كارل بوبر والتاريخانية؟

كارل بوبر والتاريخانية؟

شامل عبد العزيز
لما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها عام 1919 - 1920 - هذا العام كان حاسماً في فلسفة"كارل بوبر"الفيلسوف الانكليزي انتماء والنمساوي الأصل"الذي سوف نتناول بعض أفكاره من خلال هذا المقال , ترك منزل والديه (يهوديان بالأصل تحولا للديانة المسيحية) بينما بوبر كان يصف نفسه"لا ادري"على الرغم من توسلاتهما كي يستقل بنفسه وكي لا يشكل عبئا عليهما.

فقد أصبح أبوه شيخا جاوز الستين… فقد كل مدخراته في التضخم المالي الذي استشرى في أعقاب الحرب , وأقام بوبر في مبنى قديم لمستشفى عسكري مهجور , عمل بغير أجر في عيادة النفساني ألفرد آدلر , وبأجور زهيدة في أعمال أخرى كتدريس أو تدريب طلبة أمريكيين… أو كمساعد نجار... هذا النجار أثر كثيرا في شخصية بوبر ولكن ترك في نفسه رد فعل عكسيا عنيفا حين كان بوبر يراه دائما يؤكد أنه يعرف كل شيء وأنه على صواب ولا يخطئ أبدا. فأصبحت احتمالية الخطأ الكامنة في كل موقف هي جذع الفلسفة البوبرية (من هنا انطلق بوبر"النجار يعرف كل شيء وانه على صواب ولا يخطئ أبداً"وهذا هو بؤس الايدولوجيا في توجهها نحو الادعاء بأنها تملك اليقين وتعرف الحقيقة ولذلك وحسب ظنّي تكون انطلاقة الفيلسوف كارل بوبر من هنا ومن خلال عمله كمساعد للنجار, حالة النجار موجودة على صفحات الحوار المتمدّن مُتمثلة بالأستاذ فؤاد ألنمري ومن يؤيده وإليكم الدليل: يقول في رده على تعليق الدكتور علي عجيل منهل"أما عن ستالين فأنصحك بقراءة كتابي تحت عنوان - من هو ستالين؟ وما هي الستالينية؟ - المنشور في موقعي على ألنت فهو لا شك سيحررك من الاستلاب الذي تعاني منه بقوة) انتهى تعليق الأستاذ فؤاد ألنمري؟
الآن ما هو الفرق بين النجار الذي كان يعمل عنده كارل بوبر كمساعد وبين الأستاذ فؤاد ألنمري؟ على صواب ولا يخطئ أبداً؟ أليس من حق كارل بوبر أن يقف طويلاً أمام هذه العبارة ونقف نحنُ أيضاً؟
لم يكن بوبر يدخن أو يحتسي خمرا , كان يأكل قليلا ويرتدي ثيابا متواضعة. المتعة الوحيدة التي لم يستطع التخلي عنها آنذاك هي التردد على حفلات الموسيقى السيمفونية وكانت التذاكر رخيصة لأنه كان يستمع واقفا. بخلاف العمل الاجتماعي من أجل الأيتام والموسيقى كان اهتمام مهم هو الفلسفات السياسية اليسارية. أمضى إبان مراهقته ثلاثة أشهر ماركسيا , لكنه انقلب بحماسة إلى الاشتراكية الديمقراطية... وأصبح في النهاية داعية ما يمكن أن نسميه: ليبرالية معدلة , ليبرالية النصف الثاني من القرن العشرين , التي اقترنت باسم بوبر..
من مواليد 28 يوليو/ تموز 1902 – في فينا – توفي في 17 سبتمبر/ ايلول عام 1994 - في لندن.
بعيداً عن عائلته ووالده الدكتور وأخواه كذلك ووالدته والتي هي خليقة بأن تنجب هذا الفيلسوف سوف يكون موضوعنا عن بعض الأفكار التي يؤمن بها كارل – ريموند – بوبر..
في كتابه – بؤس الايدولوجيا – يحدد التاريخانية بقوله:
إنها نظرية تعنى بكل العلوم الاجتماعية , تجعل من التنبؤ التاريخي هدفها الأساسي , وتعلّم أن هذا الهدف يمكن تحقيقه , إذا استطعنا أن نمسك بالاتجاهات العامة , والقوانين التي تقبع خلف التطورات التاريخية. انتهى..
التاريخانية تعتبر مفهوماً إشكالياً يحضر دائماً في النقاشات الدائرة حول فلسفة التاريخ.
