رحلة الى كربلاء سنة 1903

رحلة الى كربلاء سنة 1903

ابراهيم حلمي العمر
صحفي عراقي رائد
وصف مرقد الحسين
إن الذي يجلب المسلمين إلى كربلاء هو وجود قبر الحسين بنت رسول الله وأخيه العباس بن علي رضي الله عنهما وقبور أصحابه واعوانه الذين استشهدوا معه في واقعة الطف أو يوم عاشوراء سنة 61هـ 680م وبذلك أصبحت كربلاء مقدس الشيعة ومزارهم فيأتي إليها كل سنة لزيارة التربتين - تربة الحسين وتربة العباس - من كل حدب وصوب

زرافاتٍ زرافات وجماعاتٍ جماعات قادمين إليها من ديار قاصية وربوع نائية كديار العجم وربوع الهند وآسيا الوسطى حيث يكثر الشيعة ولهذا ترى كربلاء لا تخلو من غرباء يعدون بالألوف للغرض نفسه.
وها نحن نصف للقراء ما في مرقد الحسين من الأبنية الضخمة والتزيينات الفاخرة التي هي من أفخر ما يجود به الشيعة في تدينهم وحبهم لآل البيت مستغنين عن وصف مرقد العباس لقرب المشابهة بين الجامعين إن وضعاً وإن زخرفاً فنقول:
مرقد الحسين من الاماكن الرائقة البديعة الصنع، الفائقة الحسن وهو من أعظم المساجد في العراق شأناً، وأتقنها هندسة وصناعة، وأبدعها حسناً وبهجة، وهو عَلَى شكل مستطيل طوله قرابة 70 متراً في عرض يقارب 55 متراً وللمرقد 6 أبواب فخمة جميلة الوضع وعلى كل باب طاق مرتفع معقود بالحجر القاشاني وكل باب ينتهي بك إلى حي من أحياء المدينة، وفناء المسجد كله فضاء واسع فسيح الأرجاء مفروشة أرضه بالرخام البيض الناصع وكذلك جداره فإن وجه أسفله مغشى بالرخام إلى طول مترين، وما أقول ذلك مبني بالقاشاني الجميل القطع والنحت، ويحيط بفناء الصحن جدار يحصنه قد أقيم عليه طبقتان وفي الطبقة السفلى قرابة 65 غرفة جميلة أمام كل غرفة إيوان قوسي الشكل معقود بالحجر القاشاني.
في وسط فناء الصحن الروضة المقدسة وهي من أعجب المباني وأتقنها وأبدعها شكلاً، وفي حظها بالمحاسن، وأخذت بكل بديعة بطرف يدخل إليها من عدة أبواب ليس هنا محل ذكرها وأشهر أبوابها الباب القبلي وهو من الفضة النفيسة الصياغة وفي جوانبيه سهوات محكمة البناء بديعة الشكل عَلَى هيئة النجاريب مرصعة بقطع من المرائي تأخذ بمجامع القلوب، أمامها صفة مفروشة أرضها بالرخام وكذلك جدارها الأدنى فإنه مؤزر به إلى مترين مرصع كله بزجاج ترصيعاً هندسياً يقل نظيره وسقف هذه الصفة قائم عَلَى دعائم محكمة من الساج وهذا الباب ينتهي من الداخل إلى رواق يحيط بالحرم - الروضة - من شرقيها أو جنوبيها أو غربيها وعن يمينك تجد قبر حبيب بن طاهر وعليه مشبك من الشبه فتدخل باستقامة إلى باب آخر من الفضة الناصعة العجيبة الصياغة إلى مقام محكم الصنع ملون بألوان زاهية بديعة، وهو الروضة أو الحرم الذي فيه قبر الحسين وطوله 10 أمتار و40 سنتيمتراً وعرضه 9 أمتار و15 سنتيمتراً وفي داخله من أنواع التزاويق ورائق الصنع ما يحير العقول وأكثر ذلك مغشى بالذهب الوهاج فهي تتلألأ نوراً وتلمع لمعان البرق، يحار بصر متأملها في محاسنها، ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها، ومما زادها بهجة وزخرفة وجود الجواهر النفيسة، وقناديل ذهب وفضة، وغير ذلك من المعلقات الغالية الثمن عَلَى القبر الشريف التي أهداها إليه ملوك الفرس وسلاطين الهند في عصور مختلفة مما يعجز قلم البليغ عن وصفها والإحاطة بكل ما هنالك من نفائس المجوهرات ونوادر الآثار.
