شعرية المفارقة في  (وحيداً في الأزقة أُغني)

شعرية المفارقة في (وحيداً في الأزقة أُغني)

زهير الجبوري
في قراءة جديدة لتجربة الشاعر جابر محمد جابر ومجموعته الشعرية (وحيدا في الازقة أغني) سأقف ـ مؤقتاً ـ عند معيارية شعرية تنطوي فنياً على جلّ ما قدمه من تجربة ، او جلّ ما قرأناه من شعرية في السنوات الأخيرة ، أقول ان المجموعة شكلت شكلاً بنائياً أكثر انفتاحاً من قبل ، وإن كانت على المستوى الرأي الشخصي ،غير ان التغلغل في عمق الشعرية التي يقدمها الشاعر تفتح معياراً فنياً نمسك به نقدياً ونقدمه

..
جابر محمد جابر ، شاعر ينساب الى القصيدة الذهنية المجردة ، تلك القصيدة التي امسكت بجيل مثقف مثل الجيل السبعيني ، وقدمت خطاباً كبيراً وناضجاً لا يزال حضوره او آثاره معنا ، مثل هكذا تجارب تكشف لنا عن مناخ ثقافي /شعري عام ، ويكون الشاعر فيه العلامة الحاضرة للأنموذج المنتمي الى خطاب هذا الجيل ..
(وحيدا في الازقة أغني)، قصائد عبرت عن عمق التجربة الشعرية العراقية المغمسة بحركة الحداثة التي كانت لها بدايات الصنعة والحبكة المؤججة بالرغبة الوجدانية والعقلية ، لتكون القصيدة نصاً فاعلاً في النزعات الشكلية لـ(الذاتي /الحسي/الذهني/ الهاجسي) ، مع الاقرار الحاضر بما يسمى بمهارة اللّعب اللغوي لثنائية الانزياح والمجاز ، ومن البديهي ان تكون حركة البناء وطريق الاداء الفني لديه حاضرة امامنا ، فمع الامساك بالمضمون ، ثمّة تراتبية شكلية مختلفة ، غير انها لا تخرج عن وحدة البناء الشعري وقصديته ..
ولقراءة قصائد المجموعة بعيون فنية بحتة ، وبرؤية دقيقة ، فإن وعي التصميم ومهارة الاشكال ، كان بائناً من خلال مستويات الاداء الشعري ، حيث القصيدة القصيرة ، والقصيدة المقطعية ، والقصيدة المركبة ، كلّها أفادت في الوضوح لما قدمه الشاعر في تجربته هذه او التجارب السابقة ، نجد مثل هذا التركيز الملح قد صعّدَ من حدة الاسلوب الذي يتمتع به جابر محمد جابر ذاته ، فهو لم يكشف بعد حدود طاقته الشعرية بتمتعه بكتابة النص ، تلك القصيدة التي تكشف عن ردم الهوّة بين الاجناس الشعرية كافة ، وتأكيداً على ذلك كتابته للقصة القصية جداً .
مع قراءتنا لـ(26) قصيدة ، تتضح طريقة جابر محمد جابر ورؤياه باحساس ذاتي عميق ، فتارة يستخدم الـ(أنا) الشعرية ، وتارة اخرى يستخدم الضمائر(هو /هي / انت) ، واخرى يهيم بغنائية قلقة تستحضر خلالها خصوصياته ، وهو بذلك له همه الخاص ، ربما القصيدة وملامح الجملة الشعرية تساهم كثيراً في الكشف عن ذلك ، وانّ ما قدمه هو مشروع قرائي /تأملي / ذاتي ، ولا ننكر فعل الصعود المتنامي ـ في مناطق معينة ـ لتراجيديا الذات التي استعارت من الحياتي لغة الاداء اليومي وان كانت ذات منحى جديدا بكثافة واضحة ومشهديات معبرة عن وحدات انطباع حياتية ..
لذا ، فإن شعرية الشاعر في (وحيداً في الازقة اغني) بانت على مستوى البناء الشعري المعبر عن لحظاته الحضورية لكافة المواقف ، لكنها شعرية المفارقة ، لا أعرف إن كانت رغبته في تكريس جميع قصائد المجموعة بهذه السمة ، أم جاءت في لحظة إلهامية خاصة ..؟ فالـ(أ نا) وتكريس الذات عبر جمل تنتمي لقصائد معينة ، انسرحت بوضوح بارز، ففي المقطع الرابع من قصيدة (القلق الثري)، نقرأ :
أنا وصديقي
جلسنا نشوي الثلج ،
في مطبخ الذكريات
ونحن لا نملك غير ..
خرقة صغيرة من الظلام .(ص25).
