قراءة في كتاب (واقف في الظلام)

قراءة في كتاب (واقف في الظلام)

د. قيس كاظم الجنابي
-1-
مازال السجال قائماً لحد الآن بين المذكرات او الذكريات وعلاقتهما بالسيرة الذاتية، والحقيقة ان السيرة الذاتية جنس ادبي نثري له جذوره التاريخية المعروفة؛ بين ان ثمة بعض الفروق الواضحة احياناً، بين المذكرات والذكريات،

اذ انّ كتابة الذكريات تفترض مقدماً وجود شيء من الكتابات والرسائل والحوارات او المقابلات او النصوص التي تعزز تلك المذكرات وتدعمها بالمصداقية، بينما تحيل الذكريات الى القدرة على التذكر وشحذ الذاكرة بكل ما تستطيع، من أجل كتابة م موضوع او كتاب يستقي مادته من تلك الذاكرة. ومن هذا المنطلق يمكن وضع توصيف تجنيسي لكتاب الشاعر عبد الزهرة زكي (واقف في الظلام)، في انه عبارة عن استذكارات او ذكريات عن ايام الاعتقال في السجون العراقية، فهو بالتالي ليس سيرة ذاتية بالمعنى الذي يوحي، وقد اردفه بعنوان ثانوي آخر هو( كتاب عن الآلام والاحلام) والذي صدر عام 2015م، ويتكون من (44) فصلاً ما عدا المقدمة التي جاءت من دون رقم. بوصفها افتتاحاً لذكريات خاصة عن سجن (الحاكمية) او المخابرات العراقية العامة في مقتبل عام 2003م، قبيل الاحتلال الامريكي للعراق في شهر نيسان.
استخدم الكاتب اسلوب الترقيم في تنظيم الفصول، انعكاساً لخبرته الصحفية ، في ان يكون الفصل الواحد منها قصيراً ورشيقاً ومكتنزاً بالمادة ،مدعوم بأسلوب ادبي ترفده لغة سردية مفعمة بالحيوية ،وخاصة بفضاء واحد او فكرة واحدة، مع الافادة من السرد الروائي ،كما في ترتيب الفصول وعلامات الترقيم وما اشبه، فضلاً عن التقنيات القصصية كالحوار والسرد والاسترجاع والتداعي، وهنا يتركز زمن الكتابة حول موضوعة السجن ومكانه وزمنه شخصياته ، حيث ساد الخوف من الحاضر ومن المستقبل، فالسلطة في بداية حالة من الارتخاء والتوجس، ومعارضة تنتظر التغيير بفعل المحتل؛ وواقع اقتصادي شبه منهار ،وصمت داخلي يغلي في الاعماق بسبب الخوف والجوع، فنحن امام اشكالية اكتناز الشعر وسرد الآلام.
قام سرد الكتاب على استخدام ضمير المتكلم للتعبير عن احساس الذات بالغبن، وعن قدرة الكاتب على تضليل القارئ، مثلما ضلل المحقق بإنكار معرفته بالرسالة ، فبقي ينكر ذلك حتى نهاية التحقيق ونهاية الكتاب معاً، حينما يتم الافراج عنه، وعندها يكشف للقارئ بانه استلم الرسالة ومازال يتذكر لونها وخطها، وانه قرأها ومزقها على الفور ليخفي الدليل الوحيد عليه ،وانها وقعت باسم رمزي يحمل اسم بطل المسلسل المصري (رأفت الهجان)، وهي تدعوه للانضمام الى المعارة العراقية التي استجمعت قواها في كردستان العراق.
ان لعبة نفي الرسالة لم تؤدِ غرضها عبر الذكريات ، بقدر ما ادت غرضها عبر لبناء الفني لها الذي يشبه الى حدٍّ ما سرد الرواية البوليسية(رواية الجريمة) لولا هدوء اللغة وسيرها الوئيد في استثمار ايام السجن القليلة ولكنها مؤلمة، من اجل تدوين سيرة ذاتية مشحونة بطاقة ادبية تؤرخ حياة الشاعر، وعمله في الصحافة.

