فقيد الأدب الشيخ عبد المحسن الكاظمي

فقيد الأدب الشيخ عبد المحسن الكاظمي

عبد الحسين الازري
الشعر فن كسائر الفنون خصه الله بفئة من الناس في كل عصر وفي كل جيل فكان لهذا الفن العلوي تأثير عميق على النفوس والعواطف اليه تلجأ في ايام احزانها ومسراتها، ومنه نستشف صورتها ونستكشف احلامها وآمالها، وبه نلمس تصوراتها، وهذه الموهبة الخاصة سواء ظنها المتقدمون صادرة من شيطان او المتأخرون عن وحي والهام هو الذي انزل تلك الفئة من المجتمع منزلة القادة في آدابه واخلاقه وسيرته في الحياة.


هذا المعنى ايها السادة دعاني الى ان اقف في هذا المحفل الحاشد والقي كلمة موجزة عن الفقيد الشيخ عبد المحسن الكاظمي الذي هو احد قادة الادب العربي حقا واحد الرجال النوابغ الذين احيوا دولته، ورفعوا لواءه، في هذا العصر، كان دليلي الى المعرفة بالكاظمي والالمام بادبه الجم قصيدة وقعت بيدي من شعره في العراق فحببت لي ان اتتبع اثاره واستطلع حياته الادبية في الكاظمية وكنت في ذلك الوقت حدث السن مولعا بالرقيق من الشعر، وبالطبع كان الشعر العراقي من وجهة عامة منحصرا في ناحية واحدة ضيقة من نواحي الحياة وهو الغزل والنسيب والمدح والرثاء المعبر عنه اليوم بشعر الصناعة والتقليد كما هو شأن الشعراء المعروفين من طبقة الكاظمي وقتئذ.
كانت موهبة الشاعر وبلاغته تظهر باسلوب نظمه وبهذا كان يعرف التفاضل بين شاعر وشاعر، وحجتهم: ان البلاغة ليست في المعنى ولا اللفظ، ولكن في الاسلوب المتدفق حلاوة وسلامة، فكان يضيف الى معنى البيت معنى ىخر لا تدل عليه الالفاظ بل تدل عليه هزة الطرب التي يحدثها هو في النفوس الحساسة، ومن اجل هذا لاحظنا الذين يستعيدون البيت والبيتين من قصيدة تتلى انما يستعيدونه لا من جهة المعنى فقط بل من جهة الاسلوب الذي بدونه يصبح الشعر كالماء الفاتر تعافه النفس ويمجه الذوق، وهذه الموهبة نفسها كانت متجلية بشعر الكاظمي فقد وجدنا ينتقي من الكلمات المترادفة والمخزونة في ذهنه اخفها على الروح، وارقها على الطبع والفها للسمع وانسبها للموضوع حسب ما يختاره ذوقه ومرتضيه خفة روحه وذلك بغير تكلف ولا كبر ولا عناء شأن الماهر في صنعته المتسلط عليها او كالطبيب العارف بمعقاقير الادوية يركب منها ما يوافق العلاج، ومن هذه الوجهة كان يوصف شعره بالسهل الممتنع من حيث لا تجد كلمة غير متناسبة مع اخواتها في كل بيت من قصيدته، وبهذا الاسلوب اشتهر في المحافل الادبية بالعراق واخذ الناس يتداولون شعره ويتناشدونه.
نشأ الكاظمي شاعراً بطبعه بل بكله ولم ينجع به ترغيب الفضلاء بان يترك الادب ويكلف على دراسة العلوم الدينية بعد ما درس منها شطرا وذلك لما رأوا من شدة ذكائه المفرط وقوة حافظته الغريبة واستعداده الفطري المدهش فقد كان يحفظ القصيدة مهما كان عدد ابياتها اذا تلاها مرة واحدة ولكن طبعه الرقيق تغلب عليه فهجر الدرس وسلك سبيل الادب مع علمه بكساد هذه البضاعة..
ولم يزل الناس حتى اليوم يتحدثون عن مساجلاته الادبية مع حلقة الشعراء الممتازين في عصره، وما زالت عالقة في ذاكرتهم احاديثه الطربة التي تشتمل على ظرف وكياسة وحذق يتخللها شواهد مستملحة تجعل جليسه مسحورا بها يود ان لا تنقطع ولو ضاق الوقت، وفي تلك المساجلات تجلت عبقريته في الشعر التي اظنه قد اختص بها دون غيره وهو الارتجال.
