امتيازات نفط العراق وانقلاب بكر صدقي

امتيازات نفط العراق وانقلاب بكر صدقي

الدكتور نوري عبد الحميد خليل
لم يكن النفط معروفاً في منطقة البصرة كما هو الحال في منطقة كركوك وقد ظلت هذه المنطقة مجهولة من الوجهة الجيولوجية لكونها مغطاة بطبقة سميكة من الغرين ولعدم وجود ادلة على توافر النفط فيها وكان من الصعوبة استشكافها بالطرق الجيولوجية الاعتيادية غير ان شركات النفط البريطانية تنبهت الى اهمية هذه المنطقة النفطية بعد اكتشاف النفط في المناطق القريبة منها في بلاد فارس

فأرسلت شركة النفط الانكليزية- الفارسية جيولوجييها الى المنطقة سنة 1916 في محاولة لاستكشافها والحصول على امتيازها غير ان الحكومة العراقية عارضت ذلك، فتم استبعادها عن امتياز هذه الشركة بناء على رغبة الحكومة البريطانية في ابعاد فرنسا وامريكا وكولبنكيان عنها والاحتفاظ بها احتياطياً للمستقبل ولما تمسكت فرنسا بحصتها من نفط المنطقة استناداً الى اتفاقية سان ريمو انكرت بريطانيا ذلك، بحجة ان المنطقة لم تكن مشمولة بالوعد الذي اعطته الحكومة العثمانية لشركة النفط التركية في 28 حزيران 1914.
بعد ان رفع حظر التحري عن النفط في العراق اجرت شركات النفط الانكليزية تحريات واسعة في المنطقة واستغلت هذه الشركات فرصة وجود الملك فيصل ونوري السعيد في لندن في صيف 1930 واتصلت بالمفوضية العراقية للحصول على امتيازها وقدمت الشروط العامة التي ترغب المفاوضة حولها وكان من بين هذه الشركات شركات اميركية ايضاً.
في اثر اشتداد المنافسة بين المصالح البريطانية والاميركية حول امتيازات النفط في الجزيرة العربية واكتشاف النفط في البحرين سنة 1932 ثم في ساحل الاحساء في المملكة العربية السعودية ازدادت اهمية منطقة البصرة واخذت شركات النفط تتوقع العثور على النفط في المنطقة بكميات جيدة. فتناقلت الصحف المحلية والاجنبية اخباراً عن اكتشاف النفط بغزارة في الاراضي العراقية المتاخمة لحدود الكويت ومنذ عام 1935 تقدمت عدة شركات وافراد مستقلون على امتيازها.
بعد انقلاب بكر صدقي في 29 تشرين الاول 1936 وتزايد النشاط الالماني في العراق ازداد اهتمام شركات النفط الانكليزية والاميركية في امتياز منطقة البصرة خشية سيطرة الالمان عليه وعندما تشكلت وزارة حكمت سليمان بعد الانقلاب أبدت اهتماماً ملحوظاً في قضية النفط واستثمار موارد البلاد الطبيعية وزيادة انتاجها ودرست هذه المشاريع لجان فنية متخصصة لكن وزير الاقتصاد والمواصلات كامل الجادرجي لم يكن مطمئناً الى سياسة شركة نفط العراق الرامية الى السيطرة على كل احتياطي النفط، وادخال وسط وجنوبي العراق ضمن امتيازاتها وكان يرى ان الشركة قد حصلت على هذه الامتيازات في عهد الانتداب ولم تراع فيها حقوق العراق فدعا الحكومة الى اتباع سياسة معينة فيما يخص استثمار مناطق النفط.
استشار كامل الجادرجي المهندس الاستشاري لشؤون النفط المستر بيبي تومس في الموضوع وكان تومسن يدرك مدى التأثير الذي احدثته المصالح الالمانية على الحكومة العراقية في عهد بكر صدقي، فنصحه بالتريث والامعان في دراسة الشروط التي تريد الحكومة منح الامتياز بموجبها قبل البت في الطلبات ودعا تومسن الى مفاوضة شركة نفط العراق((مادامت محافظة كل المحافظة على شروط الاتفاقية ومنفذة لكل التزاماتها)) على اساس تعديل شروط امتيازها وامتياز شركة انماء النفط البريطانية لاسيما وان هذه الشركة مكونة من مجموعات دولية الامر الذي يبعد عنها صفة الاحتكار ودعا تومسن وزارة الاقتصاد والمواصلات الى وضع المنطقة بالمناقصة، وتشجيع دخول الدول التي لا تملك حصصاً في نفط العراق، وخصوصاً ايطاليا والمانيا لان ذلك يدعم موقف الحكومة تجاه شركة نفط العراق.
عرض كامل الجادرجي اقتراحات تومسن على مجلس الوزراء في 19 نيسان 1937 وأوصى بضرورة دعوة المناقصات العامة بغض النظر عن جنسية الشركات لكن مجلس الوزراء اجل النظر في الموضوع ثم استقال الجادرجي مع عدد من الوزراء في 19 حزيران 1937 احتجاجاً على الاوضاع السيئة التي سادت بعد الانقلاب قبل ان يبت مجلس الوزراء في موضوع الامتياز، فخلفه عباس مهدي في منصب وزير الاقتصاد والمواصلات وفي بداية تموز 1937 وشكل حكمت سليمان لجنة من وزير المالية محمد علي محمود ووزير العدلية علي محمود الشيخ علي ووزير الاقتصاد والمواصلات عباس مهدي لدراسة الطلبات المقدمة وتقديم تقرير عنها، غير ان الاوضاع السياسية السائدة في البلاد حالت دون اجتماع هذه اللجنة

