الليلة الرهيبة التي عاشتها الارجنتين

الليلة الرهيبة التي عاشتها الارجنتين

هل فشلت ثورة الارجنتين: ان الحوادث تؤكد ان بيرون قد نجح في اخماد الثورة. ولكن المراقبين السياسيين يؤكدون انها بداية نهاية حكم جوان دومينجو بيرون. الرجل الذي اوصلته دموع امرأة احبته الى كرسي الحكم. فلما ماتت احس بانها اخذت معها كل الذي اعطته له في حياتها. الحب واليد القوية التي كان يحكم بها الارجنتين.


لقد ذهبت بيرون الى فراش زوجته في الليلة التي رقد فيها جثمانها في مقره الاخير. وجثا على ركبتيه امام الفراش الذي كان يضم جسدها المريض في آخر ايام حياتها. وراح يبكي، ولم يترك بيرون غرفة زوجته قبل مساء اليوم التالي، عندما سمع صوت رجل ينتحب. واتجه بيرون الى نافذة الغرفة ونظر الى حديقة قصره"كازا روسادا"فوجد بيلاتو الحارس العجوز يستند الى الحائط ويجفف دموعه وتبكي معه زوجته ايفينا!
وفي هذه الليلة اختفى نجم بيرون من السماء، النجم الذي كانت ايفا تنشر اليه باصبعها في كل مساء وتقول وهي تستند برأسها الصغير على صدر زوجها:"هذا هو نجمك، انني ارى فيه صورتك لقد امنت به دائما، ونجحت في ان ابقي هلك هناك، في هذا المكان البعيد من السماء، طوال الاعوام التي عشتها معك!"ثم ماتت ايفا، واختفى نجم بيرون!

حذر بيرون!
ومضى على تلك الليلة اربعة اعوام تقريبا، عاشها بيرون وحدد قبل ان تبدأ نهايته تقترب، كان بيرون رجلا قاسيا عنيداً صلب الرأي، لا يلين ابداً مع اعدائه، كان يؤمن بان الطريقة الوحيدة التي يجب ان يواجه بها اعداءه ومعارضيه، هي ان يعتقلهم ويلقي بهم بين جدران السجون، وبهذا وحده يضمن اخراس السنتهم الى الابد، وكان بلد له ان ينزل في الليل ويذهب وحده الى مبنى السجن الكبير، ويفتح بابه ويحصي عدد المعتقلين في زنزانتهم، قبل ان يذهب الى فراشه وينام!
وكان مواطنو بيرون يقولون انه يحارب معارضيه ويعتقل الصحفيين والسياسيين والطلبة والقس، ويلقي بهم بين جدران السجون، لانه رجل حذر اكثر من اللازم!
ولقد لازم هذا الحذر الجنرال بيرون في اوائل حكمه ولكن مع فارق كبير، كان بيرون يعرف سلطة الكنيسة الكاثوليكية في الارجنتين ويعرف مقدار ما لها من نفوذ وسط شعب تزيز نسبة الكاثوليك فيه على 95 في المائة، كان يعرف هذا كله، فبدا يتقرب الى رجال الكنيسة، عرف كيف يسترضيهم ويكسب قلوبهم، اصدر قانونا يفرض تعليم الديانة للكاثوليكية في المدارس، بل كان يمر على استدعاء قيس في كل اجتماع عام يعقده حزبه، حزب"ديسكا ميادوس"الذي يضم ملايين العمال في الارجنتين، العمال الذين وصل بيرون على اكتافهم الى الحكم بفضل لباقة امراة عرفت كيف تتكلم وكيف تبكي وكيف تثيرهم!

