مجتمع الحريم.. التمثيل السردي لعالم المرأة عند فاطمة المرنيسي

مجتمع الحريم.. التمثيل السردي لعالم المرأة عند فاطمة المرنيسي

عبدالله ابراهيم
ناقد واكاديمي من العراق
لم تكف فاطمة المرنيسي عن العمل المضني والمتواصل الذي تمثله الكيفية التي قام بها الخطاب في تمثيل عالم المرأة الإسلامية أولا , والعربية ثانيا , والمغربية أخيرا , والواقع فإن عملها يتوزع بين بحث استقصائي منهجي محكم خاص بصورة المرأة في التاريخ,وفي هذا تظهر مهارة في استخلاص عناصر موضوعها,

وتعبير تمثيلي ذاتي عن صورتها كأنثى في مجتمع تقليدي, ويشتبك كل من البحث والتمثيل معاً بهدف تعويم صورة مختبئة في ثنايا التاريخ من جهة والواقع من جهة أخرى.

ففي كتابها (الخوف من الحداثة: الإسلام والديمقراطية)(1) تطوّر فاطمة المرنيسي”حفرياتها في الجانب المغيَّب من وعي الثقافة العربية , وهو المرأة بوصفها كائنا وفاعلا اجتماعيا، إنها تفتح كوة إلى العالم الذي جرى تناسيه وُطمر في طيات معقدة من الاحتيال على الذات , طيات متكسرة تعفنت في زواياها المرأة بسبب العتمة الدائمة حيث لا حضور للزمن وسعي متقصد للنسيان الذي يأخذ شكل الاختزال والاستبعاد.
وكانت في كتاب (الحريم السياسي: النبي والنساء) (2) قد عوّمت حالة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هيمنة التصور الإقطاعي للإسلام, حالته العمومية كفرد يتواصل مع أسرته في منأى عن الضخ الأيدولوجي الذي ولـَّده الإسلام المتأخر حيث لم يكن ثمة انفصال بين الفرد وعالمه، ومن هذا المنظور تنعطف فاطمة المرنيسي”إلى عالم النساء في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم, بعيداً عن التجريد اللاهوتي الذي قام وتصلب فيما بعد، وترتحل في البحث عن دور المرأة في التاريخ العربي والإسلامي في كتابها (سلطانات منسيات)(3) وأخيرا تقد م قراءة لصور الحريم في الثقافات، وتقد م تحذيراً لا لبس فيه (هل أنتم محصنون ضد الحريم؟)(4) وهذا عنوان كتابها الجديد، لا يخفى التهكم الذي يترشح عن عنوان، ولكن ذلك في الحقيقة يحيل إلى عالم صار دور المرأة فيه يتصاعد بوتيرة واضحة.
في كتبها المذكورة تنفتح المرنيسي على أفق أكثر سعة، إنها تؤشر إلى الفكرة الحاضرة الملتبسة عن كيفية الاندماج الطبيعي في عالم يقوم بتحديث نفسه وتراه منشطراً بين غرب يسعى لتحويل التحديث إلى عمل مستحيل من خلال تمزيق الأنساق التي لابد لكل تحديث أن ينتظم فيها ومجتمع ذكوري يتعمّّد إقصاء نصفه كعورة فاضحة، قاصرة، ومبتورة، ومطمورة، ولكنه مثير للشبق وهو قطاع النساء, وعلى هذا فكل من الغرب والذكورية العربية يتبادلان المصالح ويقهران المرأة. وسلسلة الانهيارات المعاصرة في سلم القيم يراد بها الحيلولة دون تقبل المرأة كآخر. وفي نهاية المطاف تدفع المرأة إلى الحاشية ليجري تهميشها ككائن خُلق للنسيان في طيات الحياة المهملة. كذات يأخذ وجودها معنى واحداً هو: الجسد مادة اللذة وموضوعها، إنها جسد يمكن أن يقلب على كل جوانبه، يفحص باستيهام ذهني , وتدرج تفاصيله في سياق الشبق اللغوي، ويعاد إنتاجه كمادة دعائية من أجل استثارة رجولة خاملة تعاني الإخفاق والانكسار في عالمها فتبالغ في الادعاء الذكوري وبازاء هذا الاختلال وتلك المصادرة لا يحصل توافق طبيعي بين الأجساد، لأنه توافق هشّ ومصطنع يقوم ذهنياً على الاستباحة والاغتصاب والأنانية!
