فان كوخ.. الحياة..سيرة حياة ترسم موت الفنان من منظور مختلف

فان كوخ.. الحياة..سيرة حياة ترسم موت الفنان من منظور مختلف

ترجمة : عباس المفرجي
في اوفر- سير- واز وجوارها ، 10 كيلومتر شمال غرب باريس ، عدد كبيرمن نسخ لرسوم غير ملوّنة للفنان لها صلة بالقرية ، مثبتة على لوحات إعلان ، تعرض كم هو حقيقي تماثلها مع الذي لا يزال هناك . هذه المواقع التي تقتفي أثر فان كوخ ، تضم الكنيسة ، دار البلدية ، المقهى حيث اقام فنسنت الشهرين الأخيرين من حياته ، وحقل الذرة بجانب المقبرة التي دُفِن فيها واخوه تيو جنبا الى جنب .


نحو قرن من الزمن ، أخذت قصة النهاية شكل الأقاويل ، هي الأكثر تصديقا لكونها مأساة مقدّمة في هذه الرسوم الصادرة من القلب . الى هناك يسير كيرك دوغلاس ، في فلم فنسنت مينيللي المقتبس عن رواية " الشهوة للحياة " ، نصف ذهنه مع الإبداع المجنون والآخر مخبول بالغربان . تدوّي طلقة رصاصة . يتعثر راجعا الى حجرته ، يستلقي على الفراش ، يدخن غليونه وبعد يوم أو يومين يموت .
من المتوقع ، الآن ، تصويب تام : في مغامرة إستغرقت عشر سنوات ، وإنهماك فِرَق من الباحثين والمترجمين عن اللغة الهولندية ، جمع ستيفن نايفه وغريغوري وايت سميث ما يبلغ مجلدا ، رفيقا لكتابهما العظيم " جاكسون بولاك : ملحمة امريكية " ( 1989 ) ــ نفس الطول ( أكثر من 900 صفحة ) ومرهق في الطموح على حد سواء . يصف الشريكان فان كوخ بـ (( منظم بالفطرة )) ، وفي الحق ، هما منظمان أيضا . (( المسيرة التي تقاذفتها العواصف )) لفنسنت ، كما يريان هما ، كانت سريعة ومبتسرة ، لكن ذلك ، كما يبدو ، دفعهم الى التعديل من خلال تلمّس طريقهما عبْرها مع الإجتهاد طويل النفس . عَمَد المؤلفان بحكمة ، كي يجنبا الكتاب الغرق في الهوامش ، الى إيداع هذه الحواشي الى موقع على الانترنت .
إضافة الى جمع دراسات قرن عن فان كوخ ، فإن نايفه وسميث أغنا الحكاية ببحوث عن المؤثرات الإجتماعية ، الأدبية والتصويرية ، وفوق كل شيء خلفية بلد الفنان . العائلة هي مفتاح الرموز . على وجه الخصوص ، كل شيء إبتلى به فنسنت يوما ، كان راجعا في الماضي الى أب وأم متسلطان والى ضغط التنشئة في بيت قس .
المزاجي ، المحب للكتب ، الميّال الى الحماسة المفاجئة ونوبات من خداع الذات ، لم يبدأ حياته كبالغ بداية صحيحة . أولا ، بدأ العمل بنشاط للإفادة من علاقات الأسرة ، لكن فترة من العمل لدى العم سنت ، تاجر فن في لاهاي وباريس ولندن ، لم تحقق أي نجاح ، كما لم يكن لدى نائب الادميرال العم فان كوخ شيئا يقدمه للفتى الذي لا يفقه العمل البحري . مستهلا عمله كمعلم ، قضى بضعة شهور في مدرسة نيكولاس نيكليبي في رامسغيت . ثم ملهما بـ " رحلة الحجاج " تحوّل الى إنجيلي لكنه فقد الخريطة .
من وجهة نظر العائلة ، كان فنسنت مستحيلا ، مضاهيا ، في أي لحظة " الإبن الضال " ، أو جامعا أعشاش الطيور ، أو متهربا من العمل ليكرّس نفسه للفقر أو يجعل من عاهرة حبلى ويهدد بأنه سيتزوجها . (( إنها تعرف كيف تهجرني ، )) كتبَ ، عارفا تماما أن كل حركة مغالية يقوم بها تغيظ الأسرة . ومن ثم ، كان هناك الولوع المَرَضي بالرسم .