-2-
لقد بدأ سيرته بقوله: (( لم تكن قد مضت على نيسان عام 2003م الا ايام حينما كنت في ضيافة الصديق الشاعر والكاتب علي عبد الامير حيث سألني عن اعتقالي من قبل المخابرات العامة قبل حرب ذلك العام))(ص9/ دار المدى، 2015م)؛ فكان هذا السؤال محفزاً لكتابة مثل هذه السيرة ،ومنذ الصفحة (9) وحتى الصفحة(20) من الكتاب حيث تنتهي المقدمة ، بوصفها تمهيداً لابد منه، يجري ولوج السيرة وموضوع الاعتقال، ففي الفصل (1) يصّرح قائلاً: ((قبل اربع ساعات من هذا، وحال وصولي الى (سجن الحاكمية)، كنت قد تركت ساعتي وعلبة سكائري وقداحتي وملابسي واوراقي الثبوتية وراتبي الذي كان معي لدى غرفة الامانات)) (ص21).
ولعل لبدايات تكون في غالب الاحيان اكثر صعوبة من النهايات؛ فالمزاوجة بين اليومي والآخر من الصعوبة بمكان، الا عبر التفرغ التام للفكرة بطريقة حرفية، اسهمت الصحافة في صقلها؛ فمن هنا حتى الصفحة (67) في الفصل(5) يكشف الكاتب عن تعرفه عن سبب اعتقاله؛ وهي لعبة ذكية لاستدراج القارئ، مع انه انكر تسلمه لأي رسالة الا في حتى نهايات السيرة، في الفصل(44) حينما يبدأ بأغلاق انثيالات تلك السيرة ، فيقول: (( ها انا استعيد صورة الرسالة، شكل ورقها، لون حبرها الجاف، ارتباك الخط حن يتحدث سامي عن قراره بعدم العودة والانخراط في عمل معارض))(ص324). حين نعلم انها وقعت باسم بطل مسلسل رأفت الهجان نشعر بانّ الصورة او السينما كانت وراء ترتيب وصياغة الكثير من المشاهد، وكأنه يريد ان يكتب قصة لفيلم او مسلسل ما، وعلى كاتب السيناريو ان يعمل على تفكيكه ،تماماً مثل لعبة الجاسوس والخائف في سينما الجريمة؛ لذا لعبت فكرة الاسماء المستعارة دورها في شحن السيرة بالغموض المطلوب.

-3-
يعد السجن بوصفه جزءاً من حركة المكان الشاملة في مثل هذه السيرة، دوراً مركزياً مهماً في التأثير على حركة الشخصيات، وعلى علاقة الكاتب السجين بالمكان الطارد لسكانه، لأنه محكوم بتأثيرات نفسية وظروف قامعة، لهذا لا يمكن فصل حركة المكان في السجن عن الاماكن الاخرى، وهو ما يتعلق بحركة الداخل والخارج في السجن ذاته، اذ تبقى الامكنة المحاطة بالريبة محط انظار رفض داخلي؛ على العكس من الامكنة والفضاءات المفتوحة او الجاذبة للسكان، كالشوارع والساحات والحدائق والجسور والحانات التي تبقى امكنة ذات مواصفات خاصة، فهو لا يستطيع حين يمر من مكان اعتقاله الا ان يلتفت (( باتجاه تلك البناية التي تختصرها ذاكرتي بكل طبقاتها الى مجرد زنزانة وغرف تحقيق وقبو تعذيب ، وهي الاماكن التي تشكل الذاكرة عن هذا السجن وعن بنايته التي مازال يؤلمني انها بقيت حتى الان مكاناً أمنياً(...) هذا المكان يظلّ في التصور العام سجناً لا تديره الاّ شياطين لا صلة لها بالعدل والرحمة واحترام كرامة الانسان))(ص13). وهذا ما يكشف بانَّ هاجس العلاقة بين الحرية والخوف، والنظرة الى المكان المشحون بالألم. لهذا استرسل بذكر الكثير من السجون العراقية التي تتجاوز على حقوق الانسان. فظل الكثير من السجناء يكتبون على جدرانها بيتين للأمام الشافعي:
ولرب نازلة يضيق لها الفتى
ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت اظنها لا تفرج
ومن الغريب ان ولدي الكبير هاشم ارسل هذين البيتين لي في رسالة خاصة الى المعتقل الامريكي، عام 2007م وكان وقتها طالباً في الثانوية.