المرأة التي تعنى بها المرنيسي هي المرأة في المجتمعات التقليدية تلك المجتمعات المحكومة بنسق متماثل من القيم شبه الثابتة (أو الثابتة) والتي تستند في تصوراتها عن نفسها وعن غيرها إلى مرجعيات عقائدية أو عرقية ضيقة,والتي تتحك م بها روابط عشائرية أو مذهبية, والتي لم تفلح في صوغ تصورات كلية عن حاضرها, فلجأت إلى الماضي في نوع من الانكفاء الذي تفسره باعتباره تمسكا بالأصالة, وهي المجتمعات الأبوية التي يتصاعد فيها دور الأب الرمزي من الأسرة, وينتهي بالأمة , والتي لم تتحقق فيها الشراكة التعاقدية في الحقوق والواجبات التي تعتصم بهوية ثقافية ثابتة وتخشى التغيير في بنيتها الاجتماعية وتعتبره مهدداً لقيمها الخاصة. وتفسر كل تحديث باعتباره تهديدا، وتعيش باستمرار تحت طائلة التأثيم فهي مضروبة في صميمها بفكرة الإثم الحاضرة في أقوالها وأفعالها فكل فعل لكي يكتسب شرعيته ينبغي عليه أن يتطابق مع تقليد ما أو نص.
صار البحث عن المطابقة أهم من البحث عن الأفكار.هذه هي مجتمعات الترد د والحيرة والثبات التي تتحول فيها المرأة إلى حرباء متقلبة تحجب وتكشف، تستبعد وتستحضر في آن واحد; فخلف كل حجاب ثمة جسد يفجره العنفوان وصورة المرأة معقدة في هذه المجتمعات إنها رماد يواري جمرا مرة يريدها الرجل رماداً ومرة جمراً يخفي كينونتها الإنسانية وراء حجب الإهمال والاستبعاد، لكنه يستدعيها وقت الرغبة والمتعة، العلاقة بين الاثنين محاطة بقلق مستفحل. ففي الوقت الذي يمارس فيه الرجل هذه الازدواجية تستجيب المرأة للضغوط المتقاطعة التي تفرضها تقاليد شبه مغلقة صار هاجس بعثها مجدداً أحد أكثر التحديات الثقافية حضورا في عصرنا وتطلعات تحررية مستعارة أنجزتها مجتمعات أخرى.
من الطبيعي أن تتلاعب هذه الأمواج والتيارات بالبنية الذهنية للمرأة وتجعلها ترى ذاتها منعكسة في مرايا متعددة 0والحق فان الجسد الأنثوي هو المرآة التي تنطبع عليها كل هذه المؤثرات فيظهر جسداً متخفرا يدّعي العفة والطهارة والنقاء حيثما يكون في قبضة التقاليد المحافظة، لكنه في غيابها المؤقت سرعان ما يستجيب للــذة العرض والفرجة بوصفه سراً مخبأ يحتاج للظهور والكشف والإعلان عن نفسه. وهذه التقلبات المستمرة في حجب الجسد وكشفه طمره والإعلان عنه منحه والبخل به يمزق في كل لحظة مبدأ الاحترام الإنساني له فهو جسد مُذل ومُهان لكنه مُبرمج اجتماعيا ليظهر على أنه معزز ومكرَّم.
