بنية الكتابة.رواية (الطريق الى تل مطران)... انبهار الفكرة وضعف في إدارة المتن السردي

بنية الكتابة.رواية (الطريق الى تل مطران)... انبهار الفكرة وضعف في إدارة المتن السردي

2-2
علي لفته سعيد
الفكرة والاستدلال
لذا تبدو فكرة الرواية مشحونة بقدر كبير من فلسفية قصدية يريدها الروائي أن تصل بمفهومها وتحليلها الى القارئ/ المتلقي الذي يريد معرفة العالم الآخر الذي يحفزه لكي يستنتج ما لم يره من قبل أو يسمع به أو سمع به ولم يحلله..

لأن الأذن تعودت على الإستماع والتصديق المباشر كفعل جماعي.. والمتلقي هنا بحاجة الى التفكير في كيفية ولوج المنطقة الفلسفية التي تخضع الى القدر، وكذلك الى مفهوم الخلود ومعناه في الذاكرة المجتمعية.. ولكن المناقشة الروائية هنا تنتهي على أنها حلم.. مجرد حلم ..الروائي استغل الحلم ليقحمه في معترك خوض المعارك الفكرية ليصل الى مفهوم تلك الحياة القاتلة للعقل.. حياة خطط وخيانات ويأس وسرقة وتبعية وفساد واستغلال السماء والتاريخ وحتى الشعر والثقافة والأخلاق.. ولكن ما يمكن الاستدلال عليه أن الجامع الأكبر لكل هذا الذي تمر به الحياة هي المرأة والصراع مع الرجولة أو مواجهتها.. هي صراع الطبقات كما سيأتي عند تناول أهم شخصيتين في الرواية
( بين هذا الشاعر وهذه الحسناء آلاف من الضحايا، ولكن من هو الجلاد ومن هو الضحية؟
هل هؤلاء الحمقى أبرياء حقا؟
طيب ما دخلي أنا، ما هي قصة النبوءة؟ قس يحتضر....) ص241
الرواية أيضا تحقق هدفا جوهريا في البحث عن مضمون الكنوز التي تستغل من قبل رجال الدين والأعراف والحكايات والتاريخ والتعاويذ.. الراوي الذي هو بوصلة البحث عن نقطة ضوء أو إزالة عتمة وعن الفوضى في المكان لإعادة صياغته، فيكون شريكا في الفوضى ذاتها ليتحول الى قطب موثوق به وهو الغريب.. والحاجة إليه تكون نابعة من نقطتين لاستكمال مخطط التغيير والإطاحة والإنقلاب دون حصول تغيير.. الأولى إن الجمهور لا يصدق بما ستؤول إليه الأحداث وما يمكن أن يطلع عليه من أكاذيب أو خزعبلات أو حقائق، لأنه مصدق لها كونها خارج الإدراك العقلي وإنها مرتبطة بالسماء والإيمان والعقيدة.. والثانية لأنه المثقف والغريب الذي طرح نفسه ليكون معلما وسبق لمعلمٍ أن جاء الى هنا ولم تكتمل الخطط في إشارة الى استمرار الصراع بين كل هذه المؤسسات التي تخدع الانسان.. وهو أيضا العاشق لمن تخطط وهي شميران ليجد نفسه مدفوعا الى الإنغماس في مجتمع مغلق وإن توسع فهو مجتمع مقموع وإن كانت كل مسببات التمرد والحياة متوفرة.. وهو كذلك يناقش القاشا الذي تكون الخطط متركزة للإطاحة به بعد حصول النبوءة التي يكتشفها هو في المكان الذي ترك له أن يكتشفه ما لم يتمكن أحد غيره أن يصله.. وكان الحوار أكثر غلبة بين الإثنين وخاصة بما يتعلق بأهمية الشعر في الحياة وإذا ما كانت السماء تحب الشعر وإنه الوسيلة الأقرب الى فهم نخبة وليس العامة في هذا تأويل كبير.
( أي خبيث وشيطان ومحتال هذا الشاعر، أي ماكر هو، ومن أي نوع، قلت في نفسي، مسحت يدي ووجهي بالمنشفة المعلقة بخطاف على الجدار وعدت للكرسي الذي يقابل طاولته، فابتسم لي ابتسامته الماكرة) ص 278
وفي موقع آخر نجد الصراع والخداع أيضا .
