وسطية الرأي ونزاهة القول

وسطية الرأي ونزاهة القول

1-2
شكيب كاظم
بعد أن اصدرت الباحثة العراقية المغتربة فاطمة المحسن، كتابها ( تمثلات النهضة في ثقافة العراق ) سنة 2010، عادت لتواصل مشروعها المعرفي الجميل والرصين، لدراسة الواقع الثقافي العراقي، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة 1921،

والتألق الثقافي والحضاري الذي عاشه العراق في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، قبل أن يجهض هذا المشروع ويتراجع مع صعود الراديكاليات والإنقلابيين العساكر إلى سدة الحكم، فهؤلاء ما كانوا مهتمين ببناء دولة حضارية متقدمة، بل كان هدفهم الإستحواذ على كرسي الحكم، والبقاء فيه أطول ما يمكن زمناً، أو البقاء فيه مدى الحياة فتحولت الجمهوريات الى ملكيات، ولكن بفارق أساس ومؤلم، أن الملكيات كانت دستورية، مصونة غير مسؤولة، وجاءت الجمهوريات بالثوريات التي ما قتلت ذبابة على لغة الشاعر نزار قباني (ت.1998) وسياسة حرق المراحل، وخلق أعداء وهميين، وإفتراضيين كي تستمر نظرية المؤامرة في خنق الناس وحرياتهم .
الباحثة الرصينة فاطمة المحسن، واصلت مشروعها المعرفي هذا، فأردفت كتابها ذاك، بكتاب إستقصائي وعلمي اطلقت عليه اسم (تمثلات الحداثة في ثقافة العراق) صدرت طبعته الأولى عن دار الجمل سنة 2015، ويقع في أكثر من أربع مئة صفحة.
فاطمة المحسن تواصل - كما قلت- درسها الواقع العراقي الثقافي على مدى يكاد يقترب من القرن زماناً، وقفت عند ظواهر شاخصة ومؤثرة في الحياة العراقية، وعند أسماء مهمة في ثقافة العراق مثل : جواد علي وعبد العزيز الدوري وطه باقر وعلي الوردي وصالح أحمد العلي وفؤاد التكرلي وشقيقه نهاد وحسين مردآن وصلاح نيازي، ويوسف الصائغ وصادق الصائغ ومهدي عيسى الصقر، وغائب طعمة فرمان. و.و .
باحثة رصينة
درست الحياة العراقية الثقافية على صعدها المختلفة، في الرواية والقصة والشعر، وفنون التشكيل، والدراسات الاجتماعية والتأريخية، على مستوى الدراسات التأريخية القديمة ممثلة بطه باقر، أو الاسلامية، حيث درسها عبد العزيز الدوري وفيصل السامر وصالح أحمد العلي، فأنتج ذلك الجيل دراسات معرفية رصينة، مستفيدين من رصانة جامعات اوربة والغرب وعلميتها، وهامش الحرية الواسع الذي كان يحياه العراق، حتى نهاية الخمسينات، فيكتب فيصل السامر في ثورة الزَّنج، وبعد عقود سيدرس الباحث اللبناني أحمد عُلْبي، الثورة ذاتها بكتاب معرفي رائع عنوانه (ثورة الزَّنج وقائدها علي بن محمد) قرأت طبعته الثالثة الصادرة عن دار الفارابي ببيروت سنة 2007، وكما كتب جواد علي رسالته في موضوع خطر وخطير في الذاكرة الجمعية الاسلامية، وهو الأمام الثاني عشر، وسيكتب علي الوردي بحوثه المشاكسة مستفيداً من هامش الحرية، حتى اذا صعد الراديكاليون صمت الرجل صمتاً مطبقاً.
وعلى الرغم من يسارية أفكار الكاتبة، فأنها كانت تذكر حقائق الحياة والاشياء التي صمت عنها الأخرون وظلوا يغضون الطرف عن سلبياتها الموجعة للحياة العراقية في صورة مؤلمة من صور عدم الاعتراف بالخطأ، ومنذ الف سنة جاء في الموروث العربي، إن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ترى لماذا يعترف الغربيون - غالباً- بالأخطاء ويعتذرون عنها، ولماذا نحن الشرقيين لا توجد لدينا ثقافة مثلها، هل للدين أثر في ذلك، هل لثقافة الاعتراف المسيحية أثر في ذلك،؟!
