رقصة الجديلة والنهر  .. مشاهد لا تقل أهمية عن أساطير تأسست في مخيلتنا

رقصة الجديلة والنهر .. مشاهد لا تقل أهمية عن أساطير تأسست في مخيلتنا

أحمد فاضل
" رقصة الجديلة والنهر " للكاتبة والشاعرة العراقية المغتربة وفاء عبد الرزاق ، رواية ترسم كل تذبذبات الاضطراب الداخلي لشخوصها الذين درست مؤلفتها بعناية واهتمام هاجس الخوف الذي لازمهم حتى النهاية ، فأبطالها غير بعيدين عنا لأننا عشنا مأساتهم مع أنهم تشكلوا عبر فانتازيا صادمة وهو اللون الذي نجده في أغلب روايات الكاتبة :

" بيت في مدينة الانتظار " عام 2000 و " تفاصيل لا تسعف الذاكرة " 2001 و " السماء تعود إلى أهلها " 2010 و " أقصى الجنون الفراغ يهذي " 2010 و " حاموت " 2014 .
والرواية التي بأيدينا " رقصة الجديلة والنهر " الصادرة حديثا عن مؤسسة المثقف العربي في سيدني / أستراليا وشركة العارف بيروت / لبنان ، لخصت عبر 142 صفحة مأساة شعب كان يحيا بساطة العيش ، راضيا بها ، مقتنعا بمصيره ، لكن الريح السوداء التي اقتلعته من جنته تلك أبت إلا أن تحكم عليه بالتشرد والموت والأسر والاغتصاب والبيع في سوق نخاستها الوسخة في أسوأ صفحة من صفحات تاريخ العراق الحديث ما جعلهم يقفون بوجه تلك الريح المتمثلة بعصابات داعش مضحين بأغلى ما يملكون لاستعادة الأرض والعرض ، هكذا تمضي بنا الرواية بعد أن تقف صاحبتها متسائلة بكلمات
شعرية :
" أنا أيضا لديّ تساؤلات ...
ماذا سيحدث بعد هذا الرأس المقطوع ؟
وأين تلك الكلمة التي تهز السماء ؟
ما زال المساء يترنح ، والنهايات مدخنة .
موهنة زخات المطر ، واللحظة بالكاد تستوعب التكهنات " .
من هنا تبدأ الرواية فصولها التسعة بإيقاع وطول جملة وشكل وأسلوب متميز كما تعبر عن ذلك الناقدة الإنكليزية المعروفة أليكس كلارك حينما تتحدث عن نقاط القوة في الرواية الحديثة .
فالقرية الغافية بأحلام رجالها ونسائها وأطفالها بالعيش الكريم والتي تأخذ المساحة الأكبر فيها ، حيث نجد عازف الناي والصبي الأخرس " الذي لا يشبه أحدا في القرية " ذو السابعة من العمر والذي يتبنى توزيع سنابل الخير على سكانها بدلا من الفتاة الشابة التي جاءتهم بملابسها البيضاء : " كأنوار شمس مشرقة ، وحين رأى الطفل ملامحها الوديعة تبعها صامتا ، كعادة الخرس مطأطأ الرأس ، مبتسم ، اقترب منها ليحمل عنها السنابل ، بينما هي مسحت شعره المغبر وأعطته سنابل صغيرة " ، أما أهل القرية ونتيجة لطيبتهم التي توارثوها كانوا بحاجة إلى معجزة تنتشلهم من واقعهم الفقير الذي يعيشونه فكانت هذه السنابل أملهم الذي حلموا به كثيرا والذي سيغير من واقعهم نحو الأحسن لا محالة بحسب معتقداتهم وطيبة سرائرهم ، ووسط كل تلك الأحلام نرى من الطبيعي أن تنتشر الخرافات بينهم ، السنابل ، الطفل ، وعازف الناي حتى صارت جزءا من أحاديثهم في المقاهي " ، لكن البعض منهم لا يعبأ بهذه الخرافة كآزاد الذي تشغله أخبار قتال عصابات داعش على الحدود بين كردستان العراق وسورية ، هنا تبتعد الكاتبة عن الفانتازيا التي بدأت بها روايتها لتدخل بنا لب الحقيقة عن هذا القتال الشرس من أجل البقاء بين قوى الشر المتمثل بهذه العصابات التي دخلت قرى كثيرة