يعني عبر النقاشات مذهباً قوامه"أن دراسة التاريخ تساعدنا على التنبؤ بمجريات الأحداث في المستقبل"
تعلّم التاريخانية إذا ضرورة النظر إلى التاريخ كتطوّر محدود لسيرورة واضحة نكتشفها من خلال الماضي ونعمل من خلالها على تحديد المستقبل (من يستطيع أن يتكهّن بالمستقبل)؟
طبعاً كلّ هذا أكده الفيلسوف كارل بوبر في كتابه"درس القرن العشرين"والكتاب عبارة عن خلاصة لفلسفته السياسيّة والأخلاقيّة.
في نفس الوقت تعبيراً عن المسار الذي تلاحم فيه عند بوبر – النضال السياسي بالبحث العلمي – وإرادة الكشف على الحقيقة مع أخلاقيات علميّة وفلسفيّة رفيعة المستوى.
في هذه الحالة ومن خلال هذه القراءة هو خصم كبير ل ماركس والشيوعية ,, ليس هذا فحسب بل لكل الذين يزعمون تأييد مشروع سياسي – اقتصادي – اجتماعي – على أساس معرفة قوانين الصيرورة التاريخية.
عند بوبر"التاريخ يساعدنا على أخذ الدروس من الماضي"ولكن لا شيء يسمح لنّا بإسقاطه على المستقبل للتنبؤ بما سيحدث (من وجهة نظر شخصية بحتة هذا منهج صحيح , كيف يكون التكهّن بالمستقبل وكيف تكون مجرى الأحداث معروفة مسبقاً)؟
من يزعم بمعرفة مستقبل التاريخ فهو ينزع كلّ مسؤوليّة أخلاقيّة عن الحاضر , ويحوّل الناس إلى مجرّد منفذين لمصير سيتحقق مهما كان الحال (الأديان تقول بذلك , نهاية الكون والعقاب والثواب والجنة والنار ولكلّ دين مواصفات وقيم يعتقد بها هؤلاء وينتظرون المصير النهائي حتماً ولكن بدون دليل).
هذا هو هدف ماركس"تنبأ بأن الشيوعيّة كشكل لديكتاتورية البروليتاريا يجب أن تتحقق"؟
ولكن السؤال هل ستتحقق حتماً؟ لا ندري..
لقد كانت الضرورة التي يمكن أن تقام بكل يقين من خلال دراسة التاريخ والاقتصاد:
(الشيوعيّة هي شيء يجب أن يحدث) (الرأسمالية مجتمع غير مقبول يجب أن ينتهي)؟
(هذا ما يجب أن يحدث , بعد تحقيق الاشتراكيّة سيكون هناك مجتمع رائع – مجتمع جديد كليّاً – يتحابّ الناس فيه – يخدمون بعضهم بعضاً ويسود السلام على الأرض)..
من لا يحلم بهكذا مجتمع , من لا يتمنى هكذا مجتمع , ولكن هل تكفي الأحلام والأمنيات , هل النفس البشرية آلة يتم برمجتها , هل حوادث التاريخ تؤيد كل هذه الأحلام وهذه الأمنيات وفي نفس الوقت نستطيع أن ندفعها لما نشاء ونرغب من أجل الوصول إلى المجتمع المثالي؟ اعتقد أن الأمر ليس على هذه الصورة؟
لا أريد أن أقول بأنها مثاليّة – طوباوية ولكن نفس حوادث التاريخ تنفي كل هذه الأحلام والأمنيات.
عند الفيلسوف كارل بوبر"المذهب الشيوعي"قائم على اعتقاد بظهور عالم أفضل – مؤسس على قوانين الصيرورة التاريخية ,, وعلى هذه الصورة فعلى كل واحد واجب"أن يؤيد الحزب الذي سيحقق هذا الهدف"
(إنّ هذا الأمر الواقع الذي يجب بكل الطرق أن يحدث)؟
إذا قاوم أحدهم"علماً بأن الأمر يتعلق بشيء حتمي"فإن المقاومة تعد جريمة ,, لماذا؟
(لأنك تقاوم شيئاً يجب أن يحدث)؟ المقاومة نفسها تصبح مسؤولة أو مشتركة عن العنف وعن الموت الذي سيحدث حتى تقام الشيوعيّة..
العنف والموت في الحالة الشيوعيّة مُبرر إذاً لسبب بسيط هو أننا لا نستطيع أن نجعل الناس على أن تقبل الشيوعيّة طوعاً فلا بدّ من الإكراه؟
ولكن هناك سؤال"ألاّ توجد أمم ومجتمعات أخرى وصلت مبتغاها وحققت أهدافها دون اللجوء إلى العنف والموت"في حالة وجود مجتمع واحد"هذا معناه أن العنف والموت ليس سبيلاً لتحقيق الأهداف بل هناك وسائل أو أساليب أخرى من خلالها تتحقق الأهداف..