لم تغب هذه الترابطات المحكمة بين جسد يحتضر خوفاً ورغبة في مجتمعات تقليدية عن اهتمام فاطمة المرنيسي. كانت هذه الترابطات في الواقع موضوعها الأكثر أهمية منذ البداية, وفي ضوء ذلك يمكن فهم الحاجة للانتقال بالبحث عن منهجيته الوثائقية الصارمة إلى منهجيته التمثيلية الموحية من تحليل الأنساق الثقافية إلى تمثيلها فكان كتابها (نساء على أجنحة الحلم)(5) هو الوثيقة التخيلية التي تستكشف بها عالم الحريم في النصف الأول من أربعينيات القرن العشرين في المغرب، العالم المنسي والمنحبس خلف بوابة ضخمة يحرسها رجل صارم يعرض ذلك العالم من خلال رؤية طفلة في السابعة من عمرها يصرِّح الكتاب مرة واحدة باسمها"فاطمة". وككل نص يريد إنتاج سيرة ذاتية تخيلية مستعادة تتداخل فيها مستويات الحقيقة بمستويات التخيل فانه بقدرته البارعة على الاختلاق يوهم تماماً بالحقيقة.
يدعم النص بهوامش توثيقية ويحرص على إنزال الأحداث في إطار تاريخي محدد وتترافق تلك الأحداث مع نهضة المغرب الحديث وتهيمن وقائع الحرب العالمية الثانية على أجواء الكتاب من خلال الوجود الفرنسي والإسباني والأميركي، ولكن كل ذلك يأتي بوصفه خلفية لإعطاء معنى لمضمون النص، فالرسالة التي تنبثق من خضم النص تريد كشف النسق الثقافي السائد في عالم الحريم ثم بداية انهيار ذلك النسق بسبب المؤثرات الثقافية الخارجية. ولكيلا يقع المتلقي في وهم الوثائقية التي يوهم بها الكتاب تسارع"فاطمة المرنيسي”إلى الإعلان عن الصفة التخيلية لكتابها هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية وإنما أحداث متخيلة على شكل حكايات ترويها طفلة في السابعة”(6) ويبدو لنا أن هذا التوضيح يزيد الأمور التباساً أكثر مما يجليها،لأن النص يتخطى التبسيط الذي تؤكده تلك الفقرة.
في الواقع إن كتاب (نساء على أجنحة الحلم) يمثل إحدى أكثر الرؤى عمقاً وتشريحاً للعالم المغلق الذي تعيش فيه المرأة العربية، قصدت بالعالم المغلق ذلك الكيان المقصى والمهمَّش الذي دارت حوله نصوص أدبية رغبوية شغلت بإثارة الشهوات الحبيسة لكنها أخفقت في تمثيل التراتب الثقافي فيه ولم تجرؤ على الدخول في تفاصيله النفسية، وفي كشف نمط العلاقات السائدة فيه، وفي تأشير العلاقة المتكسرة بينه وبين العالم الخارجي الذي يحتل الرجل المركز الأساسي فيه.
لا يمكن لكتاب توثيقي أن يؤدي هذه المهمة، فعالم الحريم مجاز رمزي كثيف لا يعبر عنه بلغة وصفية كونه قد غادر بفعل الزمن حقيقته الموضوعية واصبح موضوعا مشبعا بتقاطع الرؤى الأيديولوجية المتنازعة التي تصدر عن منظورين ثقافيين متعارضين أحدهما مشغول بالحفاظ على الهوية الثقافية بمعناها التقليدي، والنظر إلى المرأة كقطيع من الحريم، والآخر مهموم بفكرة تدّعي التغيير بتأثير من استعارة نماذج أخرى من دون النظر في اختلاف السياقات الثقافية. الأول يريد إعادة صياغة ذلك العالم بما يطابق التهميش الثابت لدور المرأة, والثاني يسعى إلى إلغاء هذا المفهوم من أساسه. والمشكلة تتفجّر بعد كل هذا ,فالتيار الأول يريد تكييف دور المرأة بما يوافق تعليمات"الماضي"والثاني يريد إعادة دمج المرأة في الوسط الاجتماعي استجابة لتعليمات"الآخر". وبالنسبة للتيارين فالمقصود بذلك مراعاة أنساق تفرض حضورها بالتعلم والمعايشة والإدعاء المزدوج لكل من الحفاظ على التقاليد والاندراج بعالم التحديث. وكل هذه الرؤى والمواقف تتقاطع في وعي الطفلة الصغيرة"فاطمة".
