«الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية لرينيه جيرار... مثلث الرغبة

«الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية لرينيه جيرار... مثلث الرغبة

هيثم حسين
يعرض المفكّر الفرنسيّ رينيه جيرار في كتابه «الكذبة الرومانسيّة والحقيقة الروائيّة»، «ترجمة: د. رضوان ظاظا، المنظّمة العربيّة للترجمة»، نظريّته المتعلّقة بالرغبة المحاكية، أي بالرغبة كمحاكاة، مُعارِضاً النظرة الأوديبيّة الفرويديّة، حيث ينظر إلى الرغبة كتابعة لرغبة أخرى متأتّية من آخر، لا نابعة من ذواتنا، حيث تستلزم وجود وسيط،

أي لا تتحقّق أركانها إلاّ بتكامل الشروط الثلاثة، راغب ووسيط ومرغوب فيه، تغدو الرغبة بحدّ ذاتها غاية ووسيلة، تنشأ بالتأثّر، وتتلاشى بانتفاء شروطها، تأخذ بذلك شكل مثلّث، يسمّيه جيرار «مثلّث الرغبة»، ولا تكون العلاقة بين الراغب والمرغوب علاقة مباشرة، بل تكون عبر الوسيط، أو النموذج: داخليّ أو خارجيّ. ويؤكّد جيرار أنّ الأغراض التي يمكن أن تكون موضوع رغبة هي تلك التي تقبل المشاركة وتولّد بين البشر مشاعر التعاطف، بالموازاة مع تلك التي لا تقبل المشاركة، وتكون مجالاً للمنافسة المحمومة، بالتالي تولّد الكره والبغض والحسد والغيرة، ثمّ تنتج العنف الناشئ عنها... ولا تكون الرغبات مادّيّة فقط، بل تكون هنالك رغبات ميتافيزيقيّة، كأن يكون حلماً بكمالٍ منشودٍ، وتوقاً إلى العظمة.
ورينيه جيرار باحث أكاديميّ، ناقد، فيلسوف فرنسيّ، ولد في مدينة آفينيون في 1923، تخصّص في التاريخ القروسطيّ، سافر إلى أميركا في 1947، حصل على الدكتوراه في جامعة إنديانا ودرّس فيها. لديه الكثير من المؤلّفات. درّس في كبريات الجامعات العالميّة، وفي عام 2005 صار عضواً في الأكاديميّة الفرنسيّة.
يقسّم الكتاب إلى أحد عشر فصلاً، إضافة إلى مقدّمة المترجم الدكتور رضوان ظاظا، والخاتمة. تتسلسل الفصول وتتكامل في دائرة تكتمل لتوصل رسائل جيرار حول نظريّته، والفصول على التوالي: مثلّث الرغبة، سيؤلّه البشر بعضهم البعض، تحوّلات الرغبة، السيّد والعبد، الأحمر والأسود، مسائل تقنيّة عند ستاندل وسرفانتس وفلوبير، زهد البطل، المازوشيّة والساديّة، العوالم البروستيّة، مسائل تقنيّة عند بروست ودستويفسكي، نهاية العالم بحسب دستويفسكي.
ينطلق جيرار من التجريد إلى التطبيق، يعتمد في تطبيقه الإجرائيّ، وتحليله الفنّيّ والأدبيّ والفكريّ والفلسفيّ المعمّق، على أعمال كبار الروائيّين كسرفانتس وستاندل ودستويفسكي وبروست، حيث يرى أنّ هؤلاء الروائيّين المميّزين تمكّنوا من كشف حقيقة الرغبة والوسيط، كما أظهروا الوهم الرومانسيّ الذي يغلّف الرغبة ويتعلّق باستقلاليّتها وأصالتها، ليبلغوا عبرها الحقيقة الروائيّة الكبرى. يظهر جيرار من خلال تفكيكه وإعادة اكتشافه العلائق بين الحقائق التي تثبتها الروايات التي تطرّق إليها، والأوهام التي كانت قد انطلقت منها، منقّباً عن الدرر التي تنطوي عليها الإبداعات المتجاوزة، يقف مطوّلاً عند قدرة الروائيّ المبدع على التحليق في عوالم فريدة، لا تقلّ روعتها الفنّيّة، وحقيقتها المثبتة عن الكذبة الرومانسيّة الكبرى التي توهِم بها...