مؤامرات ودسائس!
وكان بيرون يطلب من القي سان يبداوا هم الاجتماع بالصلاة الى الله ان يبارك هذا الحشد الكبير من رجاله، ثم بعد ذلك يتكلم هو، وهكذا عرف بيرون كيف يسترضي عددا كبيراً من اصحاب النفوذ الكاثوليك ويضعهم الى صفه، واصبحت علاقتهم به، علاقة ودية طيبة، او هكذا بدت في ظاهرها منذ تسع سنوات تقريبا، وكان بيرون بعد هذا كاثوليكيا وكان الدستور الارجنتيني نفسه يفرض على الحكومة تأييد الكنيسة.
وعلى هذا الاساس استمرت العلاقة بين بيرون ورجال الدين في الارجنتين، وفجاة بدأت الامور تتغير، ثم تنقلب رأسا على عقب، احس بيرون من ناحية ان رجال الدين قد جاوزوا الحدود التي رسمها لهم، وبدأت تصل اليه انباء عن مؤامرات يدبرونها له في الخفاء، وفي الوقت نفسه، بدأ زعماء الكنيسة من ناحيتهم يحسون بالقلق للقسوة التي يعامل بها بيرون كل صاحب صوت يرتفع لمعارضته، واشفق بعض القساوسة الشبان على معارضي بيرون وهم يرونهم يساقون امامهم الى السجون، حيث ينتظرهم فيها مصير مجهول، كانوا يصفونه بانه بعيد عن كل مظهر من مظاهر الانسانية وبدأ القسس يضعون اصواتهم الى المعارضة، والى الحركات المعادية لبيرون، وذهب بعض الكاثوليك للعمل في صفوف المنظمات المسيحية الديمقراطية، وكلها هيئات تناهض بيرون وتناصب حكومته العداء، وذهب البعض الآخر الى ابعد من هذا، فراحوا ينضمون الى صفوف العمال ويقومون فيها بدور كبير!

ثورة بيرون!
وهنا بدا بيرون يتحرك، كان يعتبر العمال شيئاً من ممتلكاته الخاصة به وحده، فكيف يجرؤ رجال الدين على الوصول اليهم والاجتماع بهم، ولم يحتمل بيرون وهو يرى هذا كله يحدث امامه وبدا يثور، واشتدت ثورته، وقال البعض ان هناك عوامل اخرى قد غدت غضب بيرون على رجال الدين الكاثوليك، وعلى الكنيسة!
لم يكن بيرون راضيا ابدا على موقف الفاتيكان من زوجته، فقد كانت دوائر الفاتيكان تستنكر دائما حياة ايفا بيرون، كانت تنتهز كل فرصة وتنتقد تصرفاتها وحركاتها، وهكذا بدأت ثورة بيرون وبدأ سخطه على الكنيسة ينمو ويضطرم.
وفي شهر اكتوبر من العام الماضي احس بيرون ان يده قد قويت الى الحد الذي يستطيع معه ان يعلن عداءه سافرا للكنيسة فوقف بيرون ووجه انذاراً لرجال الكنيسة وطالبهم بالابتعاد عن نقابات العمال وقطع كل صلة تربطهم بها، وقال انه يعرف ان هناك مؤامرات تدبر ضده!
ثم جلس بيرون بعد ذلك وراح ينظم حملة ضد رجال الدين ويطلب الى كل صحيفة موالية له ان تتولى نشرها على الشعب.
وحدثت المفاجأة في احد الايام عندما وقف السنيور البرتو تيسر، نائب رئيس الجمهورية يعلن"ان الكنيسة لم تعد تقيد البلاد في شيء ما"وتعاقبت الحوادث بسرعة، وبدا بيرون حملة اعتقالات واسعة النطاق، اعتقل القساوسة واودعهم السجون، اقر الكونجرس مشروع قانون باباحة الطلاق في الارجنتين، وقانونا آخر يمنع تدريس الديانة الكاثوليكية في المدارس، وثالثا يفرض ضرائب على الممتلكات الخاصة بالكنيسة ومنع الاحتفالات الدينية في خارج مبنى الكنيسة.