وفي أقصى الحرم مصطبة نفيسة تحتها رمم الإمام، والمصطبة بديعة الصنع والنقش والحفر عجيبة الصبغ والتلوين ترى من وراء مشبك من الفضة الناصعة وهو ذو أربعة أركان وفي جانب الطول منه 5 شبابيك وعرش كل شباك منها 80 سنتيمتراً ويتفرع من وسط الجانب الشرقي منه مشبك صغير من الفضة أيضاً عَلَى ضريح ابنه علي الأكبر الذي قتل معه - وهو غير علي زين العابدين الذي فقيد مع الأسرى إلى الشام - وطول مشبك الحسين 5 أمتار ونصف المتر في عرض 4 أمتار ونصف متر وارتفاعه 3 أمتار ونصف متر وطول مشبك الابن متران و60 سنتيمتراً في عرض متر و40 سنتيمتراً، وفي أعلى مشبك الحسين 16 آنية مستطيلة الشكل كلها من الذهب الإبريز وفي كل ركن من المشبكين رمانة من الذهب يبلغ طولها قرابة نصف متر وسماء ذلك الحرم مغشاة بقطع من المرئي عَلَى شكل لا يقدر أن يصفه واصف.
وفي الزاوية الجنوبية من الحرم قبر الشهداء وهم ملحودون عَلَى ضريح واحد وعلى وجه تلك الزاوية مشبك من الفضة الناصعة طوله أربعة أمتار و80 سنتيمتراً وهو عبارة عن 4 شبابيك عرض كل واحد منهم 75 سنتيمتراً وارتفاعه متر و70 سنتيمتراً، ويغطي الحرم كله قبة شاهقة مغشاة من أسفلها إلى أعلاها بالذهب الإبريز، وفي محيطها من الأسفل 12 شباكاً عرض كل شباك متر واحد من الداخل ومتر و30 سنتيمتراً من الخارج ويبلغ ارتفاع القبة من أسفلها أي من سطح الحرم إلى أعلاه قرابة 15 متراً.
وفي هذاالمرقد ثلاث مآذن كبيرة يناطحن السحب صعدت في الهواء اثنتان منها مطليتان بالذهب الوهاج وهما حول الحرم والثالثة مبنية بالقاشاني وهي ملتصقة بالسور الخارجي من الجانب الشرقي وهناك أيضاً ساعة كبيرة مبنية عَلَى برج شاهق يراهما المرء من مكان قصي، وصفوة القول أن الكاتب مهما أوتي من البلاغة والفصاحة والإجادة في الوصف لا يمكنه أن يصف كل ما في هذا المسجد الضخم من الأبنية والأروقة والتزيينات وما كتبناه ليس إلا ذرة من جبل أو نقطة من بحر زاخر.
3ً وصف خزائن الأئمة في النجف وكربلاء
يوجد في كربلاء والنجف خزائن قديمة العهد فيها آثار ذات قيمة لا تثمن نذكر منها خزانتين للحسين والعباس رضي الله عنهما في كربلاء وخزانتين للإمام علي كرم الله وجهه وقد حوت هاتان الأخيرتان من الآثار التاريخية النفيسة ما لا يمكن وصفه لأنهما بقيتا بعيدتين عن أذى الوهابيين إبان حملتهم عَلَى العراق في أوائل القرن التاسع عشر، وأما خزائن الحسين والعباس فقد أتلفها يد الضياع وذهب أكثر ما فيها أثناء الغارة الوهابية عَلَى كربلاء.
أما خزينتا الإمام علي في النجف فقديمتان منها واحدة لم تفتح ولم ترى عينها إنسان إلا مرة واحدة حينا أتى ناصر الدين شاه أواخر سنة 1870 لزيارة قبور الأئمة في العراق، وكان ذلك بإرادة سنية استحصلها من السلطان عبد العزيز خان وقد حضر احتفال فتحها كمال باشا ناظر الأوقاف، وبناءً عَلَى التماس ناصر الدين شاه من السلطان عبد العزيز أُخرج منها قنديل مرصع بالحجارة الكريمة قيمته 6500 ليرة فعلق عَلَى المصطبة التي تحتها رمم الإمام وهذا القنديل لا يزال موجوداً إلى اليوم، وقد أهدى ناصر الدين شاه الخزانة سيفاً ثميناً مرصعاً باليواقيت والجواهر وبعد أن تفقد ناصر الدين شاه ما فيها من الآثار النفيسة أقفلت وختم عَلَى قفلها مدحت باشا والي بغداد وكمال باشا ناظر الأوقاف، وقد اختلف الناس في تخمين ما في هذه الخزانة من الجواهر فالبعض يدعي أن ما حوته من المجوهرات تناهز قيمته 30 مليون من الجنيهات حتى قيل أن هناك درة كبيرة لا تُثمَّن محفوظة في ظرف من الزجاج ومن الأقوال المأثورة فيها أنها تقوم بإعمار العراق ولو خرب وهذه تعد اليوم من جملة المعلقات الفاخرة عَلَى ضريح الإمام علي ومما يؤخذ من أقوال القيم عَلَى أموال وخزائن الإمام وهو ما يسمى عندهم كليد دارأن ما في هذه الخزانة وحدها تساوي قيمته من 600 ألف ليرة إلى 700 ألف ليرة.