الطلبات المقدمة بشأن الامتياز
شركة نفط بورما المحدودة
في 17 نيسان 1935 طلب(ابراهام) ممثل شركة نفط بورما وهي شركة بريطانية مسجلة في مدينة كلاسكو ولها صلات وثيقة بوزارة البحرية البريطانية من وزارة الاقتصاد والمواصلات اجازة للتحري عن النفط في المنطقة الجنوبية غير المشمولة بامتياز شركة نفط العراق وشركة انماء النفط البريطانية. وبطلب من رئيس الوزراء ياسين الهاشمي قدم ابراهام في 27 نيسان الشروط الاساسية التي تريد شركته الحصول على الرخصة بموجبها. غير ان وزارة الاقتصاد والمواصلات رأت ان شروطه غير ملائمة ورفضت الدخول في المفاوضة حولها، وأبلغت الشركة في 26 ايار 1935 ان كل ما تستطيع الحكومة عمله هو منح اجازة التحري وفق احكام نظام المعادن التركي لسنة 1906 وفي حالة التحقق من وجود النفط فيها، يعطي للشركة حق الاستثمار وفقاً للنظام المذكور وبشروط يتفق عليها الفريقان لكن الشركة تخلت عن الطلب.

طلب السيد داود الحيدري
طلب داود الحيدري اجازة لتحري المنطقة في 6 حزيران 1936 فأبلغته وزارة الاقتصاد والمواصلات انها لا ترغب في منح الاجازة الا بعد تصديق القانون الجديد للمعادن من قبل المجلس النيابي، وفي الاول من تموز وفي 30 كانون الاول 1936 قدم الحيدري عريضتين يرجو فيهما اعادة النظر في طلبه، وابدى استعداده لقبول جميع التعديلات التي تدخل في القانون المذكور الا ان الوزارة كانت تشك في قدرته المالية والفنية للقيام بالالتزامات المطلوبة واضافة لذلك فان الحيدري معروف بارتباطاته بشركات النفط الانكليزية، فقد كان وكيلاً لشركة انماء النفط البريطانية في بغداد، ومساهماً في شركة حقول نفط الموصل قبل ان تستولي عليهما شركة نفط العراق لذا فقد طلبت منه الوزارة في 8 شباط 1937 ان يبين لها نوع المؤسسات المالية التي ينوي الاشتغال معها.
انكر الحيدري وجود اي شريك معه او ان تكون له أية علاقة بشركات النفط العاملة في العراق وابدى استعداده لاثبات اهليته الفنية والمالية، لكن المفوضية العراقية في لندن اخبرت وزارة الاقتصاد والمواصلات ان داود الحيدري فاوض بعض الرأسماليين الانكليز، مدعياً انه صاحب الحق الاول في الامتياز، فكذبت الوزارة ادعاءه وحين طلب في 12 كانون الاول 1937 الاسراع في منحه الاجازة افهمته الوزارة ان لجنة وزارة ستنظر في الطلبات المقدمة.
طلب السيد نجم عبد الله الفالح السعدون