(الأمور في تل مطران طبعا...وصلت الى درجة خطيرة...الكنز أمر خطير... وشميران إذا حفرت اليوم...ستصطدم مباشرة مع جدها) ص279

الزمان المكان
هناك تفاوت في الزمن ..تفاوت بين أحداثه ولو تمت مراجعتها لوجدنا إن الزمن في بعض مفاصله لا يبدو متماسكا سوى إنه جاء بعد الحرب في حين نجد أن هناك من هو هارب من السجن في زمن الحرب وخروجه لنتبين أن الحرب لم تنتهِ بعد.. وكذلك لحظة تسرحه من الجيش وسفره والشتاء والصيف والمطر والشمس والذهاب الى القصر بناء على موعد ظهرا وتناول العشاء مساء. ربما لأن الأحداث متسارعة وانتباه الروائي / المنتج الى الوصف والإغراق به والتحليل وطرح الأسئلة والإخبار ربما ضيع عليه مسك خيوط الزمن مثلما هو في وصف المكان الذي يتكرر في حالات كثيرة ويتيه معه القارئ في أحيان أخرى حتى لكأن المدينة التي يريد حفظ تفاصيلها لن تكون بمتناول اليد لأن الشوارع تعددت وحركة الراوي تنوعت واتسعت.. وزاوية الروي تختلف بين مقطع وآخر..وأن مساحة الزمن قد تبدو على إنها حلم قصير لليلة واحدة لكنها بكل تأكيد أخذت عمرا من الروي والرجوع والتقدم والمتن الحكائي الذي تولد على مكان له خارطة مكانية التي وإن بدت محصورة ما بين مدينة وكنيسة وقصر وبيوت وفندق وملهى ومشرب ومحال تجارية وأسواق وحوذي إلا إنه تعبير عن دلالات اجتماعية قابلة لمعرفة الهدف الذي يسعى الروائي الى الوصول توضيح ملامحه.

الشخصيات المحورية
أن شخصيات الرواية مهمة جدا حتى تلك الثانوية منها وان كانت مجرد كومبارس حركي لاستكمال المشهد الكامن للمدينة وقاعدتها وكيف تتحرك.. وهي عناصر تقترب من الدراما في تفعليها السردي إن كانت بالنسبة للملتقي حالة من رؤية داخلية لمشهد السرد.. وبالرغم من الإغراق الوصفي كما أسلفنا وإدخال العناصر الثانوية عنوة وأن بعضها كان مجرد استكمال مشهدي لأن لا بداية لها ولا حضور نهائي في المشهدية الا إذا ما خلصنا إنها ترتبط بالحركة اليومية للراوي/ البطل.. ونجد إن بطل الرواية/ الراوي شخصية غير ثابتة.. فهي تارة واعية مقتدرة وتارة نراها مهزوزة ومتقلبة لكنها في الأغلب الاعم شخصية لا تمتلك الثقة بالآخرين حتى في التصرف يتنازعها الخوف من الجهول رغم حزة التمرد والمجازفة ..لذا فهو لا يعطي مطلق الثقة إلا الى نوازعه.. فهو رجل خارج من الحرب يبحث عن النشاء والخمرة يتسكع في شوارع بغداد وحاناتها يبحث عن صديقات كمثقف يحب مثل هذه الهالة حوله ورغم أنه يراد له أن يكون معلما للغة العربية في قرية مسيحية بصفته مثقفاً ومنتجاً ثقافياً وشاعراً إلا إنه أيضا مثقف يتعرى في كل لحظة احتجاجاً على المأساة ولذة من قبح المجتمع.. لذلك نجد إن هناك شخصيتين تتداخلان مع بعضها في السيرة السردية.. الأولى شخصية الراوي الذي يبحث عن الحقيقة ومناقشة الأمل وكذبه، وأكذوبة الأمل والمخلص في ذهنيات المجتمعات مهما اختلفت الديانات، وانتهازية الشخصية واستغلالهم للسماء والأديان وملاعبة العواطف لإبقاء الخنوع.. وهي شخصية تشارك أيضا في التغيير الذي يجد له فرصة وإن كانت بطريقة الخداع ، لعل التغيير ينتج واقعا آخر.. وهي الشخصية التي تقوم السرد في مناقشات ومجادلات الحوارات التي تحتاج الى وعي ثقافي وإدراكي بما يحيط الانسان في البلد، وهي المتعلقة بثلاثة أطراف هي إضافة الى الراوي والقاشا وشميران المرأة التي تمثل كل تناقضات الواقع واسبابه..