الدماء اليوغوسلافية لا الدماء الروسية، ولان يوغوسلافيا التي كانت تضرب دائما المثل في السعي وراء الاستقلال والتحرر لم تخنها شجاعتها في هذه المرة، وانما تلمست استقلالها في غمرة هذا النزاع، فحملت تيتو على الاعناق لانه يحمل علم الاستقلال وداست على ستالين لانه اراد ان يدوس على استقلال يوغوسلافيا!..
واسدل الستار فاذا بيوغوسلافيا في مكان.. وروسيا في مكان آخر!
وتباعدت بين الطرفين المتخاصمين الشقة، ومع ذلك فمن الخطأ ان يقال ان يوغوسلافيا بعد ان تباعدت عن الشرق، القت بنفسها في احضان الغرب!
يوغوسلافيا جميلة وفقيرة
والآن دعونا من حديث السياسة فحديثها يطول ويطول! ... تعالوا معي نجوس خلال يوغوسلافيا.. تلك البلاد الجميلة!
انها جميلة حقاً.. ولكنها فقيرة! .. لقد قضيت بلغراد يوما وليلتين ثم سافرت بالسيارة الى "زغرب"!.. واستغرقت الرحلة حوالي عشر ساعات!.. وخلال هذه الفترة الطويلة لم تمر بنا في هذا الطريق اكثر من 10 سيارات... 4 سيارات خاصة و6 سيارات "لوري"!
ولقد رأيت في الطريق اشياء اثارت دهشتي وعجبي ، ورأيت اليوغوسلافيين يستخدمون في ترحالهم الثيران والخيول والبغال.. ولا عجب في ذلك لأن الفلاحين هم الغالبية!.. ان نسبتهم تتراوح بين "80.7 في المائة!" وهم يتبعون في الزراعة نظاما يكاد ان يكون بدائيا!.. نفس الوسائل والآلات التي كانوا يستخدمونها في القرون الغابرة.. ثم تتغير ولم تتبدل!.. ولذلك فانك لا تسمع من المسؤولين اليوغوسلافيين غير شيء واحد هو "اننا لانزال نعاني من ازمة زراعية!.. وتسأل عن هذه الازمة ، فتعرف ان المقصود بكلمة، "ازمة زراعية" هو ضعف الانتاج الزراعي وقصوره عن الاكتفاء الذاتي وحاجة البلاد الى آلات زراعية حديثة!..
الفلاح هو كل شيء
والفلاح في يوغوسلافيا هو كل شيء!.. هو الذي انتصر للماريشال تيتو اثناء مقاومته للنازي!.. وهو الذي انتصر له بعد الحرب.. وهو الذي ينتصر له الان في صراعه ضد روسيا! .. ان الفلاح اليوغوسلافي هو عماد يوغوسلافيا وكنزها وذخرها.. ولذلك فان الحكومة اليوغوسلافية تجري وراءه وتخطب وده وتسعى لارضائه بكل الطرق والوسائل!.. ولعل ذلك هو ما كان يغضب روسيا لان روسيا تريد ان يكون العامل الصناعي مفضلا على العامل الزراعي!.
والثروة الزراعية في يوغوسلافيا موزعة توزيعا يكاد يكون عادلا، فالملكيات صغيرة، والضمير متوافر، والاعتزاز بالكفاح هو طابع كل فلاح يوغوسلافي ومن هنا فان للعدالة في يوغوسلافيا مصباحا يضيء للجميع و"نظام المزارع التعاونية" ناجح الى حدما في يوغوسلافيا، ولكنه لم يثبت بعد انه آخر مراتب الرقي الاقتصادي والزراعي.
ولقد سمعت على اية حال ان بعض الفلاحين الذين انضموا الى المزارع التعاونية وطلبوا اعفاءهم من العمل فيها، وانهم اجيبوا الى ذلك!.. ولست اريد ان استنتج من هذا ان النظام التعاوني الزراعي فاشل، وانما اريد ان اسجل ان يوغوسلافيا لا تزال تكافح وان الطريق لا يزال مفروشاً بالشوك لا بالورود!..
والشيء الوحيد الذي يثير المنازعات بين الحكومة والفلاحين في يوغوسلافيا هو الخلاف على اسعار القمح والحبوب والخنازير!
الحكومة تحدد سعرا لا يرضي الفلاح!.. والفلاح يطلب نظاما تجاريا حراً لا تستطيع الحكومة اليوغوسلافية ان تأخذ به!.. وعلى اية حال فان الخلافات بين الفلاحين والحكومة لا تلبث ان تزول، وما ازال اقول كما يقول غيري: ان نظام "السوق الحرة" كفيل بان يقضي على مثل هذه المنازعات.
ان الفلاح اليوغوسلافي صبور وقنوع.. وهو في صبره وقناعته حريص على استقلاله!.. ومن هنا كان كفاح تيتو وكان نصره!
ان تيتو هو الآخر صبور وقنوع ومستقل.. وحيث يوجد الصبر والقناعة والقيادة الرشيدة.. يوجد الاستقلال دائماً!..
آخــر ســاعة/ أيلول - 1951

ذات صلة