وكان صاحب الرسالة الى الكاتب له مقولة مشهورة: ((احترم ذكاء الشيوعيين لكنهم اغبياء فحياتهم وعملهم الحزبي يقودهم الى الموت والسجون والفقر، لا يفهمون اللعبة))(ص77). واللعبة هنا تقودنا الى لعبة الكتابة والتعبير عن سيرة المكان والكاتب، لهذا عمد الى اشغالها بشخصيات وذكريات عمرها اكثر من ربع قرن ، وليس عمرها عدداً من الايام التي قضاها في السجن، ولكن الشخصية الاهم في هذه السيرة هي شخصية الشاعر والصديق المشترك بيننا رعد عبدالقادر الذي زاملته في الدراسات العليا، الشاعر الصامت الذي توفي اثناء اعتقاله ،وقد تلقيت نعيه وانا في عمّان، كما تلقيت اعتقال الكاتب ، حتى دار همس كثير حول علاقة موته بالخوف ان يناله الاعتقال بسبب تلك الصداقة، والذي وصفه بقوله: (( رعد عبدالقادر الذي هو تاريخ مشترك بيننا نحن الاثنين كان محوراً دائماً للحديث عن موهبته وخُلقه))(ص310). كما انه وصف وفاته : (( انها ميتة لا تتأتى الاّ لشاعر عظيم وانسان فذ ))(ص19). وهو كما وصفه لم يكن منسجماً مع ما يجري ،وكان وقتها يود العوة الى سامراء مسقط رأسه، وهوما اسرني به ،ولكن ظروفاً ما كانت تعيقه ،لأنه كان يريد التفرغ للكتابة فقط.
ومن هنا ارتبطت السجون بالنهايات السعيدة، اي الخلاص من اسر المكان، حتى انه وصف الخروج من السجن او الانتقال الى سجن ابي غريب محكوماً عليه من النهايات السعيدة، مما يجعل العلاقة بين الانسان والسجن مريبة، حتى انه وصف الالتفات الى من هم بالزنزانة حين المغادرة، بانه (( مجال زمني مقتطع من الزمن العام للسجين والحياة(...)لا يريد السجين ان يذوب و يتلاشى في هذا الزمن المجمّد في الحبس))(ص 31). وهنا تحول الذات المقموعة ان تؤكد وجودها؛ بقدرتها على الترتيب بالزمان على حساب المكان، لان المكان ثابت الزمان متحرك.

-4-
على الرغم من عدم تطابق فن السيرة الذاتية مع كتابة المذكرات والذكريات، الا ان ثمة مشتركات عديدة بين الفنين، تعمل دائماً على التقريب بينهما كفنين متقاربين او متداخلين، لهذا تقمص الشاعر شخصية الصحفي في كتابة هذه السيرة المفترضة، فحاول ان يوزع مادة سيرته على ذكرياته في السجن ، لكي يبدد الرتابة ويخفف من محدودة المكان وانفتاح الزمان وتنوع الاحداث ،لكي يمنح السيرة قوة اضافية مؤثرة، فبث الحياة فيها، بحيث لا تبدو جميعها سيرة للألم وحده، وانما سيرة للأدب، لان السيرة جنس نثري يحتاج الى مران وتجربة عاليين ، لهذا فانّ غالب الادباء يكتبونها في اخريات حياتهم ، مع الاعتقاد بان ثمة كتاب محترفون في كتابة سير غيرهم، على ضوء الوثائق والاحداث، بطريقة لها ابعادها. لقد حاول الكاتب ان يبدو منسجماً مع الاحداث وهو يدونها او يتعرش لها بطريقة ما، بعد ان استفرغ الكثير من الوجع الذي يعتمل في اعماقه، حتى تبدو ذكرياته عن السجن موضوعية ومتوفرة على مواصفات السيرة الذاتية. لهذا ربط الكثير من الاحداث بسيرته الشعرية وقصائده التي تناولت الوجع الاجتماعي العام الذي ساد حياة الناس تحت ظروف الحصار، حتى كانت قصيدتاه: (هذا خبز)، و(الملائكة على شرفات مستشفى الاطفال) من القصائد التي تؤكد على تجاوز الاستهانة بالإنسان الى حدها الاقصى ، حيث ساد نوع من (( الارغام غير مباشر (...)