موكب الكاثوليك!
واخيرا وقبل الثورة باسبوع واحد اصدر بيرون امراً يمنع الاحتفال رسيما بعيد الجسد. واعلن ان هذا العيد لن يصبح بعد اليوم من الاعياد الرسمية للدولة.
وقامت قيامة الكنيسة، وخرج مائة الف كاثوليكي في موكب رهيب يحتفلون بالعيد في شوارع العاصمة ويتخذون الحكومة التي شطبت العيد من قائمة الاعياد الرسمية.
وسار الموكب في الشوارع، بتقدمه فريق من الكاثوليك المتحمسين الذين راحوا يجمعون نسخ صحف بيرون ويرحقونها، ويجعلون منها شعلة تضيء امامهم الطريق!
ولم يتعرض احد للموكب الديني الكبير، الذي سار في شوارع العاصمة يوم السبت، وقبل قيام الثورة باقل من اسبوع، وفي يوم الاثنين، وقف بيرون يذيع خطابا على الشعب، وصف فيه رجال الدين بانهم"ذئاب في ثياب حملان"، ثم قال بيرون:"ترى الى متى سيصبر شعب الارجنتين!".
وانتهى بيرون من خطابه، واصدر اوامره لرجال حزبه بان يكونوا على اهبة الاستعداد لمواجهة كل الاحتمالات، والقى القبض على اثنين من كبار قساوسة الارجنتين، وهما الونسنيور رامون بابلو، ومساعده مانويل تاتو. وقال بيرون انه يتهم تاتو بالاشراف على تنظيم الموكب الديني الكبير الذي سار في شوارع بيونس ايرس في يوم الاحتفال بعيد الجسد. ووضع بيرون القسيسين في اول طائرة مسافرة الى الفاتيكان، ولم يعطهما فرصة لجمع ملابسهما وحزم حقائبهما، ووصل القسيسان الى الفاتيكان وعلم البابا بتطورات الموقف الخطير، فكان رده الحرمان لبيرون والحرمان لكل رجل في حكومة بيرون لجأ الى العنف وحارب الكنيسة واضطهاد رجال الدين! ووصل نبا قرار البابا الى بيونس ايرس، ولم تكد تمضي بضع دقائق حتى كانت العاصمة قد اصبحت مسرحا لقتال دام رهيب.

القنابل والزهور
كان الوقت ظهراً، وكانت بيونس ايرس تحتفل في هذا اليوم بعيد محرر الارجنتين، جوزيه دي سان مارتين"، وفي ميدان"بلازا دي مايو، جاء الالوف من افراد الشعب ليشتركوا في الاحتفال القومي الكبير الذي اقيم في كاتدرائية الروم الكاثوليك التي تتوسط الميدان وتضم قبر"جوزيه مارتين".
وفجأة حلقت طائرة في السماء، ولم تزعج الطائرة احدا. فقد كانوا يتوقعون ان تشترك الطائرات معهم في الاحتفال بعيد"جوزيه"وتلقي عليهم باقات الورود من السماء، واتجهت العيون الى السماء والطائرة تقترب. وفجأة سمع الناس دويا رهيبا زلزل الميدان الكبير واتجهوا بانظارهم الى مصدر الانفجار، فشاهدوا قصر الرئيس بيرون"كازا روسادا"يحترف وتندلع منه السنة اللهيب والدخان، ولم يكن القصر بعيدا منهم، فهو يقع في الجانب الاخر من الميدان الكبير امام الكنيسة، وتطايرت شظايا في اجسام المئات من الجماهير المحتشدة وسقطوا على الارض يصرخون ويتألمون. واستبد الهلع بالنساء والاطفال، ودوت صرخات الرعب في كل مكان من الميدان الكبير، وراحت القنابل تتساقط من الطائرة، ولم تكن وحدها في هذه المرة فقد انضمت اليها طائرات اخرى كثيرة، كانت الطائرات تحلق على ارتفاع بسيط، فوق قصر بيرون مباشرة، وكانت تطلق رصاص مدافعها الرشاشة في نفس اللحظة التي تقترب فيها من القصر.

