الوهم الرومانسي في الأعمال الروائية

الوهم الرومانسي في الأعمال الروائية

قصيّ حسين
يشكل كتاب رينيه جيرار: الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية منهجاً جديداً يضاف الى المناهج الأخرى المتعارف عليها في قراءة الأعمال الروائية، خصوصاً لدى الروائيين العالميين الكبار الذين يعالجون مآزق الانسان الكبرى في الحياة والوجود؛ واقعياً وعلى مستوى الفكر والفلسفة والتاريخ الديني والسياسي والاجتماعي.

ويبدو أن جيرار يعتمد في منهجة الجديد هذا، على نظرية استطاع أن يستخلصها من أعمال عدد من الروائيين الكبار أمثال سرفانتس وستاندال وفلوبير ودستويفسكي وبرومست، وربما استعان أيضاً بأعمال بعض المسرحيين الأوائل مثل راسين وكورناي وشكسبير، من أجل الوصول الى صياغة دقائقها وسبر عناصرها الناظمة لها. إذ يعتبر هذا الكتاب الهام لجيرار والذي سطره مؤلفه بدقة نادرة، مساهماً بشكل أو بآخر، في توضيح واحدة من أكبر المسائل المتعلقة بالوعي البشري وأعقدها، وهي مسألة حرية الاختيار.
ويتوزع الكتاب على اثني عشر فصلاً، عرض المؤلف خلالها نظريته المتعلقة بـ"الرغبة المحاكية ـ Desir Mimetique، أي بالرغبة بوصفها محاكاة، ضارباً عرض الحائط بالنظرية الأوديبية الفرويدية. إذ يرى جيرار خلل بحثه هذا، أن رغبتنا ليست مستقلة ولا نحن نختارها، ولا هي تنبع من ذواتنا، بل تثيرها في أنفسنا رغبة شخص آخر، هو النموذج أو الوسيط، كما يسميه جيرار، في الغرض نفسه. يريد بذلك أن العلاقة بين الشخص الراغب والغرض المرغوب، ليست علاقة مباشرة، بل هي تمر عبر الوسيط. وبالتالي فنحن نجد أن الرغبة تأخذ شكل مثلث، هو مثلث الرغبة، الذي يضم الأطراف الثلاثة: الشخص الراغب والوسيط والغرض المرغوب.

إن تسليط بعض الأضواء على حياة رينيه جرار، قد تساهم في الكشف عن بعض المنطلقات الفكرية والفلسفية، التي يمكن لها أن تلعب دوراً هاماً في بلورة نظرية جيرار وشرح منهجه النقدي الجديد الذي جاء به. فقد ولد في مدينة آفينيون بفرنسا العام 1923 لأب جمهوري وعلماني، وأم كاثوليكية متدينة. وتخصص في التاريخ القروسطوي في إحدى المدارس العليا بباريس بين 1943 ـ 1947، وسافر بعدها الى أميركا عام 1947 للدراسة، فنال درجة الدكتوراه عام 1950 من جامعة انديانا، حيث لم يلبث أن درس فيها الأدب، ثم انتقل بعدها الى جامعة جونز هوبكنز عام 1957. ولقد نظم عام 1966 ندوة دولية حول"لغات النقد وعلوم الانسان"، كان من بين المشاركين فيها كل من رولان بارت وجاك دريدا وجاك لاكان، حيث تعرف العلماء الأميركيون من خلالها على"علم البنيوية".

وفي العام 1968، انتقل جيرار للتدريس في جامعة بوفالو حتى العام 1972 ثم عاد الى جامعة جونز هوبكنز، ليغادرها عام 1980، منتقلاً الى جامعة ستانفورد، حيث بقي فيها حتى بعد تقاعده عام 1995، يعمل على رأس برنامج متعدد الاختصاصات للبحث العلمي. وفي العام 2005 انضم الى الأكاديمية الفرنسية وأصبح عضواً بارزاً فيها.