إن كل خرق لسياج الحريم إنما هو خرق لسياج الدين، لكن النص يثير إلى ذلك مشكلة إجرائية, فمن الواضح أن"فاطمة المرنيسي"تسقط وعيها اللاحق بوصفها إحدى العاملات في مجال قضايا المرأة على طفولتها المبكرة لتجعل من تلك الطفولة مجالا لمناقشة هذا الموضوع البالغ الأهمية وهي تصرِّح في الكتاب بان تلك الطفولة مختلفة عما ارتسم في صفحاته (لو حاولت أن أحكي لكم طفولتي لما استطعتم إتمام الفقرتين الأوليين لأن طفولتي كانت مملة إلى حدٍ كبير.) (7 (
ولا يمكن تخطي كل هذا إلا إذا تحررت القراءة النقدية من شرط المطابقة بين"فاطمة المرنيسي”و"فاطمة”الشخصية الرئيسة في الكتاب", وهو تحرر يهدف إلى مطابقة من نوع آخر. ففاطمة الصغيرة طفلة الحريم إنما هي قناع لفاطمة المرنيسي التي تنوء بوعي ناقد يشرح الإكراهات التي شوّهت وضعية المرأة في الثقافة العربية - الإسلامية قديماً وحديثاً.
ومن الواضح أن الكتاب قد ركب قصداً لكي يلامس التشكل الداخلي لعالم الحريم وليضيء الأزمة الداخلية فيه بسبب المتغيرات العصرية. ولينتهي عند البوابة المشرعة للتحديث، لكنه لا يهمل بأي معنى من المعاني عوامل الجذب الكامنة في ذلك العالم, تلك العوامل التي تسوغ شرعيا وعبر منطق صارم لكنه مغلق، التمسك بعالم الحريم أو في الأقل بأشكال من العلاقة لا تتقاطع معه وكل هذه الأفكار تترشح عن الكتاب وتنهض كخلفية للجدل الموجود فيه.
يطرح الكتاب قضية الحريم كموضوع مركزي وسط دائرتين متراكبتين: دائرة مدينة فاس كبؤرة رمزية للأحداث المتخيلة ومن ورائها تنبثق المغرب في صراعها ضد الفرنسيين والأسبان في الأربعينيات من القرن العشرين, وكيف أن الرجال كمجتمع وتقاليد وثقافة وذاكرة يتخط ون وجود الأغراب ويشغلون بالحفاظ على (الغريبات) فيبدو الرجل- بدلالته الرمزية- خائفا من نصفه الآخر أكثر من خوفه من الغريب الذي يحتل البلاد, ويقسم المدينة إلى قسم فرنسي وآخر مغربي.
الرجل مشغول بحجز النساء في (البيت الكبير) ولكنه لا يظهر تململا من وجود الأجنبي حتى أن المرأة"طامو"هي وحدها التي تخترق حاجز الخوف وتكاد تغيب صورة الرجل في الصراع ضد الأجانب. ودائرة أخرى أكثر سعة يمثلها الصراع الثقافي بين نمطين من القيم: القيم الموروثة من الماضي كتقاليد وفلكلور التي تؤمن بشريعة حبس النساء كحريم, ويمثلها الرجال إجمالا, ومعها فئة متنفذة من النساء, مثل: لللاالطام”ولللامهاني ولللاراضية”وهن الجيل الأكبر جيل الجدات وقيم مستحدثة غزت الجيل الأصغر بفعل المؤثرات الغربية, وبفعل الحركة الوطنية المغربية الناهضة في تلك المرحلة, وهي تريد تخليص المرأة من الأسر الاجتماعي ثم دمجها في مسار المجتمع كعنصر فاعل, ويناصر هذه القيم كل من: الأم والخالة »شامة«. وتتقاطع هذه التيارات المتعارضة في شخص الطفلة الصغيرة ابنة السابعة »فاطمة«. وهكذا يتكشف نظام متراتب من القيم لكنه متصارع يفضح المأزق الثقافي الذي تتخبط فيه مجتمعاتنا,فالأجنبي والنساء الأحدث سنا يقفون باطراد مع حرية المرأة, والرجال والعجائز من النساء يرفضون ذلك. فأين تقف فاطمة وهي تخترق من ثقافتين ونمطين متنافسين من القيم الاجتماعية؟ وبعبارة أخرى ما موقف جيل فاطمة المرنيسي من النساء وهن ينشطرن بين عوالم ثقافية متضادة؟ وكيف يمكن هضم هذه المتناقضات؟ وكيف للمرأة أن تتخطى أسوار الحريم تجاه العالم الرحب؟ هذه أسئلة شائكة ومعقدة وصعبة يرفع درجة أهميتها كتاب (نساء على أجنحة الحلم) ويسعى إلى دمج المتلقي في العالم التخيلي المشبع بها.