والثانية الشخصية المهزوزة الباحثة عن الجنس واللذة والتي تمثله كل الحبيبات والخائبات وبائعات الهوى والجائعات للجنس والمتمردات التي يريد ان الراوي أن يكن كلهن بين احضانه وهي شخصية مهمومة بغرائزها.. لذا فإن الروائي هنا يصف كل شيء في الجسد حتى إنه وبسبب هذا الوصف الزائد سبب ارباكا للسرد نفسه
وهناك شخصية القاشا التي لا يمكن معادلة حضوره الذي يعد حضوره كونياً ومعادلاً موضوعياً عن الغلبة العاطفية والعقلية للسلطة الدينية.. وهو معادلة فكرة الخلاص وهو الشخصية المحورية الأهم في البحث عن الإجابة، أو منح فرصة لطرح الأسئلة وكذلك توضيح العلاقة بين السلطة والفرد، وبين الدين والعبد، وبين المثقف والاستلاب، وبين الحرية والحلم.. وكذلك بين شخصيات لو تم تجاوزها كلما حصل شيء كأصحاب المحال أو النساء اللواتي يمرن من أمامه وينتهي مشهدها.. أو الرجل الذي يشرب الخمر في بار أو حتى بعض الخدم. ولأن العمل الروائي يحتمل تواجد مثل هذا.. فان ما يهمنا هو الشخصيات الرئيسية.. فنعود الى شخصية القاشا الذي يعد نقطة الارتكاز وفكرة تلاقح الأفكار ومنطقة الالتقاء في كل الديانات كونه يمثل في ظاهره المخلص وفي باطنه القوة الخفية السالبة للعقول.. فيكون في حديثه المنتظر والأمل والمخلص والإنتهاء والمعادلة الكونية في العودة الى إصولها والعوالم السفلى والعليا.. وكأنه مجند لكل هذا، ويكون بإمكانه قاتلا لأنه يدافع عن فكرته التي وجد نفسه فيها من خلال استلام الأفكار التي وجد فيها هيمنته على العقل. لذا يكون باتفاقه مع المثقف وهو اتفاق من نوع آخر موبوء بالخوف والتقرب منه لمعرفة ما يدور في رأسه.. لكنه من جهة أخرى يعلن تصادمه مع المثقف الواعي في الشخصية الثانية من الراوي / البطل.,. الذي تحول الى باحث ومستكشف عن الحقيقة والشاعر الذي يدون العالم ويجعله في مكانه عاليا.. فيكون النقاش ثمرة اختلاف الأذواق والانسياق نحو حقيقتها وبيع الوعي من أجل الجنس والمال والقوة والمكانة العليا لتحقيق المآرب وتطهير الشعر لتلميع الوعي..
شخصية القاشا ربما هي المعادل الموضوعي.. لكن شخصية شميران المرأة التي تعد ايضا معادل كينوني للواقع والحياة والتأثر والتأثير وهي عنصر الارتكاز بين الوعي والجنس..وهي يمكن ان تمنح جسدها لكي تحصل على مخطط ناجح للوصول الى السلطة ذاتها بعد مقتل القاشا.. شميران هي اللوحة الأخرى من هذا العالم الذي يتوزع بين حالين أيضا حال الوعي الظاهري بالجمال والمكانة العالية في تحقيق معادلة الحياة بأناقة الأخلاق والتقوى والطاعة ..والثانية هي حالة الاستلاب الذي يعيشه الناس في تمكن الجنس من أن يكون هو القوة المسيطرة الجديدة او المغيرة للتخلص من القفوة السابقة.. فكانت شميران بين أن يكون جسدها محطة وعي لاستلاب مجتمعي وبين قدرتها على استخدام جمالها وعقلها المخططاتي ودهائها من خلال الوسيط الأكبر جسدها فتكون الطهارة التي تغير المجتمع متراجعة أمام الوازع وهي ضربة هنا تحسب لفكرة الرواية وحكايتها.