نستنتج من خلال سيرة رينيه جيرار ومسيرته الثقافية والأدبية والعلمية، كما من خلال كتابه:"الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية"ان الرجل كان شغوفاً بالأدب، عميق النظرة في النصوص الأدبية التي تناولها، مجدداً في تأويلها، بما يدعم نظريته المنهجية في الرغبة المحاكية. كذلك فإن مؤلفه هذا، كما سائر مؤلفاته، إنما تدل على عمق البنيان الثقافي الذي تقوم عليه، وعلى تنوع المصادر الفلسفية والمشارب الفكرية وأنواع السجالات الثقافية الأخرى والتي بدت معالمها واضحة للباحثين، من خلال الحوارات التي أقامها المؤلف مع هذه المرجعيات والموقف الذي اتخذه منها والنقد الذي وجهه إليها. فأعمال جيرار، كما يقول المترجم في تصديره للكتاب، جزء من صرح فكري وثقافي يمتد من الفكر اليوناني القديم، مروراً بسان أغسطين ومفكري عصر التنوير، وانتهاء بهيغل ونيتشه وماركس وفرويد ودروكهايم وفلاسفة الوجودية وغيرهم، وهي تمنح من مكتبة غنية بالأبحاث الأنتروبولجية والانتولوجية (ص 19).

يؤسس الفصل الأول من الكتاب وهو بعنوان:"مثلث الرغبة"، للنظرية النقدية التي يطرحها جيرار، لا كبديل عن سائر النظريات النقدية لقراءة الأعمال الروائية، وإنما كمتمم لها. إذ يستنتج الناقد الروائي ان البطل في الرواية، حين يرغب في أي شيء إنما يحتاج الى وسيط يضيء الشخص الراغب (Sujet) والغرض المرغوب (Objet) في آن معاً. أما الاستعارة المكانية (Metaphore Spatiale) التي تعبر عن هذه العلاقة الثلاثية، فهي التي تشكل المثلث بطبيعة الحال والذي قال عنه جيرار انه مثلث الرغبة. (ص 22).
ويستند جيرار في بناء نظريته هذه، الى نظرية المحاكاة اليونانية لأفلاطون والتي توسع أرسطو بها وأضاف إليها بعداً سلوكياً فأصبحت تعرف بالمحاكاة التخييلية إذ يطالعنا بقوله في بداية هذا الفصل، أنه"إذا ما أراد رسام اكتساب الشهرة بفنه، فهو يسعى الى محاكاة الأعمال الأصلية لأبرع المعلمين الذين يعرفهم"(ص 21).

ويقول ان هذه القاعدة إنما تنطبق على معظم المهن أو الأعمال الهامة التي تتزين بها الأمم. وفي مكان آخر يقول جيرار:"هذا ما عليه أن يفعله حقاً من يريد التحلي بالحذر والصبر، محاكياً"عوليس""الذي جسد هوميروس في شخصه وفي أعماله صورة حية للحذر والصبر، كما جسد فرجيل في شخصه إينياس Emee""قيمة الابن البار وفطنة القائد الباسل والحاذق". إذاً صار"أماديس"مثالاً للفرسان الشجعان والعاشقين ونجمهم وشمسهم، وعلينا محاكاته، إذا كنا نريد تجنيد أنفسنا للحب والفروسية.
وبنظر جيرار أن دون كيشوت تخلى ولصالح أماديس، عن الامتياز الأساسي للفرد، لأنه لم يعد يختار موضوعات رغبته، بل أماديس هو من يختارها بالنيابة عنه. فالمريد (Deseiple) يندفع نحو الموضوعات التي يدله عليها وسيط نموذج الفروسية، وهو ما يسميه جيرار نفسه بوسيط الرغبة. وحياة الفروسية برأي جيرار هي إذن (محاكاة ـ Emitation) لأماديس، وذلك على قاعدة أن حياة المسيحي هي محاكاة للسيد المسيح.
والواقع ان"جيل دي غوليتيه ـ Jules de Gaultier"قد لاحظ أيضاً ان أبطال فلوبير يتخذون لأنفسهم، لبلوغ غايتهم المثقلة في اعتبار أنفسهم غير ما هي عليه،"نموذجاً". ويقومون بتقليد كل ما يمكن تقليده في الشخصية التي صمموا أن يكونوا. أي كل المظهر الخارجي، وكل الهيئة والحركات ونبرة الصوت والثياب". وربما لهذا يقول رينيه جيرار إن الرغبة بحسب الآخر والوظيفة"التعشيرية ـ Seminale"للأدب، نجدها في روايات فلوبير أيضاً. إذ تشعر"إيمابوفاري"بالرغبة من خلال بطلات الروايات الرومنسية التي تملأ خيالها. فلقد دمرت الأعمال الرديئة التي قرأتها بنهم في فترة المراهقة: كل"عفوية ـ Spontaneite"عندها. ولهذا ترى جيرار يؤكد ما ذهب إليه"جول غولتييه"في تعريفه النزعة"اليوفارية ـ Bovaryse"التي وقع عليها عند جميع شخصيات فلوبير تقريباً، وذلك حين يقول:"يبدو ان الجهل نفسه والضعف نفسه وغياب رد الفعل الفردي نفسه، قد هيأت هذه الشخصيات للخضوع الى إيحاء الوسط الخارجي نظراً لغياب إيحاء ذاتي مصدره الداخل".