يستعرض جيرار في تحليله أهمّ الحيل والمناورات التي تعتمدها الشخصيّات الروائيّة، والتي تندرج في إطار الفنّيّات أو التقنيّات المستخدمة من الروائيّ، أو هي من الخدع الروائيّة التي ترتكز عبرها الحقيقة الناشئة عن وهم أو حلم أو توق... يشرح جيرار كيف أنّ الرغبة المحاكية، تغدو سبيلاً للمنافسة، ثمّ تتحوّل في شكلها التصاعديّ، بحيث لا تقف عند صورة نهائيّة ثابتة، بل يكون التحوّل سمتها الرئيسة، لتخلق مجالاً رحباً للتنافس، بالتالي يكون الصراع من أجل الحيازة والفوز، ويكون العنف في الانتظار دوماً... قد تكون هناك حالات إعلاء للرغبة، أو تعالٍ عليها، لكنّ الرغبة تكون أقوى من كلّ تحدٍّ، لأنّها في تفجّرها، لا تقف عند حدود بعينها، تبحث عن وسائل إرواء وإشباع، إن كان في واقع الرواية، أو في الواقع الحقيقيّ الذي يكون المنبع والمصدر. يحلّل التحذلق بوصفه آليّة دفاعيّة وهجوميّة في آن، يأخذ على معظم النقّاد عدم اكتراثهم ب «القوانين النفسيّة»، ينسبونها إلى نظريّات نفسيّة قديمة، ما يظنّون أنّ جوهر العبقريّة الروائيّة كامن في الحرّيّة، بعيد من تلك القوانين. ثمّ يتنبّأ لنهاية الخيال الذي يستمدّ قوّته من الأنا وحده، لأنّ الواقع الساحر الخدّاع حين يلامس البناء الهشّ للحلم سيقوّضه لا محالة، حيث إنّ الخيال يقصر عن أداء أدواره المختلفة في تشييد او بناء عوالم غرائبيّة، لا يقوم بالإيحاء والإيهام والمخادعة كما ينبغي.
يؤكّد جيرار أنّ الروائيّين وحدهم يكشفون عن الطبيعة المحاكية للرغبة. ومن الصعب ملاحظة هذه الطبيعة لأنّ المحاكاة الأكثر حماسة تُقابَل بأشدّ حالات الإنكار، وأنّهم يتغنّون بقوّة الرغبة بطريقة أو بأخرى في أعمالهم. كما يقول إنّ موضوع الكراهيّة هو الشخص الذي يمنعنا من إرضاء الرغبة التي أوحى بها إلينا، يرافق ذلك توقٌ إلى الغرض المرغوب الذي هو في نهاية المطاف توق إلى الوسيط، حيث قد تغدو الرغبة موضوعاً للمنافسة بين التوق والوسيط الذي يسعى إلى امتلاك الشيء نفسه... كما يؤكّد إمكانيّة البرهنة على وحدة الخواتيم الروائيّة بتقريب النصوص من بعضها البعض، لكنّه يتجاوز ذلك إلى تقديم الصورة النهائيّة التي تحملها معاً كل الخواتيم، التي تبقى عبارة عن حالاتٍ من الهداية، بدايات جديدة، زمن مستعاد، كما أنّ الخاتمة هي دائماً ذاكرة، إذ يتحرّر البطل من العبوديّة بتخلّيه عن أوهامه، تنتصر الحقيقة الروائيّة على الرغبة الميتافيزيقيّة. تصبح الحقيقة فاعلة في كلّ مكان من العمل الأدبيّ بعد اكتمال دائرة الإبداع، وتكامل الرسالة التي يحملها، والتي تبدي قوّة القاعدة التي تنبني عليها الحقيقة الروائيّة المدعومة بكذبة رومانسيّة...
يعتمد جيرار على التأويل في شكل أساسيّ في تفكيكه النصوص الكثيرة التي يعالجها، حيث يكفل التأويل بفتح المجال واسعاً أمام الاحتمالات والافتراضات والاجتهادات، يكون مسلّحاً بعمق فسلفيّ، وثقافة موسوعيّة أنتروبولوجيّة، يجيّرها لخدمة نظريّته التي أثْرَت الفكر الأدبيّ الإنسانيّ... ولا يخفى أنّ الكتاب يشكّل إغناء للمكتبة العربيّة التي هي بأمسّ الحاجة إلى هذه النوعيّة من الكتب حيث يتّسم بالجدّة في الطرح والمعالجة، يثرى بالكثير من الرؤى والطروحات الجريئة في مناقشة قضايا هي مثار جدل غير منتهٍ حتّى الآن.

عن صحيفة الحياة 2010