سفيتلانا ألكسيفيتش..الأدب بين الواقع والمُتخيَّل والواقعي المُتخيَّل

سفيتلانا ألكسيفيتش..الأدب بين الواقع والمُتخيَّل والواقعي المُتخيَّل

حـــازم ســـــعد
سنة 1857 أُصدرَت رواية مدام بوفاري، ووُصفَت حينها بأنها أول عمل روائي"واقعي”، خالِ من الغرائبيات، وكل ما هو خارق أو مخالف للطبيعي، لكن رغم اختلاف الناس على أن عمل جوستاف فلوبير هو أول عمل روائي واقعي"رومنطقي”، إلا أنهم متفقين معنا أنه -وما حذا حذوه- ليس توثيقيًا أو مبنٍ على أحداث حقيقية، وبعيد عن درب السيَّر، والاستقصاء الصحفي للوقائع.


سنة 2015 تُمنَح سفيتلانا ألكسيفيتش جائزة نوبل للأدب"عن كتاباتها متعددة الأصوات التي جسدت المعاناة والشجاعة في عصرنا”.
سفيتلانا تقوم بتوثيق الحدث مع من عاصروه"مثل حادث تشيرنوبل أكبر كارثة نووية شهدها العالم"دون تدخل صوت الكاتب المبدع مِن تحويل لمسار الحكي، أو حبك المفرَّد من موضوعات على لسان من تحاورهم.

واكب فوز أليكسيفيتش ثورة عارمة من الكُّتاب مفادها أن ما قامت به من تحقيقات ومراسلة صحفية وتوثيقات ليس"أدب”. باعتبار أن الأديب -وسارد القصص والحاكي والقاص والراوي- يُقاس درجة اتقانه لحرفة الحكي بمدى إعماله للخيال، حتى حين يحكي بواقعية، أو عن شيء من الواقع، فلابد أن يبني عالمًا مشابهًا للآخر الحقيقي. يبني واحدًا منقحًا، ليس فيه وصفًا لشيء ليس له علاقة بمضمون روايته. يبني شخصيات يساعدونه في إخفاء عظام أفكاره، ويضمرونها تمامًا ليهضمها القارئ دون أن يراها.
الحكَّاء الفذّ عندما يريد أن ينَّفِر القراء -أو المستمعين- من الحروب وعواقبها"مثلًا”، يسلك واحد من طريقين لا ثالث لهما:
-أولا أن يبني عالما من الخيال، ثم يقسمه شطرين، ويخلق نزاعًا بين قوم شطر، وأقرانهم في الشطر الآخر، ثم يضيِّق العدسة لحقل زهور يفصل الشطرين. تقوم الحرب فوق هذا الحقل، وما به من زهور، ومخلوقات. من بينهم مجموعة من النمل بنوا بيتًا للبيات الشتوي، وأرهقهم جمع مؤونة الشتاء فيه، وهمُّوا يغلقوه دونهم. حتى قامت الحرب فدهست بيتهم، وقتلت أغلبهم، وذهبت بتعب الشهور هباءً، ولا ضرر من أن يكون بين الضحايا نملةً، وبين الناجين حبيبها، ويستفيض في وصف اللقاء الأول بينهما، وأول الحب، ومشكلة ثانوية تعوق ارتباطهم كأن تكون هي ابنة نملة أعلى في المرتبة الاجتماعية، أو أن يكون هو ضعيف نحيف لا يقوى على حمل حبة سكر ناعمة وحده أو………………..
-ثانيا أن يستعير العالم الواقعي الكائن، والأحداث الحقيقية، ويعنوِّن فقراته بالمكان والزمان، بل وحتى أنه ممكن أن يسرد بين سطوره سياق الحرب، وتطور أحداثها الموازية لحياة أبطال عمله الروائي أو القصصي، وغالبا ما تكون أبطاله- أو شخصياته على وجه أعم- من وحي الخيال مثل رائعة فيكتور هوجو"البؤساء"نراه استعار العالم الحقيقي، وأحداث حقبة زمنية معينة حيث يصف وينتقد الظلم الاجتماعي في فرنسا"بين سقوط نابليون في 1815 والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب في 1832"من خلال شخصيات اختلقها من وحي خياله، تعبر عن ذلك وتمر بظروف حياتية تبرزه وتفضحه.
أما ما تقوم به سفيتلانا فهو محض تقرير للواقع دون إضمار أو مواراة أدبية، وهو شيء سهل، لكنه فج، وفي رأيي الشخصي المتواضع هو متماشٍ مع ما نعاني مِن تبلد، وانعدام التأثر بكل ما يحدث حولنا مِن مذابح، ومجازر، وفِتَن، وحُكم على الآخر المختلف وعدم قبوله، وجشع ورأسمالية طاحنة للفقراء و…………..قل ما بدا لك من خراء يؤطر الصورة البشعة للحياة.
سفيتلانا امرأة شجاعة شأنها شان كل الصحفيات الميدانيات اللاتي تعانين بدنيا، وذهنيا في سبيل البحث عن معلومة لا لتبني عليها شيء متخيل جميل الصنع، بل لتوردها على لسان صاحبها في سياق التحدث عما عاناه من سياسة بلاده مثلًا، أو عدم حكمة رؤسائه، وفي بعض الأحيان غباؤهم.
اتفقنا أو لم نتفق على منتج ألكسيفيتش سواء أكان صحافة، أو أدب، أو استطلاع رأي، أو أيا ما كان. يبقى اختلافنا على المسمى، والبعض بل أغلب الكُّتاب يضايقه ما يُكتب على صدر عمله الأدبي"رواية، مجموعة قصصية، متوالية قصصية، تمارين كتابة، شعر عامية، شعر،……………"ويرى أن في ذلك تعسفًا من دور النشر، وجل ما يريده منهم هو أن يكتبوا عنوان العمل، واسمه، واسم الدار من باب العرفان.

أما في المحتوى والجوهر فقطعًا يلتقي ما تقوم به صاحبة نوبل بكل ألوان الأدب من حيث آليات التعديل، والقص، والتقديم والتأخير، ونقطة النور، والاستراحات السردية، ووصف انفعالات من تحاورهم: بكاؤهم، وضحكاتهم، وشرودهم، وعلو صوتهم، والتفاتاتهم نحو باب المنزل مثلًا بينما يتحدثون عن الغائب.
أما في المحتوى والجوهر فقطعًا يلتف كل الكُّتاب -سواء أدركوا ذلك وقصدوه أو كان تلقائيًا- حول الحث على القيَّم، والفضائل، وينفِّروا من الرذائل، وكل ما هو ضد الإنسانية، والأخلاقيات. سواء كان ذلك عن طريق قوالب الحكي المختلفة المتباينة، أو عن طريق بلورة المأساة على لسان من عانوا منها واختبروها.

عن موقع الحوار المتمدن