وفي بداية رواية"الأحمر والأسود"، يرى جيرار أن المسافة بين البطل ووسيطه، ليست أقل من مثيلتها في رواية مدام بوفاري. غير ان جوليان يعبر هذه المسافة، فيغادر ريفه ويصبح عشيق"ماتيلد"الأبية، ويرتقي سريعاً الى مكانة مرموقة. ويضيف رينيه جيرار قائلاً: ونحن نقع على هذا التجاور مع الوسيط عند بقية أبطال هذا الروائي، وهي التي تميز بشكل أساسي العالم الستاندالي عن العوالم التي ذكرناها آنفاً. فالمسافة قصيرة دائماً بين جوليان وماتيلد، وبين رينال وفالنو، وبين لوسيان لوين ونبلاء مدينة نانسي. وبين سانفان ونبلاء النورماندي الريفيين، مما يتيح تنافس الرغبات". (ص 29).
وبرأي رينيه جيرار أن جميع الأعمال الروائية، إنما تجتمع في فئتين أساسيتين، يتضاعف داخلهما عدد السمات المميزة الثانوية الى أقصى حد. إذ يمكننا الحديث عن"وساطة خارجية ـ Mediation Exterme"حين تكون المسافة كافية بحيث لا تتداخل دائرتا الاحتمالات اللتان يحتل الوسيط مركز إحداهما والشخص الراغب مركز الأخرى. كما نتحدث عن"وساطة داخلية ـ Mediation Interme"، حين تتقلص تلك المسافة، فتتداخل الدائرتان إحداهما في الأخرى بعمق الى حد ما. كذلك لا يقاس البعد بين الوسيط والشخص الراغب بالمسافة المادية، لأن المسافة بينهما هي روحية. فدون كيشوت وسانشو قريبان مادياً، غير أن المسافة الاجتماعية والفكرية بينهما يتعذر تجاوزها.
وإذا كان بطل الوساطة الخارجية يعلن الطبيعة الحقيقية لرغبته، كما يتماهى بنموذجه ويقرأه من مريديه، كحال دون كيشوت وهو يشرح بنفسه لسانشو الدور المميز لأماديس في حياته، فإن بطل الوساطة الداخلية لا يفخر بمشروع المحاكاة، بل يعمل على اخفائه بعناية. ويعتقد الشخص الراغب ان نموذجه ينظر الى نفسه على أنه أسمى من أن يقبل به مريداً. وبالتالي يشعر الشخص الراغب تجاه هذا النموذج بعواطف متنازعة، هي وليدة اتخاد ضدين هما التبجيل مع أعلى درجات الخضوع والحقد. وهو الشعور الذي يعرف بالكراهية.