الزحف على القصر!
واسرعت سيارات الجيش المصفحة الى القصر المحترق. ونزل منها الجنود بمدافعهم الرشاشة وخوذاتهم الفولاذية وراحوا يدافعون عن قصر بيرون، ويحاولون سد الزحف الذي قام به فريق من جنود البحرية الثائرين على قصر الرئيس.
واذاع راديو الدولة نداء موجها الى اتحاد نقابات العمال. قال الراديو ان الثوار يهددون البلاد بحرب اهلية، اوقفوا السيارات في الطرقات، واستولوا عليها، اقتلوا سائقيها اذا لزم الامر، واسرعوا بها الى"كاز روسادا"ان القصر يحترق، والثوار يزحفون اليه!
وخرجت وحدات الجيش لتصد هجوم الثوار، واسرع جنود البحرية الثائرون يختفون من الميدان، واحتموا بمبنى وزارة البحرية ودارات معركة عنيفة بالمدافع الثقيلة والخفيفة والبنادق والسلاح الابيض بين الفريقين، الجيش الذي يؤيد بيرون ويحميه، وسلاح البحرية الذي دبر الثورة، ولم تكد تمذي ساعة واحدة، وقذائف المدافع تدوي في الشارع بين"كازا روسادا"وبين مبنى وزارة البحرية الذي يبعد حوالي مائتي متر، حتى شوهد علم ابيض يرتفع على سارية المبنى ويعلن جنود البحرية الثوار الهزيمة والاستسلام.

الليل الرهيب!
ومضت ست ساعات، وبدا الظلام يحتوي المدينة وسط انات الجرحى وحثت القتلى التي تركت وحدها في الظلام الكئيب، وانطلقت سيارات الاسعاف تنقل المصابين للمستشفيات، واسرعت فرق المطافئ تقاوم الحرائق والسنة اللهب التي انتشرت في كل مكان، وقامت سيارات الجيش ينقل جثث الضحايا الى مكان اعد خصيصاً في احد معسكرات الجيش لتنقل منه في الصباح الى المقابر، بعد ان يعرفوا اصحابها!
ومضى الليل الرهيب بطئاً ولكن عيون الناس لم تنم، لقد ساد المدينة هدوء مخيف يثير الرغبة في القلوب، لم يكن يزعجه الا اصوات عجلات السيارات وهي تنهب الطريق لتسعف جريحا او تطفيء حريقاً، كان الهدوء الذي يسبق العاصفة!
وجاء الصباح، وخرجت معه كتل من البشر راحت تزحف في شوارع العاصمة تهتف وتصرخ ثائرة نافعة متوعدة، كل نداء راديو الدولة للعمال لا يزال يرن في اذانهم، ان ينسوا الحصار الذي فرضه الثوار على قصر بيرون، لم ينسو الليلة الرهيبة والنار تأكل فيها قصر الرئيس، لم ينسوا قتلاهم وجرحاهم الذين سقطوا ضحية لرصاص الثوار الغادرين، فهجموا على الكنائس والمعابد والهياكل، اشعلوا فيها النار وخرج رجال الكنيسة مذعورين يجرون في الشوارع بملابسهم الدينية الفضفاضة هربا من ثورة رجال بيرون، العمال والطلبة يحملون المدافع والمسدسات ويقتحمون الكنائس والاديرة ويشعلون فيها النيرانن الرصاص يخترق تماثيل القديسين المرمرية، القنابل المحرقة تتساقط فوق الابسطة الفخمة والسجاجيد والمفارش الثمينة في الهياكل والمعابد، فتحرقها وتحيلها دخانا ورمادا. الرهبان والراهبات يجرون امام الثوار مذعورين خائفين، الجماهير الساخطة تهتف بحياة بيرون وتتوعد رجال الدين.