أما الخزانة الثانية فليست مفتوحة في كل وقت ولا يدخلها كل احد ومن نفائس ما حوته تاج ثمين عريق في القدم كان أهداه أحد سلاطين الهند قيل أن ثمنه يساوي 1000 جنيه عثماني وهناك سيف مرصع بالزمرد يقدر ثمنه بألفي ليرة، وفيها سجادات ثمينة دقيقة الصنع كان يجلس عليها ملوك الفرس وكل قطعة منها تساوي ألف جنيه، وأما ما فيها من شالات الكشمير والأنسجة التي تحار لها العقول وتستوقف الأبصار فما لا يحصيه أحد ولا يحيط به واصف مهما أوتي من البلاغة.
ويوجد اليوم عَلَى ضريح الإمام علي تحف نفيسة ومعلقات لا نظير لها منها ظرف من الزجاج فيه تاج مرصع بالحجارة القديمة يقال أنه تاج ملك من ملوك إيران المتأخرين، هذا عدا ما هناك من القناديل الذهبية والمعلقات بديعة الشكل، ومما يدخل في عداد ذلك مكتبة مخطوطة حوت نفائس المخطوطات العديمة النظير منها نسخة من القرآن الكريم بخط الحسين بن علي بن أبي طالب إلى غير ذلك من نوادر الكتب والمخطوطات.
وأما خزانة العباس فهي أغنى الخزائن بعد خزانتي الإمام علي وهي عبارة عن مستودع أسلحة هو عبارة عن غرفتين مملوءتين أسيافاً ذات غرارين قامته ذات حدٍ واحدٍ، والذي يؤسف له إهمال ولاة الأمر هذه الأسلحة القديمة التي أصبحت أثراً بعد عين، وفيها صناديق عديدة مشحونة بأنواع الشالات الثمينة وأستار من الحرير المقصب، ومسارج شمعدانات ذهبية فاخرة، وسيف ذهبي فاخر مرصع محلى بالنقوش الدقيقة، وإبرة كبيرة من الألماس ذات قيمة غالية، ومسرجة شمعدان فاخرة مرصعة بالحجارة القديمة قيل أنها تساوي ألف جنيه، هذا عدا السجاد الجميل المزدان بأبدع التصاوير وأغرب النقوش، منها سجادة مصنوعة من الحرير دقيقة الصنع أهداها إلى الخزان الشاه عباس وقد كتب عَلَى حاشيتها كلب أستانة حضرة عباس أي كلب عتبة حضرة العباس.
أما خزانة الإمام الحسين فلم يبق منها عَلَى ما علم شيء جدير بالذكر، وكل ما هناك 16 إناءً مستطيلاً كلها من الذهب الإبريز وهي الآن موجودة في أعلى مشبك الحسين وقد مر ذكرها، وسبب فقر خزانة الحسين ناشئ من وقوعها بين أيدي الوهابيين وسنصف في غير هذا الموطن ما نهبه الوهابيون من خزانهة الحسين من مجوهرات وغيرها.
