أزمة القرار الاقتصادي: 1 - استقلالية البنك المركزي

أزمة القرار الاقتصادي: 1 - استقلالية البنك المركزي

د.عامرة البلداوي

منذ فترة ما بعد سقوط النظام السابق ، والعراق يسعى لأمرين هما بناء دولة مؤسسات والفصل بين السلطات، واعتقد ان الفصل بين السلطات لا يختلف كثيراً عن بناء دولة المؤسسات ما يعني ان المؤسسة بكل ما فيها تسعى لتحقيق أهدافها وانجاز مهامها دون ضغط او تداخل

او تنازع سلطات وانه مهما حصل من اختلاف في الوجوه والأنظمة فأن سياسات المؤسسة باقية لتنجز عملها حسب القانون ما يمنح الدولة استقراراً، فضلاً عن احترام القرارات المتخذة كونها نتجت عن مؤسسة معروفة السياسة والأهداف، ولابد من الإشارة الى اننا لم ننجح بعد في تحقيق هذين الأمرين وحسبنا الالتزام بالسعي الذي تعززه الإجراءات والقرارات وتعديلات وتكييفات القوانين لتتماشى وتنسجم مع الحاجة الى مؤسسة الدولة . ومنذ فترة ونحن نحاول تلمس القرارات الاقتصادية في دولة أولوياتها الأمن والسياسة، وسنحاول من خلال سلسلة حلقات التعرض الى تأرجح القرارات الاقتصادية وكيف انها تميل مع الظروف وتتماشى مع الأجواء العامة، واننا لم نبن بعد مؤسسة اقتصادية ذات قرار رصين لا يتأثر بالتغيرات السياسية الجارية في البلد وتتوزع سلطاتها حسب الأهداف المرسومة لها في القانون.
البنك المركزي
على الرغم من ان قرار المحكمة الاتحادية العليا القاضي بارتباط بعض الهيئات المستقلة ذات الطابع التنفيذي بمجلس الوزراء ومنها البنك المركزي الا ان ذلك القرار كان جوابا على سؤال رفعه المجلس الى المحكمة بتفسير مواد دستورية بعينها لم تتضح لمجلس الوزراء.
ومن الواضح ان المادة 103 – أولاً من الدستور (يعد كل من البنك المركزي العراقي وديوان الرقابة المالية وهيئة الإعلام والاتصالات ودواوين الأوقاف هيئات مستقلة مالياً وإدارياً وينظم القانون عمل كل هيئة منها)، وقد أوكلت الأمر الى قوانين تلك الهيئات وإن البنك المركزي يعمل بموجب القانون رقم 56 لسنة 2004 وقد اجري عليه اول تعديل في عام 2007 لم يتعرض التعديل الى استقلاليته التي نص عليها القانون بوضوح في المادة 2-2 بدءاً من (يتمتع المصرف المركزي العراقي بالاستقلال فيما يقوم به من مساعٍ بغية تحقيق أهدافه وتنفيذ مهامه..............) وصولاً الى (ولا يتلقى المصرف المركزي العراقي أية تعليمات من أي شخص او جهة بما في ذلك الجهات الحكومية ...........) وغيرها مما تحتويه هذه المادة من التأكيد على عدم التدخل في قرارات ونشاط البنك فضلا عن التأثير على صانعي القرار فيه.
وعلى الرغم من ان بنود القانون لم تغفل الرقابة وأساليبها المختلفة من تقديم التقارير الدورية والسنوية لوزارة المالية وللسلطة التشريعية والتأكيد على الرقابة الخارجية والمراجعة والتدقيق المالي المستمرة على أنشطة وحسابات البنك من مراجعين داخليين وخارجيين من قبل شركات مستقلة الا ان الدستور بين في المادة 103- ثانياً ان البنك المركزي مسؤول أمام مجلس النواب، وهكذا يصبح واضحاً ان الاستقلالية نص عليها القانون والمساءلة من المجلس.