، الاضطراب من اجل الخبزة مقابل الشعر تافه))(ص142). ومن صارت الورقة والقلم التي اعطيت له لكي يدوّن افادته / اعترافاته، مأزقاً كبيراً في الكتابة المسيئة للذات، وعقدة ظل ينافح من اجل تجاوزها، حتى خروجه من السجن؛ فهو بفضل ثقافته الماركسية كان يرنو الى ما كتبه دستويفسكي في كتابه (ذكريات من بيت الموتى) وبه يؤرخ لسنوات سجنه ومعاناته في الاشغال الشاقة؛ في نوع من السيرة التي تجمع بين كتابة السيرة وكتابة الذكريات وليس كتابة المذكرات، مع ان العديد من الروائيين يستلهمون سيرهم في الكتابة بطريقة او بأخرى ،وهو ما يؤكده قوله: (( قرأتُ قبل سنوات كتاباً هو اقرب الى سيرة مثقف وجيل وضعه الشاعر والكاتب فاضل العزاوي؛ وحين كان الشاعر يتحدث في هذا الكتاب عن عذاب سجن بعقوبة وسواه من سجون دكتاتوريات الستينات العراقية، كنت فعلاً استشف العذاب المعنوي لشبان مثقفون يوضعون في سجن ولكن هذا العذاب سيكون فردوساً مع تطور انظمة السجون وعذاباتها وتحطيمها الكرامة الانسانية ))(ص156). ولكن هذا الطموح كان سراباً في بلد مثل العراق. ولهذا منح نفسه فرصة اطول قارب العشر سنوات او يزيد عليها، حتى انه انجز هذا الكتاب بشكل ينسجم مع اعتقاده الراسخ بان مثل ظروفه تلك (( يبقى للوجود الانساني رائحته السرية التي لا تستنشق ولكن تعاش))(ص167).

-5-
وقد قاده هاجس تدوين السيرة الذاتية الى الانتقال نحو كشف ملابسات الكتابة نفسها، او الكشف عن خفايا خاصة بطريقة كتابة القصة القصيرة؛ فقد كشفت اسرار كتابته لقصيدة(هذا خبز) عن مواقف لها صلة بسيرته؛ مما يجعل السيرة الشعرية مرتبطة بشكل او بآخر بسيرته الذاتية، فقد أرخت القصيدة لمعاناته ومعاناة زوجته في الحصار والبحث عن لقمة العيش، وللإحساس الرجل المحبط ،حين يعمد الى كتابة قصيدة بخمس ساعات متتالية، والتي قال عنها: (( لم اكن خلالها اكتب بقصد الشعر، لم افكر بعمل شعري، كنت فقط اريد ان اكتب. ربما كنت اسعى الى كتابة حرة تعيدني الى هدف الشاعر الرافديني الاول الذي كان يريد تحقيق الشيء وايجاده عب سحر الكتابة. لم يجر ايّ تبييض للنص الذي كتبته، لم أغير شيئاً فيه .كنت اكتب بتدفق غريب، كنت اضطر فاقطع هذا التدفق مرّات فأتوقف ،كما اعتدت في كل ما اشعر اثناء الكتابة بإرهاف جسدي ونفسي شديدين))(ص215).
يمكن ان تعد هذه القصيدة من قصائد السيرة، التي تلتقي مع ذكرياته هذه، لهذا استحوذت على مساحة مناسبة منها؛ فكان يحاول ان يخفي هذه العلاقة بين سيرته وبين القصيدة، في حوارته ، لأنه يعتقد بان كرامته ككاتب تمنعه ((عن اعطاء اجابة ناقصة ولا مجال حينها الا لإجابة ناقصة تحذف تفاصيل العوز ومحنة العيش بلا متطلبات اساسية. لكن انا اروي بعد هذه السنوات ظروف القصيدة وحكايتها بعد تغير كل شيء))(ص215).
وهنا تمتزج لديه كتابة الذكريات بالتاريخ الشخصي المرتبط بكتابة القصيدة ن بحيث يستثمر سيرته وحياته وموقفه الساسي، من اجل تدوين الظرف النفسي الذي كان يعتمل في دواخله الذي يحيط بملابسات كتابة القصيدة، التي ترتبط بجزء مهم من حياة الناس في ظروف الحصار الصعبة ،الا هي لقمة الخبز في عقد التسعينات ،لان الشاعر ضمير اهله ومجتمعه مهما كثرت التسميات.