فشردت أبنائها واغتصبت نسائها وبناتها ، " آزاد " تقول عنه الرواية : " لا يبتسم إلا حين يسمع خبرا عن مقتل عدد منهم على الحدود ، صارت هذه الأخبار زاده اليومي وسلوته الوحيد بعد فقد ولدين وبنت التحقوا مع قوات ( البيشمركة ) لمقاتلة ( داعش ) " ، و " كوفال " وزوجها " هافال " اللذان سمعا : " عن قصة هروب الفتاة الأيزيدية وكيفية اختطافها من قبل " داعش " وبمساعدة من حزب العمال الذي يحارب القتلة والمجرمين وهبها الله حياة جديدة وتمنت لو تكون ابنتهما " شيلان " هي الفتاة التي رافقتها كما روت الأخبار وتناقلت الخبر الصحف" ، وقصص أخرى عديدة تؤرشف هذه المأساة التي وقفت " ام جوان " وهي امرأة أيزيدية تصرخ بالقوم : " كمن لدغها ثعبان :
- " ليتنا نستطيع التحدث عن السلام والحب والأمان بدلا عن الموت والخراب والاغتصاب ، ليتنا فعلا نسترجع بناتنا وأبناءنا بالقهر والدموع " .
الرواية وهي تصّاعد بأحداثها مارة بسقوط الموصل حيث وضعت أصابعها على أهم معطيات ذلك السقوط :
" لم يكن عمل الجيش حماسيا سوى رمي الهاونات التي تقع على الناس وتصيبهم ومنازلهم بالضرر . إن من قاتل بشرف هم الشرطة . النازحون تثقلهم المأساة وهول المفاجأة يدمي قلوبهم ، يمشون بلا عنوان وقد خذلتهم الحياة ، وخذلهم الجيش والمتآمرون .. "
هنا تبرز شجاعة الكاتبة في تشخيص الخلل من خلال روايتها ، فالرواية قبل كل شيء هي تاريخ مروي لها زمانها ومكانها وهي هنا جزء لا يتجزأ من تاريخ أي أمة عانت ويلات الحرب كما قرأنا قبلها كيف اصطف الكثير من الكتاب مع التاريخ لفضح الخونة الذين تسببوا بمعاناة شعوبهم ، هنا يذكرني الروائي والكاتب والناقد الأمريكي المعروف توماس مالون كيف يستخدم التاريخ كوسيلة حاضرة أبدية للتعبير عن حدث ما واهتمامه بالتفاصيل الدقيقة له ، ومن خلال ذلك الحدث يستكشف يومياته تماما كما يحدث في هذه الرواية التي بأيدينا التي تنتقل فيها مؤلفتها إلى صورة أخرى من
صور المعاناة التي دفعت أم " سميرة " المرأة العراقية المسيحية التي تعرضت عائلتها للقتل وبناتها للاغتصاب ونجت هي بأعجوبة أن تصعد " إلى قمة الجبل ، لكن المحاولة وعرة وصعبة جدا ، بقي لديها الأمل كل ليلة بعد دعائها وصلاتها برسم علامة الصليب على صدرها ... وبقي الأمل معلقا على حبل الريح " ، الأمل ، الأمل هذا الذي تلاشى كما " تتلاشى رائحة الحياة ويتلاشى الضمير ، لا تبقى رائحة الموت ، نطقها " نيروز " بعد سماعه الخبر ، وأجهش باكيا على حال العراق أرضا وشعبا " .
وتستمر الحكاية ويستمر الألم : " هكذا جاءت الغرغرينا إلى جسد الوطن ، وبات استئصال المكان المصاب إلزاميا ، عيون زرق ، سراويل وعمائم ، سكيرون وحشاشون ، قتلة ومجرمون ، أعداء لناسهم ووطنهم تحالفوا مع هؤلاء لنشر الغرغرينا في العراق ، لم يأتوا من فراغ ، هذه ترسبات الحكم السابق ، وهؤلاء سجناء القتل الذين أطلقت ( داعش ) سراحهم ليذبحوا العراق أرضا وشعبا " ، السنابل ستكبر ، أرواح من سقط في " سبايكر " و " شنكال " و " كوباني " و " الموصل " وبقية بقاع الوطن ستسقيها :
- " سيسير الوطن باتجاه صوت الشرف ، لقد بشرت السماء بالمعجزة ، وسينهض العراق من نومه الطويل " .