ولم تقتصر هذه الطريقة على المعنى المجازي لـ(شوي الثلج)او (خرقة الظلام)، انما اخذت تجربة الشاعر و(أناه)مناطق عديدة ، منها ما قرأناه في (قصائد ملعونة )، حيث تستجلي ثيمة الـ(أنا) في احدى المقاطع ما يسمى بشعرية القناع ، إذ نقرأ في المقع العاشر :
أنا طائر ..
يشكو جراحات بعض ثباتي ،
لكي لا أظل دربي .. بالعويل .(ص98).
هذا المقطع وغيره العديد من المقاطع ، يعكس مدى قدرة الشاعر على توظيف (انويته) بالطريقة المؤثرة عند الآخر/ المتلقي ، وهو بذلك يضع مشروعه في بوتقة مليئة بالشواهد المضمونية مع طريقة الاداء للقصيدة الذهنية المجدة ـ كما ذكرنا ـ.
اما من جهة حضور القصيدة في بنيتها الغنائية الواضحة عبر استخدام الضمائر ، فقد لعبت بوضوح العبارات دوراً متجلياً وواضحاً لأبراز المعنى المضموني لكل قصيدة ، فجاءت بعضها معبرة عن ذلك من خلال (ثريا النص)، وبعضها من خلال الاستهلال (سواء في مطلع القصيدة او مطلع المقطع المكتوب)، لذا فإن الـ(هو/هي/نحن) قصائد برهنت ذلك ، وقبل الدخول الى تفاصيل النصوص وتحليلها نقدياً ، تبرز هيمنة الشاعر عبر المزاوجة بين هذه الضمائر ، لذك نقرأ :
ـ(هو): يحتفظ بارشيف احلامه،/ أهديته قدمي ../ يتجول بها ، / في حدائق القسوة.(ص30).
ـ(هي): تعرف اسرار وعادات العواصف / لكنها ../ تتحفظ على بصمات العابرين .(ص32ـ33).
ـ(نحن): سكان الغيوم / غرقت فينا الآلآم / الريح عذراء ، لكنها .. مزروعة بالذعر .(ص34ـ35).
التناظر الشعري الحاضر هنا في المقاطع ، أكد مهارة جابر محمد جابر على اعطاء ألوان الاشتغال الشعري على الضمائر والاصوات الشعرية بالقدر الذي يجعلها مكتملة الجوانب من النواحي المضمونية والفنية والدلالية ..
(رؤيا عامة):
في هذه التجربة تتضح رؤيا (جابر محمد جابر) على قدر كبير في كتابة قصائد تنماز بلغة الايجاز والتكثيف ، ومع اهمية هذا الاسلوب الذي عرف عنه لفترة ليست بالقصيرة ، الاّ ان التنويعات في النمط الشكلي اعطى فعل المهارة الشعرية لدى الشاعر ، مع شدّة الايقاع الداخلي وتوتر العبارات المعبرة عن انفعاله ، فقد كانت قصائد (الهايكو) مع القصائد المقطعية الاخرى تمتلك مقومات التنوع المضموني ، فالعبارة التي تمتلك حجماً صغيراً ، هي بحد ذاتها تعطي انطباعا لموضوعة كبرى ، ففي (هايكو عراقي ) يقول الشاعر ( من يهدني وردة / اهده عطرها ) او (انت الارض والسماء / وانا بين الاثنين قطرة ماء )(ص60). ومثلها في قصائد اخرى ، حيث التعامل مع المفردات بأحاسيس الوجع باطار المفارقة الّلذيذة ، فمثلاً في قصيدة (وحيداً في الازقة أغني )ـ المقطع الرابع ـ ما يعبر عن حالات كبرى وقعت تحت سلطة القصيدة فكانت بالشكل الذي اطلعنا عليه ( الحرب .. لا تحب الشعر ، لأنه يفضحها )(ص91).
كل ذلك كشف عن مخيلة الشاعر ازاء تجربة يحسب انه اضاف اشياءً اخرى لها ، لكن الامساك بلون خاص بـ(جابر محمد جابر) أفاض لنفسه الغور في مضماره او الّلعب بدائرته الشعرية بهذا الاطار الشعري ، وكأننا ادركنا الّلعبة من خلال قصدية الانفتاح بعيداً عن التشتت ، او كما يقول الدكتور الناقد سمير الخليل في مقدمة المجموعة ( ان الشاعر في أغلب نصوصه الشعرية يحاول ان لا يكون مشتتاً / ص12) ، ومع قراءتنا الفاحصة هذه ، نحسب اننا امسكنا بخيوط دقيقة في قصائد المجموعة وننتظر المزيد من الابداع من قبل الشاعر .