في 30 ايار 1937 ابلغ نجم عبد الله الفالح وزارة الاقتصاد والمواصلات انه اكتشف منبعاً للنفط ومنبعين للكبريت في منطقة عمر بين كرمة علي والهارثة في محافظة البصرة ولما اجرى الكشف على المنطقة من قبل الخبير الجيولوجي دلت النتائج على وجود ترسبات نفطية عميقة فطلب نجم عبد الله الفالح في 8 حزيران 1937 اجازة للتحري عن النفط والكبريت وامتيازا باستثمارها لكن الوزارة رفضت ذلك بحجة عدم توافر الخبرة الفنية والمؤهلات المالية الكافية لديه، ولم يقف الباحث على الجهة التي كانت وراء هذا الطلب.

طلب المصالح الالمانية
ان المواقف المعادية لبريطانيا والتي اظهرتها القوى الوطنية في العراق والظروف العامة التي رافقت انقلاب بكر صدقي في 29 تشرين الالول 1936 كانت في صالح التغلغل الالماني وكانت الحكومة البريطانية شديدة الرغبة في منح امتياز منطقة البصرة الى شركة نفط العراق، غير ان هذه الشركة لم تكن متسرعة في اخذ الامتياز، رغبة منها في الحصول على تنازلات من الحكومة العراقية فأخذت الحكومة البريطانية تضغط عليها للتقدم بشروطها الى الحكومة العراقية، فنشرت جريدة Christian Science Monitor الاميركية خبراً عن مندوبها في بغداد، مفاده ان العراقيين وبعض خبراء النفط واثقون من وجود النفط في منطقة البصرة بكميات جيدة، وان الدكتور فرتز غروبا الوزير المالي المفوض في بغداد قدم طلباً الى الحكومة العراقية للحصول على امتيازها وانه دخل في مفاوضات مع وزير الاقتصاد العراقي. واضافت الجريدة ان المهندسين الالمان مقتنعون بوجود النفط في المنطقة بعد التحريات الواسعة التي اجروها على حسابهم الخاص وبصورة خفية، لكن الحكومة العراقية مترددة في منحهم الامتياز، لقلة خبرتهم في استثمار النفط ولافتقارهم الى العملات الاجنبية بيد ان الالمان يلحون في الطلب وان نفوذهم في ازدياد، وقد قامت جريدتا الدفاع والبلاد البغداديتان بترجمة الخبر ونشره بصورة بارزة.
ان الوثائق العراقية والانكليزية الرسمية لا تشير الى وجود مثل هذا الطلب بل انها تدل بوضوح على ان الحكومة الالمانية لم تكن تهتم قبل الحرب العالمية الثانية بالنفط العراقي، بقدر اهتمامها بايجاد اسواق لبضائعها وصناعتها الثقيلة في العراق والبلدان العربية ولم يكن القصد من ترويج هذه الاخبار سوى الضغط على شركة نفط العراق للتقدم بطلب للحصول على الامتياز وعلى اية حال فان الخطر الالماني قد زال بصورة مؤقتة، بعد مقتل بكر صدقي في 11 اب 1937.