والارتجال ايها السادة برهان قاطع على عظم ما يحمله الشاعر في حافظته من مفردات اللغة، كما هو دليل على مقياس نبوغه ومعيار تضلعه في الادب، ولولا ذلك لصعب على الكاظمي استحضار القوافي لقصائده الارتجالية التي ربما بلغت الماية بيت او اكثر، حتى يخلل السامع انه ينشد لاينشيء، وهذه الصفة قل من ظفر بها من الشعراء الممتازين مع مراعاة انسجام وحسن سبك وجزالة لفظ ووضوح معنى وبداعة اسلوب.
والذي يقرأ قصائده الاخيرة يراها صادرة من ينبوع صاف مقطر لا ينقطع فكانما نظمه متوقف على ارادته فاذا شاء مشى النظم كما يمشي الماء في الجداول، واذا انصرفت ارادته عنه وقف وانقطع واظنه لو لم يعثره السأم لربما بلغت قصائده المئات من الابيات، ولظل يمشي بها الى ان تنفد آخر كلمة من معاجم اللغة تصلح للتقفيه، وما كنت اصدق الخبر القائل بان المتنبي كان يجيب سائله عن كل شاردة وواردة فياللغة حتى رأينا الكاظمي في هذا العصر. ويظهر لي ان اضراب هؤلاء من اللغة بمنزلة الفنيين الاختصاصيين في المعادن فكما ان اولئك لهم قدرة التمييز الدقيق بين معدن ومعدن لجميع خصائصه كذلك لهؤلاء مثل هذه القدرة بين كلمة واخرى من الكلمات اللغوية ان كانت من جهة الفصاحة والدلالة.
اتصل الفقيد الكاظمي بالشاعر الشهير السيد ابراهيم الطباطبائي قدر سنتين فاخذ عنه ولذلك تجد في شعره روحا من اسلوب الطباطبائي في سرعة البديهة والذهاب بالشعر مذهب الاولين. واكب على ديوان السيد الرضي، وديوان المهيار فحفظ منهما ما استطاع ومشى على طريقتهما فاحسن الاقتداء بهما وحاكاهما بذلك فقارب، واقتداؤه هذا كان في شعره العراقي اوضح واجلى، ولكن بعد هجرته الى مصر عام 1315 من التاريخ الهجري راينا شعره قد انقسم الى شطرين هما واحد اذا راعينا ما فيهما من جودة اللفظ وحسن الديباجة ، واثنان اذا لاحظنا اختلافهما بالاتجاه ومحاولة الخروج عن تلك الناحية الضيقة.
اما الشطر الاول من شعره فقد ذهب مع الاسف ولم يبق منه الا قدر ما يترك فصل الربيع بعد ذاهبه من الزهر في زوايا الوديان وظلالها، واما الشطر الثاني وهو المعول عليه اليوم فقد بلغني عن احد الفضلاء انه يؤلف ديوانا وسطا سمح الفقيد بنشر اليسير منه وحرص على الباقي حرص البستاني على ازهاره وقد زفت لنا احدى الصحف العراقية احسن بشارة وهي ان حكومتنا قررت طبع ديوانه تخليدا لذكراه وذلك بواسطة لجنة في مصر اخذت على عاتقها تبويبه وتقديمه الى الطبع وهذا لا شك عمل مقدر مبرور يشكرها العراقيون عليه كل الشكر.
اظنني مصيبا اذا قلت ان الكاظمي لو لم تعاكسه المقادير من بدء حياته الى نهايتها لكانت اثاره اضعاف ما تركه لنا اليوم ولخلف من بعده انفس وارفع ما جادت به قريحة شاعر عربي على ان هذا المقدار كاف لمن يريد ان يعرف روح الشاعر وعلو منزلته في الادب.