اظنك تتعجب من غنى هذه الخزائن ولكن لو علمت أن كربلاء عَلَى اتساعها وكثيرة سكانها لا يوجد فيها اليوم مدرسة ثانوية لازداد عجبك، ولو طفت قرى كربلاء واحدة بعد أخرى لرأيت كلها - عدا النجف الأشرف التي هي اليوم مقر العربية وموطن أدبائها وفضائلها - وفي أسوأ حال بل: لرأيت الجهل متفشياً بن أبنائها، عَلَى أني أقول ما أقول لو أن أهل الحل والعقد في العراق يؤلفون جمعية يثق بها الناس لبيع هذه الآثار في أسواق أوربا ويشترون بأثمانها عقارات أو يشقون جدولاً أو يفتحون بها مصرفاً زراعياً أهلياً يساعد الفلاحين عَلَى قضاء حاجاتهم، وترويج مصالحهم، وينشئون مدرسة عالية في النجف أو كربلاء تدرس فيها العلوم الحديثة بالعربية بشرط أن يستقدموا أساتذة من علماء مصر والشام وينفقوا عليها من ريع تلك العقارات أو من مكاسب المصرف لخدموا المجتمع العراقي خدمة تذكر فتشكر وكانت الفائدة عامة، بل إن هناك ما هو أكثر فائدة وأعظم شأناً وهو أنهم ينشئون بأثمانها بواخر يسيرونها في نهر الفرات أو يمدون سكة حديدية بين بغداد وكربلاء فتقرب البلاد بعضها من بعض وتنمو الثروة وتزداد التجارة، ومن ريعها ينفقون عَلَى المدرسة، إذ هذا الزمن زمن التفكر بالمستقبل والعمل إلى ما فيه خير المجتمع لا وقت الكسل والخمول والانعكاف عَلَى القديم، وأي خير من خزائن لا تفيد الأمة في وقت الحاجة والضيق، في وقت يتسابق الأقوام إلى الاستضاءة بنبراس الحضارة ونحن في ظلمات الجهل تائهون، وتتراكض الشعوب إلى اقتطاف ثمار الفنون اليانعة ونحن عن ذلك لاهون، ولا أظن أحداً يعارض هذه الفكرة أو يحول دون إبرازها إلى الوجود سواء كان من رجال الحكومة أو من رجال الجعفرية هذا وإني أحث أدباء النجف عَلَى أن يكونوا أول القائمين بهذا الأمر لأنهم قادة العراق وذوو الأمر والنهي فيه، فينشئون مقالات في هذا الشأن مظهرين ارتياحهم لذلك، وربك الهادي إلى طريق الصواب.
نبذة من تاريخ كربلاء القديم والحديث
لم تكن كربلاء في العهد العيهد قبل الفتح الإسلامي بلدة تستحق الذكر، ولم يرد ذكرها في التاريخ إلا نادراً وأكثر ذلك في عرض الكلام عما كان يقع في الحيرة وقرى الطف من الوقائع. وكانت قبل أن يفتحها المسلمون قرية حقيرة عليها مزارع وضياع لدهاقين العجم. وكان سكانها أهل حراثة وزراعة وظلت كذلك إلى أن افتتحها المسلمون في عهد عمر ابن الخطاب سنة 14هـ ة635م وكان الفاتح لها ابن عرفطه بأمر سعد بن أبي وقاص قائد جيوش المسلمين في حرب القادسية، وقد كانت العرب صممت عَلَى أن تجعلها مباءَة لجيوشها ومركزاً لإدارة ما فتحوه من ديار الحيرة فاتخذوها بادئ ذي بدءٍ معسكراً ثم رحلوا عنها عندما أنكروا وخامة هوائها وكثرة ذبالها فنزلوا الكوفة. وإلى ذباب كربلاء أشار رجل من أشجع في قصيدته:
لقد حبست كربلاء عن مطيتي
وفي العين حتى عاد غثاً سمينها
إذا رحلت من منزل رجعت له
لعمري وايهاً إنني لأهينها
ويمنعها من ماء كل شريعة ... رفاف من الذبان رزق عيونها ولما رحل المسلمون عنها قلَّ شأنها وكادت تعفو رسومها ويخفى ذكرها ومازالت إلى أن عاد ذكرها ما حدث حولها 61هـ 680م من الحوادث الخطيرة التي أدهشت العالم الإسلامي إلا وهي واقعة كربلاء والطف المحزنة التي قتل فيها الحسين بن علي ونفر قليل من أصحابه رضي الله عنهم لمطالبته بالخلافة وأنفة من مبايعة يزيد بن أبي سفيان لأنه يرى نفسه أحق بها منه، ومن ذلك الحين ذاع صيت هذه المدينة في الآفاق وانتشر في الأقطار، وقد جاء ذكرها في أشعار العرب ودواوينهم ومع هذا لم تكن في القرن الأول الهجري عامرة، ومع ما كان في أنفس الهاشميين وشيعتهم من مجاورة قبر الحسين لم يتمكنوا من اتخاذ الدور وتشييد البنايات خوفاً من سلطان بني أمية، وقد أخذت في التقدم في أوائل الدولة العباسية ورجعت القهقرى أيام الرشيد وقد ازداد خرابها في أيام المتوكل لأنه هدم قبر الحسين فرحل عنها سكانها، ثم أخذ الشيعة أيام المنتصر يتوافدون إلى كربلاء أفواجاً أفواجاً ويعمرونها ثم ضخمت في القرن الرابع للهجرة وقد زارها عضد الدولة بن بويه سنة 37هـ 980م وكانت مدينة عامرة آهلة بالسكان يقطنها آلاف النفوس وقد وصفها ابن بطوطة قال:
هي مدينة صغيرة تحفها حدائق النخل ويسقيها ماء الفرات، والروضة المقدسة داخلها، وعليها مدرسة وزاوية كريمة فيها الطعام للوارد والخارج وعلى باب الروضة الحجاب والقومة لا يدخلها أحد إلا بإذنهم فيقبل العتبة الشريفة وهي الفضة وعلى الضريح المقدس قناديل الذهب والفضة وعلى الأبواب أستار الحديد، وأهل هذه المدينة طائفتان أولاد دخيل وأولاد فائز ينهم القتال أبداً وهم جميعاً أمامية ولأجل فتنهم تخربت هذه المدينة اهـ.