-6-
لقد اختلطت لكتابة عن السجن بآدب السجون وذكريات الآخرين عنه منذ القدم، فكانت لغته المتميزة الحذرة الذكية تحاول تدوين تلك السيرة بطريقة مضمرة، ولعل من اغربها واكثرها حياءً ما كانت تفعله زوجته ام حيدر من اجل توفير لفافات السجائر اللف، لذا كان يقول عن اللغة: (( اللغة مشكلة كبيرة بقدر ما هي حلّ كبير))(ص313). وهو في معرض الحديث عن اسلوب التفاهم مع(الحاج حسين) الزائر الايراني المسجون معه في الزنزانة، الذي لا يعرف سوى اللغة الفارسية. وربما كانت هذه اللغة نصب عينيه وهو يتأمل ادب السجون الذي يعبر بطريقة او بأخرى عن وحشية الانسان اتجاه اخيه الانسان ،وبدا هذا التفنن (( وكأنه شكل من مازوشية تستعيد، بسعادة داخلية(حتماً غير مقصودة)، آلامها من اجل تمسكها بنبل قضيتها اواي شيء آخر))(ص99).
لقد كانت الصراعات السياسية واحدة من الاسباب التي تدفع السلطات الى انتهاك حقوق الانسان بشكل مدمر، لا يمت الى الادب والتاريخ الانساني بأية صلة، فقد كان الكاتب يستحضر السجون عبر التاريخ في ظل الدولة العربية- الاسلامية، فقد حفظ لنا التاريخ الكثير من (( طرق التعذيب، ووسائله والتلذذ الخفي في روايتها ، في القليل هي توفر غطاءً نفسياً تبرر معه للطغاة قسوتهم في حياة كثيراً ما تعود الى التاريخ والسلف لتلتمس منهما شرعيتها))(ص101). وهو ما يحاول دائماً ان يخلق شيئاً من التوازن بين السيرة الذاتية، والواقع المحيط به، والتقاط المشاهد التي لها صلة بأصدقائه من الادباء وظروفهم بحيث لا يبدو عمله ذاتياً، بقدر كونه سيرة جماعية لمجتمع عاش تحت ظل ظروف قاسية ؛ لهذا جعل لكل من زملائه في السجن نوعاً من الترجمة التاريخية القصيرة، وهي ترجمة واقعية كما يبدو ذلك منها، ثم حاول خلق شيء من التوازن بين السيرة والصورة، اما عبر استذكار السينما او التماثيل او اللوحات والصور الاخرى، كما في اشارته الى نصب الحرية لجواد سليم، المقام في ساحة التحرير بالباب الشرقي ببغداد، والذي وضع (( جندياً في قلب النصب العظيم وهو يحطم ابواب السجن لتنطلق طيور الحرية والسلام))(ص 125). لان هذا النصب بقي مهملاً من تطبيق حقوق الانسان حتى الان، على الرغم من الشعارات والمحاولات المتعددة لتفعيلها، وان جعله معظم الحكام الذي توافدوا على السلطة رمزاً وطنياً يرتبط بثورة 14/ تموز/ 1958م، فكان استحضاره يوازي استفادته من فيلم(التجربة) لمخرجه الامريكي(بول شويرينغ)، والذي وصفه بانه (( جمع فيه ستة وعشرين شخصاً توزعت بينهم ادوار السجناء والسجانين من اجل مراقبة ما يحدث من تغيّر على سلوكهم(...) لم يكن الفيلم نتاجاً لخيال مؤلف ومخرج لكنه كان يستلهم تجربة عملية قام بها فريق من باحثين مختصين وطبقوها في سجن ستانفورد عام 1971))(ص157).وكذلك الحال مع ما تذكره عن فيلم (الفراشة) الذي رأى في الحاج حسين انه يشبه (ستيف ماكوين)؛ بالمقارنة مع فيلم (الايام الطويلة) الذي انقذ الشاعر عبدالسادة البصري من الموت، لان رجل الامن الذي يحقق معه مثّل فيه دور البطل. وهنا تقف اللغة بكل وسائلها وقدراتها في خلق العلاقة بين القارئ/ المتلقي ومنتج الثقافة، بكل تفاصيلها، ومختلف منعرجاتها؛ لان هذه السيرة منذ صورة الغلاف تحاول ان تحيلنا الى اجواء العتمة وبصيص خافت من الامل.