المطر .. منذ أقدم العصور

المطر .. منذ أقدم العصور

ترجمة / عادل العامل
بعد أيام فقط من قيام ناسا والإدارة المحيطية والجوية القومية الأميركية، في أوائل هذا العام، بإعلان عام 2014 أشد عامِ حرارةً تم تسجيله على الأرض، رفض مجلس الشيوخ الأميركي الإجماع العلمي على أن البشر يتسببون في ازدياد درجة حرارة جو الأرض. وتؤكد الصحافية البيئية سينثيا بارنيت في كتابها ( المطر : تاريخ طبيعي و ثقافي )

أن أولئك " الذين يتجاهلون العلم في القرن الحادي والعشرين يخاطرون بتكرار أخطاء البريطانيين الذين كانوا يُطلقون على النشرة الجوية المتعلقة بالملاحة " السحر الأسود " في وقتٍ كان غرق السفن يذهب بأرواح آلاف البحارة ". وهي تتنبأ بأن شركات الغاز و النفط التي تقوم حالياً بتخريب الجهود الساعية للحد من انبعاثات الكاربون سوف تغرق في التاريخ مثل منقذي سفن كورنوول و ديفون الذين كانوا يشكون من أن الأرصاد الجوية Met تعطلهم عن عملهم التجاري.
وبارنيت، مثل الرئيس أوباما، ليست عالمة، لكنها تعرف عدداً كبيراً من العلماء الجيدين، ولديها موهبة لإيصال عملهم إلى جمهور عام. ويغطي كتابها 4 بليون سنة، بدءاً بسيول المطر التي ملأت المحيطات. وقد عتقت تلك القصة المتعلقة بالأرض كرخامة زرقاء رائعة كبرنا معها. فالأرض لم تتطور باعتبارها الجرم المائي الوحيد في نظامنا الشمسي. فقد كان المريخ والزهرة يحتويان على ماءٍ أيضاً لكن محيطاتهما تبخرت في الفضاء بينما احتفظت الأرض بمائها مانح الحياة.
وللمساعدة على تخيل أسلافنا الأوائل في الأوقات الغزيرة الأمطار، توصي بارنيت بأن ينقع الواحد نفسه بالماء في الحمام لوقت طويل ثم يتفحص أصابع يديه و قدميه الذابلة. ويشير بحث عالم الأحياء مارك سانغيزي في هذا المجال إلى أن هذه التثنّيات المؤقتة الظاهرة على الأصابع، التي لا تظهر على أي مكان آخر من الجسم، هي " آثار المطر "، وهي الإشارات الدالة على تكيّف قديم للتشبث في أثناء السير في الغابات المطرية حيث عاش الأسلاف البشر قبل حوالي عشرة ملايين سنة. وقد أصبح ذلك النوع البشري، عبر ملايين السنين من التطور،الناجي الوحيد من كل الكائنات القريبة الشبه بالإنسان وواحداً من أكثر الأنواع تكيّفاً في تاريخ الأرض.
ولقد كان لروما القديمة إلهها الخاص بالمطر، جوبيتر بلوفيوس، و كان الأزتيك يضحّون بالأطفال الصغار لإله المطر Tlaloc. و تندفع المؤلفة بمهارة بين القارات و الثقافات لمتابعة قصة علاقة البشرية بالمطر. ففي عام 1589 ، اعتقد جيمس السادس ملك سكوتلندة بأن السحَرة قد استدعوا العواصف لمنع عروسه، آنا الدانماركية، من الوصول إلى السواحل السكوتلندية. وبلغ اضطهاد السحرة ذروته في أوروبا بين عامي 1560 و 1600، وهي عقود من الشدائد المناخية، بما في ذلك الفيضانات، والصقيع، وإخفاقات الحصاد. ومن الطقس السيّئ لوقتٍ طويل نشأ الاعتقاد بالخرافة.
وقد كرّس توماس جيفرسون نفسه (1)، وهو متتبّع مثابر للطقس، لانتصار العقل على الخرافة، العالم الجديد على القديم : " إن التجربة الأميركية ستبرهن على أن البشر يحكمهم العقل والعقل وحده ". ومع ذلك، قام أعقل البشر هذا، الذي كان يقيس سقوط المطر اليومي على نحوٍ دقيق، ببناء بيته في مونتيسيلو، حيث راح فريق من العبيد بالحفر خلال قمة الجبل لمدة 46 يوماً للعثور على ماء. " فالمتنبئ الجوي التأسيسي كان عالياً و جافاً في مونتيسيلو ــ رغبةً بالمطر ".