ولم تزل كربلاء بين صعود وهبوط ورقي وانحطاط تارة تنحط فتخضع لدول الطوائف وطوراً تعمر متقدمة بعض التقدم إلى أن دخلت في حوزة الدولة العثمانية سنة 941هـ 1534م وأخذت تتنفس الصعداء مما أصابها نكبات الزمان وحوادث الدهر التي كادت تقضي عليها، وبقيت وهي مطمئنة البال مدة طويلة تزيد عَلَى ثلاثة قرون لم تر في خلالها ما يكدر صفو سكانها حتى جاءت سنة 216هـ 1801م جهز الأمير سعود الوهابي جيشاً عرمرماً مؤلفاً من 20 ألف مقاتل وهجم بهم عَلَى مدينة كربلاء وكانت عَلَى غاية من الشهرة والفخامة ينتابها زوار الفرس والترك والعرب فدخل سعود المدينة بعد أن ضيق عليها وقاتل حاميتها وسكانها قتالاً شديداً، وكان سور المدينة مركباً من أفلاق نخيل مرصوصة خلف حائط من طين، وقد ارتكب الجيش فيها من الفظائع ما لا يوصف حتى قيل أنه قتل في ليلة واحدة 20 ألف نسمة وبعد أن تم الأمير مسعود مهمته الحربية التفت نحو خزائن والقبر وكانت مشحونة بالأموال الوفيرة وكل شيء نفيس فأخذ كل ما وجد فيها. وقيل أنه فتح كنزاً كان فيه أموال جمة جمعت من الزوار، وكان من جملة ما أخذ لؤلؤة كبيرة وعشرون سيفاً محلاة جميعها بالذهب ومرصعة بالحجارة الكريمة، وأوان ذهبية وفضية وفيروز وألماس وغيرها من الذخائر النفيسة الجليلة القدر، وقيل أن من جملة ما نهبه سعود أثاثات الروضة وفرشها منها 4000 شال كشميري و2000 سيف من الفضة وكثير من البنادق والأسلحة وقد صارت كربلاء بعد هذه الواقعة في حال يرثى لها.
وقد عاد إليها بعد هذه الحادثة من نجا بنفسه فأصلح بعد خرابها وأعاد إليها العمران رويداً رويداً وقد زارها في أوائل القرن التاسع عشر أحد ملوك الهند فأشفق عَلَى حالتها وبنى فيها أسواقاً حسناء وبيوتاً قوراء أسكنها بعض من نكبوا، وبنى للبلدة سوراً حصيناً لصد هجمات الأعداء وأقام حوله الأبراج والمعاقل ونصب له آلات الدفاع عَلَى الطرز القديم وصارت عَلَى ما يهاجمها أمنع من عقاب الجو فامنت عَلَى نفسها وعاد إليها بعض الرقي والتقدم.