تبدو الحرية لنساء أسرهن مفهوم الحريم ضربا من الأحلام المستحيلة , ولهذا يلجأن إلى محاكاة أولئك الذين يتمتعون بها. تقوم بهذا الدور"شامة"إذ تعيد عبر التمثيل والحكي عالم الحرية الخارجي داخل أسوار بيت الحريم, ومصادرها الكتب الخرافية والسحرية والإذاعة التي يسترق إليها السمع سراً حينما يخلو البيت من الرجال, وتفلح النسوة في اقتحام غرفة الذكور حيث يقبع الراديو الكبير القديم, الذي يخترق صوته هذا الجدار الصلب لعالم الحريم.
ثمة عرض مسرحي أو حكائي شبه يومي تتعهده"شامة"أمام الحريم اللواتي ينزلقن بسهولة بالغة إلى التماهي مع الأحداث والشخصيات التي تقوم شامة بعرضها تمثيليا أو بروايتها. الحكاية الأثيرة مستلة من (ألف ليلة وليلة) إنها حكاية الجارية"بدور”والبحث المثير عن الحبيب الغائب.ما أشد وقع حكايات الحب والمغامرة على نفس حبيسة الأسوار؟ ولكن الكتاب يُعنى أكثر بنموذج من نوع آخر يؤدي دورا لا يختلف في مغزاه لكنه يختلف في تفاصيله إنه نموذج الفنانة"اسمهان"الطالعة لتوِّها آنذاك في سماء الفن. يقع تناوب بين التمثيل والسرد في أسلوب محاكاة العالم الخارجي سواء أكان واقعياً أم متخيلا.
تغرم »شامة« بتقمص دور"اسمهان"فتوقد شرارة الأحلام في أفئدة الحريم، كانت تحاكي تنهداتها الحبيسة التي تحمل النساء على أجنحة الأحلام إلى فرسان غائبين إلى الأبد. كانت"اسمهان”قد غزت قلوب الحريم على النقيض من"أم كلثوم”المتجهمة التي تترفع عن فضح الضعف الإنساني, وتتخطى بسهولة تُحسد عليها الرقة الأنثوية. وفي مجال المقارنة يكون تأثير"اسمهان”أشد وقعاً في نفوس الجيلين الثاني والثالث من الحريم. إلى ذلك فان »شامة« تعرض لأفكار: عائشة التيمورية وزينب فواز وهدى شعراوي، رائدات المطالبة بحرية المرأة. وعلى الرغم من تحذيرات"لللاالطام”من أن حالة من التهتك والانفراط قد اجتاحت عالم الحريم, فان النساء من الأجيال الطالعة لتوِّها يستغرقن في حالة عميقة من التماهي مع ما يعتبرنه رموز الحرية سواء أجاءت من الحكايات الخرافية أم من الأوساط الفنية أم من النساء المطالبات بحرية المرأة, وكلما جرد النموذج من أبعاده الواقعية كان يلهب خيال الحريم. تحتاج ذهنية الحريم إلى نوع خاص من الاستثارة. كانت"اسمهان"هي النموذج الذي اخترق عالم الحريم. ويحسن أن نتوقف عليه لما يتضمنه من دلالة عميقة.