بكاء ودعاء!
ولم يجد القسس غير ارصفة الشوارع فركموا فيها ورفعوا ايديهم الى السماء، وراحوا يصلون ويبتهلون الى الله ان ينقذ ارواحهم وبكى القس وهم يصلون، واحترقت كنيستا سانت دومنيكا وسانت فرانسيس، وتهاوت جدران الكنيستين واكلتهما النيران.
واحترقت كنائس اخرى كثيرة في اماكن مختلفة من المدينة الكبيرة، وتصدعت جدرانها، واصبحت ركاما وحطاما!
وتتابعت الحوادث بسرعة عجيبة، وتضاربت الانباء بصورة سريعة، وظلت انباء الثورة تصل الى العالم الخارجي من كل مكان الا من العاصمة نفسها مسرح الثورة والقتال الرهيب، لقد انقطع كل اتصار خارجي بيبونس ايرس، واعلن بيرون حالة الطوارئ في البلاد وفرض رقابة شديدة على كل خبر يبعث به المراسلون الاجانب الى الخارج، وبقي العالم كله حائراً، يتساءل هل نجحت الثورة؟ هل سقط بيرون؟ بل ما الذي يحدث في الارجنتين؟
ومضى راديو مونتقديو عاصمة جمهورية اوروجواي التي لجأت اليها الطائرات التي اشتركت في الاغارة على قصر بيرون يذيع انباء الثورة من وجهة نظر الثوار، وكان الراديو يذيع في كل ساعة بيانا يؤكد ان الثورة ماضية في طريقها، وان الثوار ينظمون صفوفهم وانهم يستعدون العودة الى الارجنتين، وان بيرون ارغم على الاستقالة وانه اختفى من مكتبه ولا يعرف احد اين هو الان؟

الاميرال الخائن!
وفي الوقت نفسه كان راديو الدولة في الارجنتين يذيع انباء تتناقض تماما مع اذاعة راديو مونتقديو. كان الراديو يعلن ان بيرون قد سيطر على الموقف، ان الثورة فشلت، ان الحكومة اعتقلت الثوار، وان بيرون عين الجنرال فرنكلين لونيرو قائدا عاما للقوات المسلحة، وان الجنرال نجح في اعادة الهدوء الى البلاد، وان الاميرال اسبيال اوليفيري وزير البحرية الخائن الذي دبر الثورة وقادها قد وقع اسيرا في ايدي رجال بيرون.
وعلى هذا الحال مضت الانباء المتناقضة تتوالى، والعالم الخارجي حائر، هل يصدق بيرون ام يصدق الثوار.
واخيرا سمعت الارجنتين صوت بيرون يتكلم في الراديو، ونقلت وكالات العالم خطاب رئيس الجمهورية، وبدأت الحياة الطبيعية تعود الى الارجنتين، وشيئا فشيئاً بدأت الحقيقة تتضح والموقف المانع تتحدد معالمه، لقد فشلت ثورة الارجنتين، ولكن الحرب التي بداها بيرون علىالكنيسة لم تنته بعد، وصورة الكنائس المحترقة والنار تندلع منها لم تختف من اذهاب الكاثوليك المتعصبين الثائرين وحوادث الليلة الرهيبة التي ذهب ضحيتها اكثر من 400 قتيل والف جريح لم ينسها الشعب، لقد نجح بيرون في احباط المؤامرة واعتقال مدبريها وقتل الثورة، ولكنه لم ينجح بعد في مسح ىثار الثورة من قلوب شعب هذه البلاد، ولن ينجح ان المراقبين الدبلوماسيين كلهم يجمعون على ان نهاية بيرون قد اوشكت.
لقد سمعوه يخطب بعد الثورة، واذهتهم المفاجأة، كان بيرون لاول مرة في حياته السياسية يقول"نحن"ولا يقول"انا". لم يكن بيرون يتحدث عن نفسه كما كان يفعل في خطبه السابقة، كان حديثه في خطبه الاخيرة كله عن الجيش، وكله عن ولاء الجيش والجهود التي بذلها الجيش لقمع الثورة.
ان بيرون رجل عبقري، يتمتع برأس مفكر وعقل جبار، وقد ينجح فعلا في ان يسترد بعض نفوذه وقوته، ولكن الى حين!