وخلال الجفاف الشديد في تسعينات القرن التاسع عشر ، أُقنع الكونغرس الأميركي للاستثمار في تجارب صناعة المطر. وتؤكد بارنيت أن الكونغرس كان، آنذاك كما هي الحال الآن، " يتأثر بعلمائه أقل من تأثره بغير العارفين من أصحاب النفوذ ". في عام 1890، قام تشارلس بينجامين فارويل، وهو سيناتور من ألينوي يمتلك أراضيَ لرعاية الخيل و الماشية قي تكساس، بتمرير لائحة قانون للمصادقة على تخصيص مبلغ 9,000 دولار لاختبارات ميدلاند لارتجاج المطر، التي كان قد رفضها العلماء آنذاك، و التي تتضمن قصف السماوات بالمدافع. ومنذ زمن بلوتارك (2)، ربطوا سقوط المطر بالحرب و في القرن الثامن عشر ربطه نابليون باتفجارات نيران المدفعية الثقيلة. وكان عالم الأرصاد الجوية الرسمي الأول في الولايات المتحدة، جيمس بولارد أسباي، يعتقد بأن الارتجاجات العالية للمدفعية تتسبب في المطر بعد المعارك. لكن ما برهنت عليه اختبارات ميدلاند جميعاً هو أن الرأي العام الأميركي قد تم تضليله وأن الحكومة الاتحادية تستحق اللوم إلى حد ما لعدم إصغائها لعلمائها في هذا الشأن.
وتوضح بارنيت أن القليل قد تغيّر. فالكونغرس اليوم يماثل سلفه الراغب في أن يصنع المطر في تسعينات القرن التاسع عشر، فهو " آذان مفتوحة لغير العارفين المتنفذين وليس لعلمائه ". فالسيناتور جيم إينهوف من أوكلاهوما، وهو خصم قومي بارز لتشريع قانون يقلل من انبعاثات غاز الوقود، صرح قائلاً إن البشر لا يمكنهم السيطرة على المناخ لأن الله وحده الذي يستطيع ذلك : " إنه لأمر معيب هذه الغطرسة من الناس ليفكروا بأننا، نحن البشر، سنكون قادرين على تغيير ما يفعله تعالى بالمناخ ". وهكذا فإن الخرافة ما تزال تهزم العقل، بالرغم من كل ما بذله جيفرسون من جهود بهذا الشأن.
ويُبرز كتاب ( تجربة الطقس ) لبيتر مور حلقة كثيفة في القصة الواسعة و المتموجة التي تختصرها بارنيت : اختراع التنبؤ بالطقس في القرن التاسع عشر. إذ نجد سيرة حياة الجماعة، المنمذجة وفقاً لكتاب جيني أوغلو ( الرجال القمريون )، تقوم بتتبّع تفاعلات الرواد الشخصية والمهنية ــ وتشير بارنيت إليهم بـ " رجال الأرصاد الجوية الملتحين " ــ الذين حسّنوا طرقاً لقياس، وتصنيف حالة الجو والتحدث عنها خلال الثورة العلمية.
ففي سنوات 1800 ــ 1870، قامت مجموعة انتقائية من البحارة، والفنانين، والكيميائيين، وعلماء الفلك، وعلماء وصف المياه، ورجال الأعمال، والمختصين في الرياضيات، والمغامرين باختراع التنبؤ بالطقس، الذي نأخذه اليوم كأمرٍ مسلَّم به. وكموصل ماهر، يمنح مور كل عازف من هؤلاء فرصة الاستماع إليه وسط الحفلة الموسيقية. فقد اخترع كلود تشاب، المجبرعلى ترك عمله المكتبي في بداية الثورة الفرنسية، آلة التلغراف؛ وعمل ريتشارد لوفل أيجوَرث وفرانسيس بوفورت معاً على تطوير التلغراف الأيرلندي؛ وراح جون كونستَبل، فنان المناظر الطبيعية، يدرس بتركيزٍ السماوات؛ وصنّف لوك هاوَرد الغيوم؛ ونشر توماس فورستر النداء العالي للأرصاد الجوية كعلم، ( بحوث حول الظواهر الجوية )، 1812. كما نجد أن الأدميرال روبرت فيتزروي، كابتن السفينة بيغل خلال حملة دارون الاستطلاعية، يقوم بدور في اختراع التنبؤ الجوي لم يسبقه إليه أحد. وقد شق طريقه بصعوبة، حتى عُين عام 1854 رئيساً لقسم جديد يتعامل مع محموعة معطيات الطقس في البحر، قبل ظهور مكتب الأرصاد الجوية. ولم يكن ريتزروي أول أوروبي يؤسس نظاماً للتحذير من العواصف، لكنه الذي ابتكر تعبير التنبؤ الجوي أو النشرة الجوية forecast.

(1)توماس جيفرسون ( 1743 ــ 1826 ) أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية ورئيسها الثالث.
(2)بلوتارك ( 45 ــ 125 م ) مؤرخ وفيلسوف يوناني.

عن / The Guardian