إن ماكس شيلر، يدرج في"قائمة الحقد"، الحسد والغيرة والمنافسة. وهي مشاعر قوية عند أبطال الروايات. والحسد في رأيه هو"الاحساس بالعجز الذي يواجه الجهد الذي نبذله لنيل غرض ما كونه لشخص آخر". ويلاحظ ماكس شيلر أن الحسد لا يتحقق بالمعنى القوي للكلمة، مالم تحول مخيلة الحاسد المانع السلبي لمالك الغرض الى معارضة مدبرة، وذلك بحكم ملكيته له. ومن هنا فإن الوسيط كما يقول جيرار ينقل الى الشخص الراغب سحره وهيبته بحيازته أو بالرغبة في حيازته. أما بقية الأشياء فتبقى عديمة الأهمية في نظر الحسود، حتى وإن كانت مشابهة أو مطابقة لهذا الغرض"موضوع الوساطة".
ولعل الروائيين وحدهم، كما يقول"رينيه جيرار"هم الذين يكشفون عن الطبيعة المحاكية للرغبة. غير أنه يصعب علينا ملاحظة هذه الطبيعة، لأن المحاكاة الأكثر حماسة، تقابل بأشد حالات الانكار. فدون كيشوت يعلن نفسه من مريدي أماديس، تماماً كما كان كتاب عصره يعلنون أنفسهم أنهم من مريدي القدماء. أما الرومانسي المغرور كما يسميه جيرار، فلا يريد أن يكون من مريدي أحد، وهو يظن نفسه أصيلاً الى أبعد حد، لأن العفوية سرعان ما غدت عقيدة في القرن التاسع، وأطاحت المحاكاة. ويقول جيرار ان الاحساس الرومانسي بالقرف والكراهية للمجتمع والحنين الى الطبيعة المجردة، كما ذهنية القطيع، تغطي في أغلب الأحيان شاغلاً مرضياً يتعلق بالآخر.
إن الرومانسي المغرور، يريد اقناع نفسه دائماً، بأن رغبته هي من طبيعة الأشياء. أو هي تصدر عن ذاتية هادئة وابتداع من عدم لـ"أنا"شبه إلهية. إذ الرغبة انطلاقاً من الغرض، تعادل الرغبة انطلاقاً من الذات. والأمر لا يتعلق إطلاقاً بالرغبة انطلاقاً من الآخر. وهكذا ينضم الموضوعي الى الذاتي، وتتجذر هذه الازدواجية في الصورة التي نرسمها جميعاً لرغباتنا الخاصة. فتتعارض ظاهرياً، النزعات الذاتية والموضوعية والرومانسية والواقعية و"الفردانية ـ Individualisme"و"العلموية ـ Seintisme"و"المثالية ـ Idealisme"و"الوضعية ـ Positivisme"، لكنها تتفق في السر، على إخفاء وجود الوسيط.

وفي رأي جيرار ان هذه العقائد جميعاً، ما هي إلا ترجمة جمالية أو فلسفية لرؤى للعالم خاصة بالوساطة الداخلية. وهي تتصل كلها بصورة مباشرة الى حد ما بتلك الكذبة المتمثلة في الرغبة العفوية، كما تدافع جميعها عن وهم الاستقلالية التي يتمسك بها الإنسان الحديث بقوة". (ص 37)

في كتابه:"في الحب ـ De lصamour"، يلاحظ ستاندال أن هناك ترصيعاً في الكراهية. وما هي إلا خطوة حتى يندمج الترصيعان. فبروست يظهر لنا باستمرار الكراهية في الرغبة والرغبة في الكراهية، غير أنه يبقى وفياً للغة التقليدية، فلا يُلغي إطلاقاً أدوات التشبيه وأساليبه لكنه لن يبلغ أبداً المرحلة القصوى للوساطة الداخلية، وهي مرحلة كانت مقصورة على روائي آخر هو الروسي دستويفسكي، والذي يسبق بروست زمنياً، لكنه يأتي بعده في مثلث الرغبة كما يقول جيرار.