من وجهة نظر كارل بوبر فإن"الماركسيّة"التي اعتمدت المنطق التاريخاني (النظرة الغائيّة للتاريخ) تلتقي في أهدافها بالمبدأ الشمولي (هذه حقيقة 100 %) وكذلك أسطورة القدر..
عند بوبر هي خطأ من أولها إلى آخرها.. لماذا؟
التاريخاني عند بوبر"يرى التاريخ مثل مجرى الماء – مثل النهر الجاري"يعتقد أنه يستطيع أن يتوقع أين يمرّ الماء – وأنه أكثر ذكاء"أيّ التاريخاني"لأنه يرى الماء أو يتصور أو يتخيل أنه في إمكانه أن يتكهّن بالمستقبل" هذا الموقف الأخلاقي خطأ كليّاً..
في إمكاننا أن ندرس التاريخ كما نشاء ولكن هذه الفكرة الخاصة بالنهر ليست أكثر من"مجاز"ولا علاقة لها بالواقع والحقيقة.
من الممكن أن ندرس ما مضى ولكن ما مضى انتهى..
انطلاقا من هنا فإننا لسنا في المستوى الذي يسمح لنا بالتنبؤ وببساطة أن نتحرك وأن نحاول جعل الأشياء أفضل وأحسن.
اللحظة الحاضرة هي اللحظة التي انتهى فيها التاريخ وليس بمقدورنا أن ننظر إلى المستقبل ونحن نعتقد أن في إمكاننا أن نتكهّن بفضل المجرى أو الاتجاه.
لا يمكن أن نقول"كنتُ أعرف أنّ المجرى سيمر من هنا"
ما هي الأمثلة أو الدليل على الفشل لكل الذين حاولوا أن يتنبؤا بالمستقبل؟ لأن لا أحد حسب بوبر يعرف المستقبل..
ماركس مثلاً كان يعتقد أنّ كل الآلات سيكون لها محرك بخاري , وأنّ كلّ المحركات ستصبح شيئاً فشيئاً كبيرة إلاّ أنّ الظاهر يبدو عكس ذلك:
آلة الحلاقة لم تخطر ببال ماركس والآلات آخذة في الصغر.
مثال أخر:
ماركس يرى من منظور الإنتاج في ما يتعلق بالأشياء المادية في حين أنّ التطوّر حدث من منظور الاستهلاك , الثورة الكبيرة التي لم يستطع ماركس إدراكها جيداً ويفهمها بشكل جيد هي السكك الحديد التي سمحت للناس أن يتحركوا ويتنقلوا ولم تصنع من اجل الإنتاج , إنها خدمة موجهة إلى الأشخاص الذين يرغبون في زيارة أشخاص آخرين ومدن أخرى.
ماركس لم يرها كذلك أي لم يرى على أنها ثورة , هذه الثورة استمرت مع الثورة"الفوردية"وذلك باقتراح من هنري فورد لسيارات ملائمة للعمال وليس فقط لأصحاب الملايين.
يقول بوبر"إذا كنت أتحدث عن كل هذا"فلأن الأمر يتعلق بثورات لا أحد يستطيع أن يتوقعها ومنها ثورة التلفزيون وثورة التكنولوجيا وبالتأكيد لم يتوقعها ماركس.
إذا كان هدف التاريخانية هو معرفة مجرى النهر (الأمر الذي يعتبره بوبر فكرة غبية) لأنها محاولة لاستكشاف تاريخ المستقبل في حين أن خاصية التاريخ أنه يضعنا دائماً أمام ثورة غير منتظرة وغير متوقعة.
فما الذي يقترحه بوبر؟
1 – إنشاء قائمة للأولويات تطبق في المجتمع وهي السلّم الذي يتأسس على وضعية تكون فيه القنابل النووية في أيدي الشعوب المتحضرة من اجل أن تحطمها وأن لا تحتفظ إلاّ بكمية قليلة منها لأسباب أمنية , هذا يتطلب تعاون جميع الأطراف.
2 – وضع حد للانفجار السكاني (الديموغرافي) , كل الأحاديث حول المحيط والبيئة لا تفيد إذا لم يتم التصدي للمشكل الرهيب للسكان , إنه هو السبب في هدم وتخريب المحيط وكذلك المطلوب – تعاون جميع الأطراف.
