من طرائف اذاعة بغداد

من طرائف اذاعة بغداد

عُرف عبد الحميد الدروبي بأنه صاحب الرفوف العالية , البرنامج الإذاعي المتميز الذي عمّر طويلاً في إذاعة بغداد , لكنه لم يُعرف كونه مذيعا في مرحلة عمله الاولى وإذاعيا شغل مسؤولية أقسام برامجية عدة كان من أهمها قسما التنسيق والمكتبة الصوتية - مجتمعين ومنفردين- و في هذين القسمين الحيويين اللذين يشكلان العمود الفقري

لكل إذاعة ولد برنامجه الذي أخذ بالأسماع ومجامع قلوب محبيه حيث جعله الدروبي رحمه الله واحةً نديةً جمع فيها أزاهير الألحان التراثية العراقية والعربية وقدمها بإضمامة فواحة الأريج للسامعين والمتذوقين بشكل خاص مقرونةً بحسن الأداء ونكهة الإلقاء والمعلومة الفنية الغنية.
سألته في أول عهدي بالإذاعة عن أصل فكرة - الرفوف العالية- فقادني الى المكتبة الإذاعية القديمة وأراني رفوفها العالية فعلاً التي ماكانت لِتُطالَ إلاّ بسلّم عالٍ أيضاً وقال إنه لما وَجد فوق تلك الرفوف كّماً كبيرا من (الإسطوانات) المركونةِ والمتروكة التي كانت تُبث قبل تصنيع الشّريط الصوتي المعروف بـ(البكرة) فقد تولّدت لديه فكرة آستثمارها في برنامج يحمل الآسم نفسه ويُعرّف بها وبأصحابها من المطربين والمطربات مثلما يعرّف بجوّها وبيئتها وألوانها الغنائية.
ومن المفارقات التي حصلت معه أن صديقاً نعى إليه المطربة البغدادية - صديقة الملاّية- وكانت تعاني من المرض والفاقة في سنيّها الأخيرة , فما كان من الدروبي إلاّ أن يأسى لهذا الخبر ويسارع الى تقديم حلقة خاصة عنها, وما إن بٌثتّ حتى هاتفته – صديقة – نفسها قائلة له بصوت متعب خفيض وبلهجتها البغدادية : (عيني أبو ماجد آني صديقة ... صدقه لعينك آني بعدني طيبه ما متت) .
وعلى ذكر الموت و- الموت حق – كان الدروبي يتطيرّ من ذكره , ولهذا فإن الفنان الاذاعي الكبير المرحوم عبد الله العزاوي غالباً ما كان يتعّمدُ ذكر أخبار (وفيات وهمية) أمامه , فينهض الدروبي ويغادر مجلسه فوراً !
والحديث عن الاذاعي الدروبي يعني الحديث عن إذاعة متنقلة , بتاريخها وإذاعيّيها والآلاف المؤلفة من صوتياتها البرامجية والموسيقية والغنائية.
ومما أستذكره عن - أبي ماجد - أيضاً في هذه الأسطر أنه في بواكير السبعينات ولدى التهيئة لاحياء ذكرى تأسيس إذاعة بغداد عُهد الينا مع بعض الزملاء وضع مفرداته ,
ومما آقترحناه دعوة الفنان الكبير محمد القبانجي لحضور الحفل الساهر , ولكن كيف السبيل الى ذلك والقبانجي كان حينذاك قد أعرض عن الاذاعة ومسؤوليها وجفاهم زعلاً لأمر في حينه .. فعنّ للدروبي ان يسعى في ذلك ونذهبَ الى مكتبه في الشارع التجاري المتفرع من شارع الرشيد بمنطقة مجمّع المصارف فنحاول إقناعه ما آستطعنا الى ذلك , وننقل اليه رسالة وّد وتحية , ودعوة بآسم المدير العام للإذاعة والتلفزيون . وفعلا ذهبنا اليه , وتحدث الدروبي معه حديث القلب للقلب , مذكراً اياه بأن الاذاعة إذاعته , والمناسبة مناسبته ولا آحتفال بدون حضوره ...
فتململ القبانجي وآنفرجت أساريره قليلاً , ولكنه لم يتنازل عن عدم الحضور , وأكتفى بطلبه منا نقل شكره للمدير العام وتهانيه لأسرة الاذاعة , وتعلل بأنه مريض وأن طبيبه الشخصي لاينفك عن مصاحبته...
فما كان من الدروبي الا أن قال له : يا أبا قاسم .. امامنا أسبوع على موعد الحفل , وإن شاء الله ستكون في أتم الصحة والعافية , ثم اننا لن نجبرك على المكوث طويلاً وآلتفت إلى طبيبه الذي كان حاضراً وطلب منه العون في ذلك!
وبعد تردد أعطى القبانجي أملاً بالحضور ولكنْ علينا أن نتواصل معه هاتفياً.. وبعد يومين من المتابعة أعلن موافقته وحضر حفل الاذاعة في موعده ومكانه المقرر في - نادي الصيد- وسط آحتفاء الجميع يتقدمهم السيدان وزير الاعلام والمدير العام للإذاعة والتلفزيون ,
وبعد حوالي الساعة من بدء سهرة تلك السهرة , همس الدروبي في أذني قائلاً إن القبانجي قد أخذه الآستمتاع والآنتشاء فلنستثمر آرتياحه ... وأرجو أنْ تدعوه للمشاركه غناءاً.
وفوراً أعلنتُ للمحتفلين أن آبن بغداد وبلبلها الغرّيد , فنان العراق الأول المتوّج في مهرجان الموسيقى العربية بالقاهرة , يشارككم الفرحة ويهدي الإذاعيين بعضاً من شذاه الفواح , ونظمه العذب , ولحنه الشجي...
وكان ذلك ... فصدح وأطرب وغنى ساعة من الزمن كانت بطعم بغداد وليلها ومباهج عشاقها , مثلما كانت ليلةً من أجمل ليالي الإذاعة وأهل الفن ظل القبانجي طوالها نشوان طرباً يحفّ به المحتفلون .
أما أبو ماجد , فما كانت هذه الأجواء الساحرة لتسعَ فرحته , فقد أنجـز نجـاحين في آن واحد,
نجاح حفل ميلاد الإذاعة .. ونجاح تألق الحفل بالقبانجي الكبير .

مجلة ( فنون) لسنة 1980