وربما يسأل سائل لماذا كل هذا التشديد على استقلالية البنك المركزي؟ وهل في مصلحة الدولة أن تستقل اي مؤسسة استقلالا كاملا على هذا النحو؟ وأليس السياسة النقدية التي هي من مسؤولية البنك المركزي هي جزء من السياسة العامة للدولة والتي لابد ان تكون الدولة مسؤولة عنها ونابعة منها؟ إن التأكيد على الاستقلالية عن الحكومة بالذات تأتي من الأهداف التي من اجلها أنشأت تلك البنوك، وعادة ما ترتبط بتاريخ سياسة تلك الدول، فمنها ما أنشأ بهدف تأمين التمويل للدولة مقابل حق إصدار النقد ومنها ما أنشأ لمواجهة الركود وقد كان هدف النظام الأوروبي من البنك المركزي هو تحقيق استقرار الأسعار وضرورة تمكينه من وضع الأهداف النقدية ومن تنفيذ سياساته بشكل مستقل، اما في العراق فقد خاض الدينار العراقي حروبا ودفع الثمن الباهظ بالتضخم لغاية 9/4/2003، بحيث كان كل ثلاثة آلاف دينار عراقي يعادل دولاراً أمريكياً واحد، في حين كان كل دينار عراقي واحد يعادل ثلاثة دولارات قبل فرض الحصار الاقتصادي على العراق نتيجة حرب الخليج الثانية ودخول العراق الى دولة الكويت، لذا فأن الأسباب التي أوردها القانون لإنشاء البنك المركزي هي تلك التي أشارت الى الحقبة الزمنية التي ارتفع فيها التضخم الى مداه وأصبحت العملة العراقية في أدنى مستوياتها وأصبح جزء مهم من مسؤوليات البنك ان لا عودة لمعدلات التضخم المرتفعة والمحافظة على قيمة العملة واستقرارها في الأسواق وللبنك اتخاذ الوسائل الكفيلة بذلك.
وقد حدد القانون طبيعة العلاقة مع الحكومة وأسلوب التكامل مابين السياستين النقدية والمالية من خلال القسم الرابع- المادتين 24 و25 التي تتمثل بالتشاور وتقديم المشورة والقيام بأعمال نيابة عن الحكومة، وقد يبدو ان تلك هي الحلقة المفقودة مابين السياستين في العراق فلا يوجد أي تنسيق بينهما بل تتهم السياسة النقدية بالانكماشية في حين تسعى السياسة المالية للتوسع في الإنفاق لتشغيل أيدي عاملة وللاعمار ولتشجيع الاستثمار الحكومي.
في حين بينت المادة 26 حظر إقراض الحكومة او أي مؤسسة تابعة للحكومة، وهذا ما يثير الجدل بأن على البنوك المركزية ان تساهم في إيجاد الحلول للمشاكل والأزمات الاقتصادية التي تمر بها البلاد مع ان هذا لا يمكن ان يحصل الا على حساب استقلالية البنك وان ما أثير من اشتراك البنك المركزي الأوروبي في إخراج الدول الأوروبية من الأزمة الاقتصادية الخانقة عن طريق شراء سندات تطرحها الحكومات الأوروبية ما أدى الى انتقاد البنك واعتبر انه تعرض لضغوطات من الحكومات والسياسيين، وان البنك المركزي كان عليه ان ينأى بنفسه عن المشاركة في أزمات سببها سوء ادارة السياسيين ولابد لهم ان يجدوا لها الحلول بعيدا عن البنك المركزي، ان هذه الحادثة وغيرها جعلت من الساسة العراقيين يفكرون بأن على البنك المركزي العراقي ان يلعب دوراً مشابهاً في تغطية العجز في الموازنة والمشاركة في إيجاد الحلول لأي أزمة مالية محتملة، ومن هنا نجد ان الحفاظ والتشديد على استقلالية البنك المركزي ومنع ارتباطه بالحكومة كفيل بتخفيف الضغوط ومنع خرق القانون الذي لا يمكن تقدير نسبة احترامه الا في أوقات الأزمات.