الباقي كان بلا أهمية....

الباقي كان بلا أهمية....

ضحى عبدالرؤوف المل
يلتقط الروائي " باتريك مونديانو" في روايته" احاد اغسطس" والتي ترجمها لدار الساقي "صالح الاشمر" الحدث من فكرة يمدها بمشهدية يغرق فيها القارئ طويلا .اذ ينسج من الواقع تفاصيل حسية تشمل حتى العطر ورائحة العفونة وادق الحواس التي يتأثر بها القارئ. بل ! وتضعه في دائرة المشهد الذهني المثير لفكرة ،

ولوجدانية الرواية وقدرتها على خلق الصورة الخاصة المرافقة للمعنى، وبمجازية حبكها بضبط تصويري عميق روائيا من حيث الابتعاد والاقتراب من الشخوص، وكأن عالمه الروائي نابع من مخطط هندسي ذي سناريو مرئي يراه بوضوح تام، وببناء روائي سهل ممتنع وفق اخراج بوليسي وافكار تلتصق بها النزعة الرمزية نوعا ما لصليب الجنوب، وما يرمز اليه من اشكاليات عالقة وظفها بجدية في رؤاه الروائية العابقة بالبحث والرصد والتمثيل الادبي وفق انعكاسات المواقف التخيلية التي تضج بالحقائق المخفية، وبوعي روائي ذي ايحاء يتخطى من خلاله البُعد الرمزي بالغموض والمعطيات الفكرية. لتكوين صورة للحياة الدرامية من حولنا مع الاهتمام بتفاصيل الاحداث التي تستقر في ذاكرة كل منا، فهل من نغم روائي حافظ عليه "باتريك مونديانو" في هذه الرواية وابعادها الادبية والفنية؟
حارس الذاكرة ولقطات من الاجواء الفوتوغرافية لتصوير اهتم ببدقة شديدة به، وكأنه ينظر من ثقب عين سحرية على تفاصيل فيلم يسترجعه من خلال ذاكرة الرواية التي قصها واعاد ترتيبها تبعا للمشاهد وحبكتها دون الاهتمام بالشكل الروائي، وكأنه يثق تماما بحنكته الروائية التي يمسك بها القارئ. لتكون بمثابة رؤية فنية ناشطة حسيا بشخوصها وبساطتهم، وان بلغز يحاول القارئ فك شيفراته. الا انه يصل الى النهاية ليدرك ان صليب الجنوب ما هو الا رمزية غارقة باعلام الدول التي تحتوي على هذه الكوكبة من النجوم ،والتي تسمى صليب الجنوب، لانها كالماسات تلمع في السماء، وهي كلك على صدر سيلفيا التي ارادت امتلاك صليب الجنوب، الذي ادى الى اختفائها وربما حتفها او رحيلها وما بين الخيانة والوفاء وحب الامتلاك احاسيس غارقة بالقلق والخوف " اعتبارا من هذه اللحظة في حيااتنا بدأنا نعاني من القلق، ومن احساس متفش بالذنب والايمان بأن علينا أن نهرب من شيء دون ان نعرف ما هو." فهل اطماع الدول بالامتلاك وبالحروب يشبه امتلاك صليب الجنوب والشؤم الذي يرافقه؟
ابدع "باتريك مونديانو" في حبكة روايته واسقطاته السيميائية التي تحمل فكرة مجازية اكتست بالحدث الذي شغل به المشاهد بل! وترك القارئ في متابعة دقيقة مخافة انفلات المعنى او ترك الفكرة، فتتقطع الاحداث وتصاب المشاهد بخلخلة . اذ اعتمد مونديانو على بناء المشاهد بقوة تصويرية ذات مفاهيم فنية لها نسيجها الابداعي القادر على خلق جمالية لا تخلو من بوليسية تستفز القارئ لملاحقة المشهد تلو المشهد خصوصا المشهد الاخير قبل اختفاء سيليفيا . اذ اتسع افق التخيلات بعد اختفاء سيلفيا لمعرفة الحقيقة التي تدعو الى الاستغراب خصوصا عند بداية الرواية قبل نهايتها. لان العقدة بلغت ذروتها في النهاية، وكأن الحدث يتكرر كما الصورة الفوتوغرافية التي تنسحب من الذاكرة وتعود اليها عبر شخوص اخرين ووجوه تتشابه كما الاسماء والاشياء الاخرى في الحياة، وما على القارئ بعد ذلك الا العودة الى البداية بالتفافة حيث :" اصبح للاشياء ، مع تقادم الزمن معنى آخر عنده وعندي."
رواية منسوجة ذهنيا على ذاكرة مخضبة لدول قام بترميزها، وترك لصليب الجنوب ماسته التي تحتاج الى اعادة نظر في ترتيب امتلاكه او انتظاره. ليكون ضمن شهر اغسطس حيث يرفرف كما الاعلام التي تحتوي على هذه الكوكبة او الصليب ، وان بذرة الشر في النفس موقعها شبيه بموقع النجوم او اعلام الدول ذات الاطماع الستراتيجية او التي تتالى الحروب فيها والاحتلالات ، او التي تصاب باطماع تجعلها كما فيلكور ، ونحن في الحياة لا نحتاج الا لعمر شبيه بشهر اغسطس حيث " كنا مثل سائر الناس ، لاشيء يميزنا عن الاخرين" فهل يحاول الايحاء بالعودة الى فطرة الانسان التي يحتاجها لحيا بوئام وسلام ودون الخوف من شىء يستحق؟ ام انه حاول منح الرواية صفة ادبية بحتة وهي تعالج ذاكرة الماضي الذي ارخى بثقله على المستقبل، وطريقة رسم الحياة كشريط سينمائي نحتاج دائما الى اعادة رؤيته من النهاية الى البداية؟..
تستحق الرواية الغوص في اعماقها ، واستخراج كنه الملصق الروسي، والكثير من المفردات الى غمسها بحبره السري . لتكون بمثابة الماسات او نقاط صليب الجنوب المستتر الذي تركه كنقاط يتم اكتشافها تبعا للقارئ وقوة ملاحظته، وبحثه عن صليب الجنوب في عمق الرواية. لهذا ترك للعنوان وضوحه وقوته او بالاحرى الاطماع الناتجة عنه، والعقدة او بالاحرى القطية المخفية في رواية ارادت منا اكتشاف اخطاء الماضي ببساطة تنم عن رؤية لحدث ما من بعيد، فما نراه عظيما بلحظة ما قد نراه سخيفا بلحظة اخرى " ان مرور بضع سنوات يكفي للقضاء على الكثير من الادعاءات " حيث يكشف الزمن عن الحقائق عبر التاريخ ، فتتغير نظرتنا نحو الاشياء ، فهل رواية (آحاد اغسطس) هي مسألة محيط ومشهد؟