كان في نهاية العشرينات ، عندما وهب نفسه للفن ، بما وصفه هو نفسه (( هوى يتفاقم بالحساسية ، )) وبدأ بمطالبه المسرفة من أخيه الأصغر تيو ، الذي كان حينها ( بفضل العم سنت ) تاجرا ناشئا . كان فنسنت يؤكد بأنه زارع جيد يحتاج ، الآن ، الى بذور . (( أنا أحرث في قماشة لوحتي كما يفعلون هم في حقولهم ، )) كتب في رسائله الموجهة الى تيو ، التي هي فريدة في تاريخ الفن ؛ رسائله الحافلة بالعوز ، تقارب الألف ، كما عدد لوحاته التي أنتجها في أقل من عشر سنوات ، وتقريبا بعدد تخطيطاته . كتبها في الليل كي يصفّي ذهنه من النوبات المرضية والإنهاك ، وكانت في الجوهر تحوي مطالبه ، نقودا ومواد رسم .
(( إمتزجت الإستعارات وتشكّلت تحت وابل من حماسته ، )) يقول المؤلفان . ذلك لأنه كان معتمدا كثيرا على إقناع أخيه بمهاراته ، الذي ، رغم إخلاصه وتفانيه ، لم يستطع ان يعوّل عليه الى الأبد . عيشهما معا في باريس لمدة سنتين برهن على المحاولات الكافية التي بذلها تيو ، وحين رحل فنسنت الى آرل ، صار بمقدور تيو التفكير بنفسه قليلا . (( لم يستبق على شيء وعلى أحد ، )) كما قال لخطيبته جو بونجيه .
بالنسبة لفنسنت ، وهو مفتون بحلم تأسيس جماعة فنية صغيرة في آرل ، أخذ الواقع شكل غوغان ، متملقا الإنضمام اليه وإن بغير قناعة بسبب أزمة الكلام التي كان معرّضا لها ليل نهار . (( بين فنسنت وغوغان ، أحدهما بركان بكل معنى الكلمة ، والآخر مهتاج عقليا ، صراع ضار كان يهيأ نفسه ، )) يكتب المؤلفان . ما حدث بعدئذ ــ مفارقة غوغان وحادثة بتر فلقة الأذن ــ كان إنهيارا . (( كل ما يمكن للمرء أن يأمله هو أن تكون معاناته قصيرة ، )) قال تيو الى جو ، بعد عودته من زيارة فنسنت في المستشفى .
الإنطباع الأول لجو بونجيه عن أخي زوجها ، حين إلتقته في باريس بعد سنة ونصف ، أثار دهشتها . رأت (( رجلا قويا عريض المنكبين ، بوجه مبتسم يطفح بالعافية ، ومظهر موطد العزم )) . هل كان هذا نفس الرجل الذي تمتلئ رسائله بالهواجس ، وصوره معلقة في بيتها ، والذي كانت حُذرت من مسلكه الفظ ؟ بعد عشرة أسابيع مات فنسنت . يعرف الجميع أنه اطلق النار على نفسه في حقل القمح ، وقد يكون بسبب معاناته من السفلس ، الصرع ، الجنون ، أو لأي سبب دفعه لفعل ذلك .
على فراش موته ، قيل ان فان كوخ قال : (( إنه أنا الذي أردت قتل نفسي . )) كم كان رواقيا ، يحْرف الشبهات . جبريته ، صبره ، يمكن أن يعدّا شيئا شبيها بالإستشهاد .
أيقونة فان كوخ ــ الزارع ، الحارث ، في البحر المدوّم ، في حقول المحيط ــ كانت موضوعة في قافية ووزن شعري . (( أنا أرسم بقلبي ، )) قال . (( ضربة الفرشاة تعمل مثل الساعة . )) غالبا ما يمكنك عدّها : أربع أوخمس ضربات في كل مرة تنزل على قماشة اللوحة أو الورقة تشبه دقات القلب أو نقرات الطبل .