طلب شركة نفط العراق
كانت شركة نفط العراق شديدة الرغبة في الحصول على امتياز منطقة البصرة ومنع دخول عنصر غريب عنها الى العراق لكنها ارادت ان تحصل على الامتياز بصورة تمكنها من تأجيل استثمار نفط هذه المنطقة، وكذلك منطقة الموصل الى اطول مدة ممكنة، والتخلص من التزامات شركة انماء النفط البريطانية الخاصة بتعهدات الحفر وتصدير النفط وحصة العراق العينية من النفط، وفي منتصف شباط 1937 وصل مدير ادارة الشركة جون سكليروس بغداد لمفاوضة الحكومة العراقية حول تخفيض عوائدها من امتياز شركة انماء النفط البريطانية الى شلنين بدلاً من اربعة شلنات والغاء حصتها العينية العشرين بالمائة من النفط بحجة ان نوعية النفط المكتشفة غير ملائمة، وطلب منح شركة انماء النفط البريطانية امتياز منطقة البصرة وعرض على الحكومة العراقية مقابل ذلك مليون باون ذهب كحد ادنى للعوائد السنوية المستحقة من شركتي نفط العراق وانماء النفط البريطانية وان تقوم الشركة بمد انبوب نفط جديد مع منحة مقدارها 600 الف باون.
ارادت الحكومة العراقية ان تحصل على قرض من الشركة، لكن الشركة رفضت تقديم القرض وبناء على ذلك رفض رئيس الوزراء حكمت سليمان العروض التي تقدم بها سكليروس واخبر السفير البريطاني في بغداد ارشيبالد كلارك كير(1935-1938) ان امتياز شركة انماء النفط البريطانية قد احرز بأساليب فاسدة، وان الشركة وزعت مبالغ كبيرة من المال على بعض العراقيين عندما حصلت عليه سنة 1932 واضاف حكمت سليمان ان هذا العمل القذر ما زال عالقاً في اذهان العراقيين وانه اذا وافق على تعديل الامتياز، فان ذلك سيثير تعليقات البعض بأن الأساليب الفاسدة عادت فلعبت دورها في التعديل وسيشوه سمعته وسمعة الحكومة وقد رفض حكمت سليمان في اول الامر مقابلة سكليروس او التفاوض معه ويبدو انه اتخذ هذا الموقف بالتنسيق مع السفير البريطاني رغبة منهما في دعم موقف بريطانيا في مواجهة المحاولات الاميركية الرامية الى الحصول على الامتياز لشركاتها النفطية، وللضغط على المصالح الفرنسية والاميركية المساهمة في شركة نفط العراق، من اجل التعاون للوقوف بوجه الخطر الالماني اذ ان حكمت سليمان بتدخل من السفير البريطاني، وافق على مقابلة سكليروس ولما اجتمعا افهمه (حكمت سليمان) انه لا يوافق على تعديل شروط الامتياز الا بعد ان تزول كافة المفاسد التي سببها. وانه يرفض النظر في طلب امتياز البصرة اذا كان باسم شركة انماء النفط البريطانية لكنه على استعداد لان ينظر فيها اذا قدم باسم شركة جديدة تابعة لشركة نفط العراق تدعى بشركة نفط البصرة مثلاً، فرحب سكليروس بالفكرة، وبين للسفير البريطاني بصراحة انه لا يهتم بقضية تعديل امتياز شركة انماء النفط البريطانية بقدر اهتمامه بالحصول على امتياز نفط البصرة.
ثم طلب حكمت سليمان من سكليروس ان يبين رأيه في موضوع التحري عن النفط في منطقة البصرة واستثماره في حالة العثور عليه بكميات تجارية فقدم سكليروس في 27 شباط 1937 مذكرة اوضح فيها ان امكانات المنطقة المجهولة لعدم وجود منابع او عروق معروفة، وان سعة المنطقة تتطلب مدة طويلة للتحري وابدى استعداد شركته للقيام بذلك، بشروط تشبه شروط امتياز سنة 1952 مع تقديم قرض للحكومة مقداره مليونا باون بدون فائدة.
عن كتاب
(التاريخ السياسي لامتيازات النفط في العراق )