وفي سنة 1241هـ 1825م وقعت واقعة عظيمة تعرف بوقعة المناخور - أمير الأخور أي أمير الاصطبل، وذلك أن الدولة العثمانية كانت في ذلك الزمن ضعيفة لاختلال الجيش الإنكشاري واستقلال البلاد القاصية واشتغالها بمحاربة العصاة في البلقان وطموح محمد علي والي مصر إلى الاستقلال واستقلال علي باشا لنلي تبه في ألبانيا، وكان والياً عَلَى العراق إذ ذاك داود باشا وكان تقياً عادلاً ورعاً مشهوراً بالدهاء وفرط الذكاء إلا أنه كان شديد الحرص عَلَى الانسلاخ من جسم الدولة والاستقلال بالعراق أسوة بمن تقدمه. فسعى بادئ بدءٍ إلى جلب قلوب الأهالي بما أنشأه من العمارات والبنايات والجوامع والتكايا. وقرب علماء العراق وبالغ في إكرامهم ونظم جيشاً كبيراً وأسلحة عَلَى الطراز الجديد حينئذ، فقاوم بعد ذلك يدعو الناس إلى بيعته، ولكثرة ما كان لديه من الأعوان بايعه أكثر مدن عراق العرب إلا كربلاء والحلة فرفعا راية العصيان وعند ذلك سير جيشاً ضخماً بقيادة أمير إصطبله وكانت عشيرة عقيل تعضده فأخضع القائد الحلة واستباح جاها ثم جاء كربلاء فحاصرها ثمانية عشر شهراً ولم يقو عَلَى افتتحاها لحصانة سورها ومناعة معاقلها، ولما رأى ذلك أقلع عنها ثم كر عليها ثانياً وثالثاً فلم يفز بأمنيته إلا بعد حصار طالت مدته أربع سنوات من سنة 1241هـ 1825م إلى سنة 1245هـ 1829م وكانت نتيجتها أن أسر الجيش نقيب كربلاء فسجنه داود باشا في بغداد.
وفي سنة 1258هـ 1842م شق أهالي كربلاء عصا الطاعة عَلَى الدولة وأبوا أداء الضرائب والمكوس وكان والي العراق نجيب باشا فجهز جيشاً بقيادة سعد الله باشا وسيره إلى كربلاء فحاصرها حصاراً شديداً وأمطر المدينة بوابل قنابله ولم يساعده الحظ عَلَى افتتاحها لأن سو رها كان منيعاً جداً وقلاعها محكمة لا يمكن للقائد الدنو منها، ولما أعيت به الحيل الحربية التجأ إلى الخداع فأعطى الأمان للعصاة وضمن لهم عفو الحكومة فأخلوا القلاع وجاؤه طائعين فقبض عليهم وسلط المدافع عَلَى جهة السور الشرقية فهدمها وأصلى المدينة ناراً حامية، ففتحها وارتكب فيها فظاعة وشناعة، ودخل بجيشه إلى صحن العباس وقتل كل من لاذ بالقبر وبهذه الموبقات أعاد سلطة الحكومة إلى تلك الربوع.
وفي سنة 1293هـ 1842م ظهرت فتنة بكربلاء تعرف بفتنة (علي هدلة) وذلك أن جماعة من المفسدين حرضت من الأهالي عَلَى مناوأة الحكومة وكانت أفكار الأهالي مستعدة لقبولها فألفت عصابة بقيادة علي هدلة وقابلت الجيش العثماني ودحرته في مواقع متعددة. ولما رن صدى هذه الحادثة في الآستانة قلق السلطان المخلوع وأصدر إرادة سنية بإرسال الجيوش إلى كربلاء وهددها وقتل من فيها عن بكرة أبيهم. وناط تنفيذ الإرادة بعاكف باشا والي بغداد والمشير حسين فوزي باشا وكان هذا القائد عاماً للجيش فجاء الاثنان كربلاء يصحبهما نقباء بغداد السابقين وضربوا المضارب قرب المدينة، فلم ير الوالي في المدينة آثار العصيان والتمرد. وقد علم بعد البحث الطويل أن العصاة عصابة ارتكبت إثماً واقترفت ذنباً يطاردها الجيش وليس من العدل هدم المدينة وتنفيذ الإرادة السنية عَلَى سكانها وأخذ البريء بجريرة المذنب فأحجم عن تنفيذ ذلك وفاتح القائد العام فأبى هذا إلا الإصرار عَلَى تنفيذ الأوامر فنجم من ذلك خلاف بينهما فرجعا إلى الآستانة وخاطباها بالأمر وبعد أخذ ورد صدر الأمر بالعفو، فرحل الجيش عنها بعد أن قبض عَلَى مثيري الفتنة وموقدي نيرانها قادهم إلى بغداد ومن هناك ألقاهم في أعماق السجون.

مجلة ( المقتبس )
في 1 ـ1 ـ1913 / العدد 84