كاثوليكي متعصب
ولقد عرف بيرون كيف ينقذ الموقف، وعندما لجا الى الجنرال فرانكلين اوتيرو كان يعرف انه الرجل الوحيد الذي يستطيع ان يخمد الثورة، فقد كان لوتيرو كاثوليكيا متعصباً، وكان قائدا في الجيش، وبالرغم من انه كان يمارس تصرفات بيرون، وبالرغم من انه لم يحاول ان يخفي سخطه اخيراً على قرار بيرون بفضل الكنيسه عن الدولة، فانه لم يتردد في قبول المهمة الخطيرة التي القاها بيرون على عاتقه، واسرع يلبي رغبته، لانه وجد ان هذه هي فرصته الوحيدة التي سوف يستطيع بعدها ان يجعل للجيش المكان الاول في الارجنتين، كان الجيش يخضع لبيرون، فاصبح بيرون يخضع للجيش.
ان المراقبين السياسيين يتوقعون لبيرون نهاية غريبة، ولكنهم يقولون انها لن تكون مفاجأة مسرحية، كما كانت قصة وصوله الى كرسي الحكم، فقد اصبح واضحا ان نفوذ بيرون قد بدا يضعف تدريجيا، وقيمته الحديدية تتراخى، وشخصيته القوية تضعف امام الجيش، الجيش الذي كان بيرون يسيطر عليه كله في يوم من الايام.

معجب بموسوليني
هذه هي قصة الثورة الاخيرة في الارجنتين على الرجل الذي بدا حياته السياسية ملحقا في سفارة الارجنتين في روما في بداية الحرب العالمية الاولى، وقد كان بيرون احد المعجبين المتحمسين ينيتسو موسوليني دكتاتور ايطاليا، وكان يستمع الى خطبه بحماسة عجيبة وعاد الى الارجنتين واصبح وكيلا لوزارة الحرب، وجاء باصدقائه وعينهم في كل الوظائف اتهامه في الدولة. وكان رئيس الجمهورية وقتها هو السنيور بدرو راميريز. واحس رئيس الجمهورية بنفوذ بيرون يقوى ويزداد، واحس بالخوف على مركزه هو، ولم يكن رئيس الجمهورية مرتاحا لوجود بيرون في وزارة الحرب، لقد وصل بيرون الى هذا المنصب بفضل قواد الجيش الذي عمل معهم برتبة كولونيل قبل ان يلتحق بالسلك السياسي ويسافر الى روما، وكان قواد الجيش هم الذي اجلسوه على كرسي الوزارة.
ومن هنا احس رئيس الجمهورية بالقلق وهو يرى نفوذ بيرون يزداد، وطالب باستقالته، ووصل الخبر الى بيرون وبدا يعمل بسرعة، لم تكد تمضي ساعة واحدة، حتى كان بيرون وسنة من رجاله يقتحمون مكتب رئيس الجمهورية بمسدساتهم، التي وجهوا فوهاتها الى صدره، ويرغمونه على توقيع اقرار بنقل سلطانه الى الجنرال"الديلميرو فاريل"القائد الذي يرأس جبهة بيرون ورجاله ووقع رئيس الجمهورية الاقرار، واصبح الجنرال فاريل رئيسا للجمهورية واصبح بيرون نائبا للرئيس ووزيرا للحرب في نفس الوقت ولكنه لم يقنع بها وصل اليه، لقد كان يطمع في الكرسي الكبير الذي اجلس هو عليه صديقه فاريل.
ومضى بيرون يعمل بسرعة، كان يذهب الى الاجتماعات التي يعقدها العمال، يجلس بينهم ويتحدث وينصت الى ما يقولون، ويحتسي معهم اقداع النبيذ، واصبح بيرون زائرا دائما في مقر نقابات العمال في الارجنتين، وهكذا عرف كيف يكسب قلوب هذه الطبقة الكادحة من افرد الشعب، وفي هذه الفترة ايضا بدا يؤلف حزبه الجديد، حزب"ديسكا ميادوس". وبدا الوف العمال ينضمون الى حزب بيرون.