يضع دستويفسكي، بحدسه العبقري، الوسيط في مقدمة المسرح، ويدفع الغرض المرغوب الى خلفيته، فيعكس التأليف الروائي أخيراً الهرمية الحقيقية للرغبة. إذ كلما اقترب الوسيط كبر دوره وصغر دور الغرض المرغوب. وإذا كان كل شيء ينتظم عند ستاندال وبروست حول البطل الرئيسي أو حول أخماثوفا زوجة الجنرال في"المراهق"لدى دستويفسكي، فإن هذا الأخير يضع في مركز عمله الوسيط فرسيلوف.

إن تزامن وجود الوساطة الخارجية والوساطة الداخلية ضمن العمل الواحد يؤكد كما يرى جيرار، وحدة الأدب الروائي، كما تؤكد وحدة هذا الأدب بالمقابل، وحدة رواية دون كيشوت. فرينيه جيرار يبرهن على شيء بآخر، تماماً كما نبرهن على أن الأرض كروية بالدوران حولها. فهو يؤكد أن القوة الأبداعية عند سرفانتس ابي الرواية الحديثة، عظيمة لدرجة أنها تؤثر دون جهد يذكر في مجمل الفضاء الروائي. إذ لا توجد فكرة في الرواية الغربية كما يقول، إلا وتجد بذورها عند سرفانتس. أما أم هذه الأفكار برأي"جيرار"أي الفكرة التي يتأكد دورها المركزي كل لحظة والتي ترجع إليها كل الأفكار الأخرى، فهي مثلث الرغبة. وستكون بمثابة أساس نظرية الرواية الروائية بنظر جيرار نفسه. (ص 78)
حقيقة، إن فهماً معاكساً بصورة جذرية لرسالة أعمال دستويفسكي هو الذي يتيح لنا إلحاقه بما أسماه جيرار"أكاذيبنا الذاتية"، وتجديد مفارقة النقد الرومنسي، حين ألحق رواية دون كيشوت ورواية الأحمر والأسود، ويجب بالتالي ألا يدهشنا الشبه بين حالات سوء الفهم هذه كلها. فالحاجة نفسها هي التي تولد كل مرة الخلط نفسه بين العمل الروائي والعمل الرومانسي.

ويقول جيرار إن الرغبة الميتافيزيقية نفسها، هي التي توحي بالتأويلات الخاطئة للروائيين جميعاً. وهذا ما يجعلنا نستنتج، مرة أخرى، مدى مهارة الداء الأنطولوجي في تحويل العقبات الى وسائل، والخصوم الى حلفاء.

إن الأوهام التي يندد بها دستويفسكي هي، في أيامنا هذه، كما يقول جيرار، أقوى بشكل لا يضاهى من تلك التي يندد بها سرفانتس وستاندال وفلوبير، وحتى مارسيل بروست. وهي تجد لها أنسب تعبير في الآداب، وبالتالي فإن الكشف عن حقيقة الروائي، يعني الكشف عن كذب أدبنا حسب قول جيرار، والعكس صحيح أيضاً.
فالرومانسية المعاصرة، بحسب جيرار، وبالرغم من سحرها، تبدو أكثر تجريداً ووهماً من الرومانسيات السابقة، التي تتغنى بقوة الرغبة. ولم يعد يستطيع الرومانسي إنكار الدور الذي تؤديه المحاكاة في تكوّن الرغبة. غير أن هذا الدور يبقى مرتبطاً في ذهنه يضعف الرغبة الأصلية. إذ تفهم الرغبات المنسوخة، على أنها نقل مشوّه، إذ الرغبات المنسوخة تكون دائماً باهتة بالمقارنة مع الرغبات الأصلية.

أن رينية جيرار يشدّد على أن هذه الرغبات ليست رغباتنا على الاطلاق، فرغباتنا تبدو لنا دوماً أشد الرغبات جميعاً. ويظن الرومانسي أنه يحافظ على أصالة رغبته، إذ يطالب بأعنف رغبة لنفسه. وإذ سعى الرومانسي الأول الى إثبات عفويته أي ألوهيته، عن طريق الرغبة بشدة تفوق رغبة الآخرين، فإن الرومانسي الثاني سعى الى الشيء نفسه لكن بوسائل معاكسة.