كان صوت"اسمهان"الذي يصل عبر الأثير إلى الحريم خلسة, يفعل فعله في تأجيج الرغبات الخفية, فتعلن عن نفسها في جو احتفالي راقص حول نافورة الدار, كانت أغنية (أهوى.. أنا أهوى) تثير رعدة في الأجساد ورغبة في النفوس, فكان الطرب يبلغ مداه, كانت كل منهن تتخلص من خفيها وترمي بهما, ويرقصن حافيات حول النافورة , الواحدة تلو الأخرى, وهي ترفع قفطانها بيـــد وتضم إلى صدرها باليــد الأخرى حبيباً متخيلا.(8)
ويلزم أن نتتبع النص من خلال منظور"فاطمة”ليتضح لنا الأثر الذي لا يمحى في نفس الصغيرة ,وهي تقارن وتشرح في الوقت نفسه الفوارق بين"أم كلثوم”و"اسمهان”والانطباعات التي تتشكل في وعيها آنذاك، يا له من فرق بين أم كلثوم الفتاة الصغيرة ذات الصوت الذهبي القادمة من إحدى القرى المجهولة في مصر التي حققت النجاح بفضل الانضباط والعمل الدؤوب وبين اسمهان الأرستقراطية التي لم تبذل جهدا لنيل الشهرة! كانت أم كلثوم تتوافر على هدف في الحياة, وتعرف ما تريده وما تسعى إليه, في حين كانت اسمهان تهز قلوبنا بضعفها البادي, أما أم كلثوم (كما رأيناها في أفلام سينما بوجلود) قوية وسمينة ترتدي دائما فساتين طويلة واسعة تخفي صدرها الممتلئ... كانت اسمهان عكسها تماماً, مخلوقة نحيفة ذات صدر نافر, مظهرها يوحي بأنها ضائعة غارقة وسط الضباب, متجذرة في الأحلام أكثر من ارتباطها بواقع يتجاهلها, كانت بالغة الأناقة في قمصانها الغربية المفتوحة على الصدر، وتنوراتها الضيقة لم تكن مهووسة بالأمة العربية, وكانت تتصرف كما لو أن القادة العرب الذين تتغنى بهم أم كلثوم لا يوجدون, ما كانت تريده هو أن تحصل على أزياء جميلة ,وتضع وردا على شعرها, وتحلم وتغني وترقص بين ذراعي رجل محب رومانسي مثلها, رجل عاطفي رقيق تكون له شجاعة خرق التقاليد, ومراقصة المرأة التي يحبها في العلن. كانت اسمهان تهمل الماضي وتنغمس في حاضر مليء بالرغبات الهوجاء, حاضر يستحيل القبض عليه, يفلت من قبضة العرب كعشيق متهرِّب. لم تكن اسمهان إلا بحثاً مستمراً ومأساوياً عن لحظات سعادة بسيطة ولكنها آنيــة,والنساء العربيات اللائي حُكِم عليهن بالرقص في ساحات مغلقة معجبات بها لأنها تجسد حلمهن برجل وامرأة عربيين متعانقين يرقصان على نغــم غربي.(9)
تبيـِّن المفاضلة بين أم كلثوم واسمهان أثر الدرس الثقافي في مجتمع الحريم, فالأولى تضع مسافة رمزية بينها- حينما تغني- وبين المستمعين، لأنها تهدف إلى إيقاظ سباتهم, ولهذا فثمة تباعد بينها وأولئك المستمعين (لم يبق الأمر على حاله, ومن الصعب موافقة المرنيسي على هذا التفسير في ضوء الأثر الكاسح للمماهاة بين أم كلثوم ومستمعيها بخاصة في المرحلة الثانية من مسيرتها الفنية, وإذا صدق ذلك التفسير فهو خاص ببدايات أم كلثوم, وعلى أية حال فهي تصف الأثر المذكور على فاطمة الصغيرة ضمن البنية السردية للنص, ومن التعسف (تحميل الموقف رأيا فكريا) أما اسمهان, فمع الحرص على الصورة الأرستقراطية المترفعة التي رسمتها لنفسها, نجحت في دمج النساء في عالمها, لأنها تخطت الدرس الثقافي الذي تلقينه في بيت الحريم, فقد داعبت ذلك الجزء الكامن في نفس كل امرأة مقهورة وهو التطلع إلى تحقيق الذات,وأوقدت فيهن شرارة الأحلام الكبيرة, حينما اخترقت هي بنفسها سياج التقاليد المحكم, فقبلت الفن وتخلت عن لقب أميرة, وبذلك فالتماهي معها يكون أكثر حرارة ,لأن المطابقة بينها والحريم قائمة في الأصل سوى أنها نجحت في تجاوز عالمها الحريمي, وفشلن هنَّ في ذلك, فأصبحت مثالا يُحتذى, تلوح صورة اسمهان في النص, وكأنها"بدور"الخرافية أو"هدى شعراوي".