تقول فاطمة المحسن ((الظاهرة اللافتة في ثقافة الأربعينات والخمسينات العراقية، هو ما بدت عليه من وضوح مشروعها وثبات واستقرار وتنظيم انواعها (...) ربما يعود إلى طبيعة الحياة المدينية التي تمتع بها الكثير من منتجي الثقافة، وفئات المتعلمين (...) بقيت الثقافة الخمسينية تختزن عبر روادها وممثليها في الحياة العامة، أحلام الحداثة دون أن تكون قادرة على إستكمال طموحاتها، ولعل اضطراب الحياة السياسية قد قلل من فرص إزدهار مشاريع هذا الجيل، بل كانت ثورة تموز 1958 قد شغلت الناس بالسياسة وشقت جبهة المثقفين، وبعد العنف المستشري في العراق من الإنقلابات، غادر الكثير من مثقفي هذا الجيل بلدهم..)) ص49 . ص55
وإذا كان الشاعر والباحث سامي مهدي قد كتب (الموجة الصاخبة؛ جيل الستينات في العراق)الذي اصدرت دار الشؤون الثقافية العامة طبعته الأولى سنة 1994 وكان فيه من الأدلجة والنظرة السياسية المحدودة شيء كثير، وإذا كان فاضل العزاوي قد كتب (الروح الحية . جيل الستينات في العراق) ونشرت دار المدى طبعته الأولى سنة 1997، قد جاء ردة فعل غاضبة على كتاب (الموجة الصاخبة) فضلاً عن كتاب (إنفرادات) لعبد القادر الجنابي، لكن كتاب (تمثلات الحداثة في ثقافة العراق) وقبله صنوه (تمثلات النهضة في ثقافة العراق) قد جاءا - وقد هدأت النفوس وعادت الى عقلانياتها، مقصية التأثيرات السابقة وردود الافعال المتشنجة، ولعلها الحاسدة، مستفيدة من عقلانية الغرب وموضوعيته - مكتنزان بالحقائق الموضوعية، والنظرة الحيادية العاقلة لوقائع الحياة، من هنا تأتي أهمية هذين الكتابين، واقفاً عند الكتاب الثاني (تمثلات الحداثة في ثقافة العراق) ولأني موقن باستيلاء النقص على جملة البشر، كما يقول القاضي الفاضل، وهناك من ينسب هذا القول للعماد الأصبهاني، ولأن الله ما عَصَمَ العلماءَ من الزلل، ولا حمى علمهم من التقصير والخلل، ولو كان ذلك كذلك لما إختلف العلماء في شيء من العلوم، ولا تفرقت آراؤهم في شيء من حقائق الأمور (...) ]لإن[ قول القائل الذي هو إنسان، المخصوص في جبلّته بضروب الخلل والنسيان كما يقول الحسن بن الهيثم (354-430هـ = 965-1038م). فقد رأيت الوقوق عند بعض النقاط، معلقاً ومصوباً.
1- قالت الباحثة فاطمة المحسن على هامش الصفحة 101 ما يأتي : (( يوسف الصائغ، الشعر الحر في العراق منذ نشأته حتى عام 1957.
أقول : ... حتى عام 1958، والكتاب في الأصل رسالة نال عنها الشاعر درجة الماجستير من كلية الأداب جامعة بغداد عام 1975، أشرف عليها أستاذنا الدكتور علي جواد الطاهر .
2- قالت الباحثة المحسن على ص118 ما يأتي : (( من بين مثقفي الخمسينيات، أظهر فؤاد التكرلي في ما كتب من قصص وروايات، شخصية المثقف أو المتعلم وهو في مسعاه الحثيث للبحث عن آفاق الحرية الفردية دون تلك الاشتراطات التي صاغها الإلتزام السياسي، مع إنه يضع أبطاله في بيئات شعبية أو فقيرة، ولكن تلك البيئات تبدو وكأنها تضاعف غربتهم. في أول رواياته (الوجه الآخر) التي كتبها مطلع الستينات، يحشد الكاتب كل ما يمكن ان يستوعبه مثقف خمسيني من تصورات عن الوجودية وفكرة الضياع والشعور بالعبث. بطله مثقف محبط... )).