ترك الكاظمي العراق وليس معه ذخيرة سوى ادبه، وانما اضطره الى الرحيل عاملان في ذلك الوقت استبداد الوازع وسوء الطالع وتنقل في رحلته هذه الى ان حل مصر ورأى ما لمصر من رحابة صدر وحسن وفادة وما في مصر من فاتحة عصر جديد وما للنيل كالرافدين من روعة وجمال ما يستوطنها، ومرت فترة من الزمن حجبت عنا ادب الكاظمي الى ان تغير الوضع فعرفناه داعيا للاصلاح في شعره، ثم اعلنت الحرب فشاهدناه رسولا الى الوطنية ومدافعا عن القضية العربية الكبرى واعقبتها ثورة مصر فعرفناه وفديا بمبدئه ومن دعاة الوفد والمخلصين لزعيمه، ورأينا الزمن كل هذه المدة لم يهادن في حربه ومن جراء هذه الحرب الضروس انتابته الامراض وانهكته العلل فاشتغل بالامة عن ادبه وانصرف الى معالجة دائه وشفائه عما كانت تحاول نفسه من وراء هجرته وحسبنا شاهدا على ما ذكرناه مقدمة الفاضل الزركلي على معلقات الكاظمي المطبوعة في مصر فقد قال ما خلاصته:
لقد كان الكاظمي في طليعة من ادركوا عظم سعد في مصر، واعتقد فيه ما اتفق الناس عليه اليوم قبل ان تلوح لهم آثاره، وما كان ذلك بالتنبؤ منه، بل انه ادرك فيلسوف الشرق جمال الدين الافغاني، فاحبه وانتقل ذلك الحب من بعده الى تلميذه الشيخ محمد عبده ثم الى ربيبه سعد زغلول قبل ان تنفق الناس على زعامته، ومن هذا ادرك الناس سر معصية الكاظمي طبيبه كل يوم وهو يتقلب على سرير المرض والطبيب يحذره من ان يفكر او ينظم وكان يطيع طبيبه الى حد لا يحول دون تفكيره في سعد وارتجاله القصائد في سياسته.
وقد عاش الفقيد ابيا عزيز النفس مع قلة الناصر وفقدان المساعد على نوائب دهره بدلنا على ذلك الاباء قوله في قصيدته التي نظمها في اواخر ايامه:
وابائي يرى من الضيم ان يحمل
في الدهر منة للغمام
وهذا المعنى وان كان مأخوذا من بيت الشريف الرضي:
ولولاك ما استسقيت في الدهر مزنة
فاحمل يوما منة للغمام
الا ان الشريف الرضي وهو السيد الهاشمي الابي قد حمل هذه المنة في سبيل من يهوى واما الكاظمي فلميرض بحملها مهما اختلفت السبل والكاظمي لم يجبر بالشكوى لاحد ولا يرضى ان يكون يوما ما موضع عطف الناس بل عاش محتفظا بعزته واثقا من نفسه معتمدا بكرامته صابرا على محنته وهو القائل:
ما شكت لي الضنا عظامي لكن
قام يشكو الضنا من عظامي
ولهذا استغربت مما نسبه اليه الشيخ عبد القادر المغربي من ان الكاظمي بسبب ما كابده من الضيق عمد الى تربية الدجاج ليحصل من وراء ذلك على بلغة من العيش فاخفق، واني اعتقد ان الفقيد كان ولم يزل الى ان توفاه الله يترفع عن امثال هذه المهن الحقيرة ولو مات جوعا، وان الذي لم تطاوعه نفسه على السكنى في المنازل التي لا تليق بشأنه مع خلو ذات يده ولا يسكن الا باحسن عمارة في مصر الجديدة حيث تسكن الطبقة الراقية من المصريين ، لا يتنازل لتربية الدجاج ..
وبالاجمال كان الكاظمي امير البيان حقا ومفخرة من مفاخرالادب العربي وكفاه شاهدا على علو كعبه في الادب هو ان امثال فخري البارودي وحافظ ابراهيم وغيرهما من الشعراء والكتاب والادباء في مصر كانوا يرجعون اليه وياخذون عنه، ويعرضون عليه ما تجود به قرائحهم واقلامهم ليبدي رأيه فيما اذا كان هنالك ما يستوجب النقد كأنه النابغة الذيباني في سوق عكاظ، وكان اذا دخل محفلا من المحافل المصرية هابه الحاضرون احتراما لفضله واكبارا لمقامه الرفيع في الادب.
ومما يجب ملاحظته في هذا الموقف ايها السادة هو اننا قد اقمنا اول تأبين لشاعر فحل انجبته البلاد العربية واصبحنا نقدر شعراءنا النوابغ ونشعر بمصاب فقدانهم، واني اشكر اللجنة المحترمة التي رفعت رأسنا عاليا في اقامة هذه الحفلة التأبينية والسلام عليكم.


كلمة في الحفل التأبيني نشرتها ج. البلاد سنة 1935