لقد ركبت لها صورة توافق الأحلام المستحيلة في عالم الحريم. ولهذا فان تقليد أدوارها هو نوع من التماهي في عالمها الذي فهمته الحريم على أنه الحرية الحقيقية. لقد أسهم نقص الحرية أو انعدامها في شيوع أيديولوجيا محاكاتية عبّر عنها مجازياً من خلال التماهي بشخصية أخرى. والحق أن هذا قانون اجتماعي يظهر حينما تشح بئــر الحرية فيتحو ل الأفراد إلى قطيع من المحاكين لا يعرفون من أمرهم شيئاً حقيقيا سوى الاستغراق المتواصل في وهم الحرية عبر المحاكاة وهو مظهر من المظاهر الأشــد حضوراً في مجتمعاتنا المعاصرة.
وفي كتاب »نساء على أجنحة الحلم« تمثيل سردي عميق لهذه المعضلة الاجتماعية- الثقافية، إذ تقوم »شامة« بتلك المهمة تحت وهم امتصاص الإحباط التاريخي المخيم في نفوس الحريم, لكن تلك المحاكاة تتحول إلى ممارسة مغلقة, ففي النهاية تختفي »شامة« ووحدها"فاطمة”تواجه الواقع. فمن تعارض القيم الممثلة بقطبين: التقليدي الذي تمثله »لللاالطام”والحديث الذي تمثله »شامة« تركب"فاطمة”خيارها الفكري, ومن أجل الوصول إلى هذه النتيجة كان من اللازم عليها أن تمرَّ في حالة الازدواج الحقيقي.
هذا الكتاب يرسم سرديا التفاعلات غير المرئية في نفوس بشرية تقطعت سُبل اتصالها بالحاضر بالدرجة نفسها التي تقطعت بها سُبل انفصالها عن الماضي فبترت عن حاضرها وعن ماضيها, وظلت معلقة في الأفق كطيف لا يختفي وشاهد عليّ.
الهوامش
1 - فاطمة المرنيسي, الخوف من الحداثة: الإسلام والديمقراطية, ترجمة محمد دبيات, دمشق, دار الباحث 1994
2- فاطمة المرنيسي, الحريم السياسي: النبي والنساء,ترجمة عبد الهادي عباس, دمشق ,دار الحصاد,1993.
3- فاطمة المرنيسي, سلطانات منسيات, ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل, المركز الثقافي العربي,2000
4- فاطمة المرنيسي ,هل أنتم محصنون ضد الحريم؟ ترجمة نهلة بيضون, بيروت, المركز الثقافي العربي, 2000
5- فاطمة المرنيسي, نساء على أجنحة الحلم, ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل, بيروت, المركز الثقافي, 1998.
6- م.ن.ص 255.
7- م.ن.ص 255.
8- م.ن.ص 114
9- م.ن.ص 114-115.