3 – النقطة الأخيرة (التربية):
وضع برنامج حيث على الجميع أن يتعاون في فرض الرقابة على التلفزيون حتى لا يتم تربية الأطفال على العنف (يأسف بوبر لحديثه عن الرقابة على رغم ليبراليته) ولكن لا يمكن أن تكون"هناك حرية من دون ان تكون هناك مسؤولية"فحرية وحقوق يدي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين في الدفاع عن أنوفهم.
هذه هي الفكرة الأساسيّة لدولة القانون (أخشى أن يتبادر إلى أذهانكم أنني أتحدث عن دولة القانون في العراق فهذه دولة لصوص وطائفية وأشباه الرجال وأتباعها من الصغار والذين يطلقون عليهم باللهجة الدارجة العراقية"اللوكية").
دولة القانون تتسع رقعتها بمقدار ما نقوم بواجبنا في التربية على اللاعنف (تطبيق القوانين في ميدان النشر والتلفزة والاتصال أو الإعلام الجماهيري).
هو مبدأ بسيط والفكرة هي نفسها أو ذاتها.
توسيع حرية كل واحد إلى أقصى حد ممكن في إطار الحدود التي تفرضها حرية الآخرين.
ما عماد هذه الدولة أي دولة القانون؟
عماد الدولة "الديمقراطية" وهي سلطة الشعب الذي يمنع إقامة الدكتاتورية.
أو يمنع قيام نمط من السلطة ينفي دولة القانون.
يقول بوبر أن اليونانيين كانوا قد فهموا ومنذ القدم أن تحقيق الديمقراطية لا يعني وضع الشعب في السلطة وإنما العمل بقوة على اجتناب خط الطغيان (نحتاج لعقود لكي نفهم الديمقراطية).
هناك جملة مشهورة قالها تشرشل ويستشهد بها كارل عن الديمقراطية:
هي أسوأ أشكال الحكم باستثناء جميع الأشكال الأخرى التي هي أسوأ منها.
الديمقراطية في ذاتها لا شيء مفيد فيها وكل ما هو مفيد يأتي من جهات أخرى لا منها ,
إنها ليست أكثر من وسيلة لتجنب الطغيان لا أكثر ولا أقل.
هي تعني أن الجميع متساوون أمام القانون وأن لا احد يجرّم أو يدان ما لم تثبت عليه الأدلة.
في الديمقراطية لا وجود لمبدأ يجعل للأكثرية الحق , لماذا؟
لأن الأكثرية قد ترتكب أخطاء فادحة , وهذا ما فعلته باختيار هتلر بنسبة 94 % من نسبة الناخبين.
كتاب كارل بوبر هو اختيار إنسان عرف الشيوعية في شبابه أيام ستالين واختبر الديكتاتورية مع هتلر وعاش الديمقراطية في انكلترا مع مارغريت تاتشر.
يعتبر كارل بوبر احد أهم الذين كانت لهم بصمة في وجهة الفكر الاجتماعي والسياسي المعاصر فقد جاءت آراؤه لتكسر القوالب التي اتسم بها الفكر الغربي لمدة تزيد عن قرن من الزمن، ويعتبر كتاب بؤس الايدولوجيا احد أهم أعماله البارزة في نقد الآراء القائلة بوجود قوانين يسير التطور التاريخي وفقا لها. ولقد صحح بوبر أخطاء شائعة عن المناهج الاجتماعية وميز بين التنبؤ والنبوءة متوقفا عند التفسير التاريخاني والنزعة الكلية ووحدة المنهج في العلوم. كانت الفرضية التي طرحها"بوبر"في هذا الكتاب هي أن مسار التاريخ الإنساني يتأثر بقوة بنمو المعرفة الإنسانية، ولذلك لا نستطيع أن نتنبأ ولا نتمثل المستقبل لأننا لا نعرف حين يحضر هذا المستقبل عند أي صفحة ستكون معرفتنا موجودة. وبطريقة أخرى، حين نتأمل الوضع والمتغيرات علينا التخفف من الذهنية التاريخية التنظيرية والالتفات أكثر إلى الواقع المشاهد فقد كانت الدعوى الأساسية في هذا الكتاب هو اعتقاده بان فكرة المصير التاريخي هي مجرد خرافة ضاربا بذلك العديد من الأيدلوجيات التي كانت سائدة آنذاك وخص بوبر بالذكر الفاشية والشيوعية والتي أكدت انه ثمة قوانين لا مهرب منها للقدر التاريخي.

عن الحوار المتمدن