اقول : لم يكتبها في مطلع الستينات بل بدأ بكتابتها ببغداد في 24/تشرين الأول /1956، وانتهى منها في 18/ من حزيران / 1957، وصدرت في شهر آيار من عام 1960 في ضمن منشورات مجلة (الثقافة الجديدة) وصمم غلافها الفنان أ. كاكا فيان . واعادت نشرها ثانية دار الرشيد للنشر التابعة لوزارة الثقافة والاعلام عام 1982، وصمم غلافها الفنان رافع الناصري، واضيفت إليها عدة أقاصيص كنا قرأنا بعضها في مجلة (الأديب العراقي) التي كان يصدرها اتحاد الادباء ومنها أقاصيص: الغراب، التنور، سيمباثي،أمسية خريف، الدقلة،همس مبهم، غرباء، الصمت واللصوص.
3- تقول الباحثة فاطمة المحسن على الصفحة 159 ما يأتي : ((كان المثقفون الماركسيون ومعهم الحزب الشيوعي، يأملون تحويل مسار الثورة تدريجياً لمصلحتهم، لتشجيع العسكريين على إتخاذ خطوات تخدم طبقات الشعب (...) وعلى رأس هؤلاء إبراهيم كبة الذي أسند إليه عبد الكريم قاسم منصب وزير الإصلاح الزراعي، وهو الذي وضع (قانون الإصلاح الزراعي). ))
اقول لقد عين الدكتور إبراهيم كبة (1919-26/10/2004) وزيراً للإقتصاد في أول وزارة جمهورية، وليس وزيراً للإصلاح الزراعي، وما كان وحده من وضع قانون الإصلاح الزراعي بل شاركه عبد الرزاق زبير وفريد الأحمر، واتساءل ما علاقة الأحمر فريد بالإصلاح الزراعي فهو مهندس وتحول إلى مقاول في السبعينات كنا نجهزه المنتجات النفطية من مستودع نفط غربي بغداد الذي كنت أعمل فيه سنة 1976، وللتأريخ بعيداً عن المزايدات، فلقد وقع إبراهيم كبة الاتفاقية الاقتصادية مع الاتحاد السوفياتي في شهر آذار /1959، لكن كانت نتائجها مجموعة من المعامل الروسية القديمة، إذ كان الاتحاد السوفياتي واقعاً تحت طائلة نظرية المؤامرة، ويتصور إنه إذا اعطى للعراقيين معامل حديثة فسيسرق الغرب الأستعماري التكنولوجيا الروسية المتقدمة، فقدم لنا معامل بائرة قديمة، معمل الزجاج في الرمادي ومنتجاته تجرح فم المستخدم ويده. معمل تعليب كربلاء و(قواطيه المزنجرة) معمل أحذية الكوفة التي تعود موديلاتها الى زمن آدم! وغيرها
4- قالت الباحثة ص161 (( عبارات (...) هذا النص مستلة من مجلة (المثقف) (...) وهي أول مجلة تصدر عن أول إتحاد للأدباء في العراق الذي إنتخب محمد مهدي الجواهري لرئاسته .. )).
اقول : ان مجلة (المثقف) ما أصدرها إتحاد الأدباء في العراق، بل أصدرتها جمعية خريجي معاهد الولايات المتحدة الامريكية ومنتسبيها في العراق، وصدرعددها الاول في تشرين الأول 1958، وبعد عشرين عدداً توقفت عن الصدور في تشرين الثاني 1960، وتولى رئاسة تحريرها الدكتور مهدي مرتضى، وهيئة تحريرها مؤلفة من : علي الشوك وعصام القاضي وجليل كمال الدين، وفي وقت تالٍ خالد السلام .أمجد الحسين . غانم حمدون .
أما اتحاد الأدباء العراقيين فقد أصدر مجلة خاصة به اسمها (الأديب العراقي)، وستعود في الصفحة 178، لتعيد المعلومة ذاتها قائلة (( وليس بغير دلاله أن تنشر مجلة (المثقف) التي صدرت عن إتحاد الأدباء في 1959 قصيدة مظفر النواب (للريل وحمد) وتردفها بمقالات أشادت بأهميتها مع إنها قصيدة ليست سياسية))
أقول : لقد نشرتها مجلة (المثقف) في عددها الرابع عشر الصادر في شهر كانون الأول/1959، مؤكداً أنها ليست مجلة إتحاد الأدباء.
5- قالت الباحثة . ص162 : (( لأول مرة يجري التعبير عن القانون بالشرعية الجماهيرية، فالعقيد فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الثورة (...) والحق أن محكمة الثورة ... )).