ايفا بيرون!
وفي هذه الفترة ايضا ظهرت ايفا ديرات في حياة بيرون، كانت ايقا فتاة شقراء جميلة تشتغل بالتمثيل.. واحب بيرون الممثلة الناشئة.
وفي اوائل عام 1945، احس بيرون ان الوقت قد حان ليقوم بمحاولته الاخيرة ويصبح رئيسا للجمهورية، وكانت الحرب العالمية الثانية قد اوشكت على الانتهاء، بانتصار الديمقراطية، وفشل الفاشية والثائرية، ومن هنا اساء بيرون اختيار الوقت المناسب لمحاولته، وجاءت النتيجة عكس ما كان يتصورها فبدلا من ان يجلس بيرون على كرسي الرياسة ويطرد الرجل الذي اجلسه هو عليه. انقلب الموقف، وفشلت المحاولة واعتقل رئيس الجمهورية نائبه الثائر، والقى به بين جدران السجون مع الف رجل من اتباعه، ونفاهم الى جزيرة جارسيا!
واعتقد الجميع ان مستقبل بيرون قد انتهى، ولكن الحوادث كانت تقول غير ذلك، لقد بدا نجم بيرون يلمع في نفس اللحظة التي قذفوا فيها به الى زنزانته المظلمة، او على الاقل كانت هناك امراة واحدة تؤمن ان نجم بيرون لا يمكن ان يأمل هكذا ويمثل هذه البساطة، كانت هذه المراة هي ايفا ديرات الممثلة الشقراء الجميلة التي احبها بيرون!

ديسكاميسادرس!
وبدات ايفا تعمل بسرعة، واستطاع ذكاؤها العجيب ان يرسم لها الخطة التي بدأت تنقذها فورا، كانت تعلم ان بيرون قد كسب قلوب العمال، وكانت تعرف الكثير عن"ديسكاميسادرس"الذي وضع بيرون نواته قبل ان يدخل السجن.
فذهبت ايفا الى العمال، ووقفت وسطهم تتكلم وتخلط كلماتها بدموعها، وبكى معها 50 الف عامل، وراحوا جميعا يتحينون الفرصة، ان بيرون في جزيرة جارسيا الان، في زنزانة صغيرة مظلمة وسط سجن كبير، ولن يمكن الوصول اليه ابدا، وسوف تفشل كل محاولة الاطلاق سراحه بالقوة وراحوا ينتظرون ويفكرون ثم جاءت الفرصة، نقل بيرون الى بيونس ايرس وادخل احد المستشفيات العسكرية للعلاج فقد كان يشكو مرضا اصابه اخيراً في سجنه!
وفي اليوم الذي وصل فيه بيرون على نقالة عائدة الى بيونس ايرس، رخج خمسون الف عامل يزحفون الى باب المستشفى، ويحتشدون في الميدان الكبير، ويهتفون في صوت يدوي كالرعد"نريد بيرون!"ونجحت الممثلة الشقراء الجميلة.

الحلم يتحقق!
ولم يحاول رجل واحد من رجال البوليس او الجيش ان يقف في وجه هذا الحشد الكبير، وخرج بيرون من السجن وتزوج المراة التي امنت بنجمه وهي تراه بساق امامها الى زنزانته، وكانت ايفا وقتها في الثلاثين، وكان بيرون يكبرها بعشرين عاما!
واجتمع بيرون باعوانه، وبداوا يرسمون خطة غزو جديد.. غزو قلوب الملايين من افراد الشعب في الارجنتين، فقد كانوا يعلمون ان انتخابات الرئاسة على الابواب، وان الفرصة قد سنحت اخيرا، اذا نجحوا في كسب تأييد الشعب، ورشح بيرون نفسه، ونجح واصبح رئيساً لجمهورية الارجنتين في سنة 1946 وحكم بيرون الارجنتين من المقعد الذي ظلم يحلم به طوال ايام حياته، ولم يكن الرجل يجلس عليه وحده، فقد كانت تشاركه فيه ايفا زوجته الممثلة الشقراء الجميلة التي اوصلته بدموعها الى القمة ومضت ست سنوات حكم فيها بيرون وايفا الارجنتين، كما حكم الملك فرديناند وزوجته الملكة اليزابيلا اسبانيا، ثم ماتت ايفا منذ اربع سنوات.
ماتت ايفا بالسرطان بعد مرض طويل.. وفي هذا اليوم مات شيء كبير في قلب الارجنتين، وهوى النجم الذي كانت تشي اليه ايفا باصبعها من نافذة غرفة نومها وتقول لبيرون وهي تستند برأسها الصغير في صدره:"هذا نجمع، لقد رأيت فيه صورتك وامنت به، ونجحت في ان ابقيه لك هناك ومكانه البعيد من السماء".
منير نصيف

آخــر ســاعة/ 1971