ولهذا فإن العمل لا يستند فقط الى الفعل الدرامي للشخصيات الرئيسة كما الراوي والقاشا وشميران بل جعل من شخصيات أخرى فاعلة أيضا وبدرجات متفاوتة وهو أمر طبيعي، كشخصية إيلين كونها فكرة التأثير السردي وتحريك الواقع وتسليط الضوء على موت العقل موت الزمن وموت المستقبل وترك الماضي وحده يتحرك، وهو تنشيط صراع كل المجتمعات التي تمضي الى الحروب او التي تذهب إليه بسبب الماضي وتاريخه وهو ايضا تنشيط لعنصر الصراع في الرواية.. وهنا تكون إيلين ليست مجرد فكرة أيضا حتى في موتها لأن هناك من ماتوا وجعلت الراوي يبكي وكأنه ينطلق من مفهوم جديد ولكن كما أعتقد أن فكرة الموت هنا اقحمت اقحاما من قبل الروائي دون وجود سوابق أو معادل موضوعي أو معادلة سردية تؤدي الى نتيجة منطقية..رغم انه بالإمكان التأويل لصالح الروائي وهو إن الموت نتيجة منطقية حتمية أو إنهاء وجود الشخصية في الرواية.. ولكن إعادة ذات الوصف للأشياء والإغراق به جعلت هناك إرباكاً في الحصول على قصدية منطقية منتجة لتأويل الفكرة أو جامعة لفلسفة الوجود ذاته في جسد الرواية.

خلاصة
إن رواية ( الطريق الى تل مطران) تمثل حقيقة الواقع الذي نعيشه جميعا.. واقع التأثر والتأثير بالغيبيات وما يمكن أن يطرحه الآخرون المسيطرون على الوعي والحركة والتنويم.. ولذا كانت الفكرة كبيرة في مفهوم اسقاطاتها.. وكبيرة في قصديتها وتأويلها وطريقة سردها، وامتلاك الروائي المقدرة على تحريك الراوي وفق المستويين التصويري والإخباري.. لكن الإغراق في الوصف أفقد لذة المتابعة المدهشة وأضاع القدرة على إدارة الحدث بصورة متوالية ومتصاعدة.. لأن المتلقي هنا سيجد نفسه أمام سيل من الوصفيات لكل شيء حتى لو كان زر قميص أو مزهرية وكذلك إعادة التفصيل وتكرار المفردة في الجملة الواحدة. لذا تبدو خطيئة الرواية هو إن الروائي/ المنتج يطرح سؤالا واقعيا.. وهو سؤال المباغتة.. لكن الحلم ينسف كل شيء حلم وجود وشعر وتابوات وفلسفة غائبة يراد لها حضور قوي أو هروب سريع من وقائع هذا الحلم.. لذا نجد إن الحلم ليس له ما يبرر حضور سوى الهروب من الفكرة ذاتها وكان بالإمكان ان تنتهي الرواية بما انتهى عليه مصير القاشا، لكي يتمكن المتلقي من حصاد التأويل من إن كل شيء سيبقى على حاله.. رغم إن الحلم ليس جديدا على السردية الروائية والقصصية وحتى المسرحية لكنها أصبحت غير واقعية في متن هكذا فكرة كبيرة وزمن الرواية الحديثة التي يمكن لها أن تحمل الهروب الى الأمام وبطريقة المراوغة وما ينتج من تأويلات لما بعد القراءة.. لذا فان الروائي يأخذنا الى طرح مفهومه عن الشعر على لسان قس مرة وعلى لسان الراوي البطل مرة أخرى بدلا من الولوج الى منطقة فلسفة الخلق وتأثير الاستغلال الأكبر لهذه الفلسفة الكامنة وراء فكرة وحكاية الرواية.