بوريس باسترناك.. كتابة نقدية في أجواء المكاشفة

بوريس باسترناك.. كتابة نقدية في أجواء المكاشفة

ليف أوزيروف/ شاعر وناقد
ترجمة: علي عبدالأمير
كون بوريس باسترناك أكبر من مدرسة، انه فضاء ثقافي وعالم الشعر الذي لا يستطيع تجاهل شاعر ما، كيف سيبدو دون شعر باسترناك؟
ان المعنى السمح للكلمة التي كُررت حــدِ الإبتذال (التقوى, التفاني) يوصلني بدقة الى ما أشعر به وأنا أتناول بوريس باسترناك... لقد أفنى حياته وهو يتعامل بخشوع وتقوى مع مشاغله وطاقته الإبداعية الخلاقة كانت تشع ذكاءً باهراً وما إنعكس منها كان كافياً لتزويدنا بفكرة جيدة عن قوته الحقة.

ومفردة (القوة) هنا هي التي نعرفها نحن بكونها (الموهبة) كلمة لم يكن باسترناك يمتلك إزاءها إلا الإستهجان ولكنها كانت قوة أوصلته الى النبوغ.
معاً على حافة الهاوية
في عام 1935 إلتقيت باسترناك أول مرة بشارع فولكوفانس – موسكو – بعد محاولتين فاشلتين كنت اقترب فيها من باب منزله لكنني أعود راثياً حيائي السخيف وخجلي الأخرق, وفي المرة الثالثة أوصلت كل ما فيَّ من شجاعة نحو جرس الباب كي أضغط عليه، إنفتح الباب بشكل مفاجىء وبما جلب لي الذعر.
لقد تسمرت في نقطة الدخول وقبالتي (بوريس باسترناك) في الخامسة والأربعين, شاب بعينين ناريتين تشعان لهباً أزلياً في حب الحياة, أخذني الى غرفة مظلمة كبيرة وجلسنا قريباً من نافذة تنفتح على هوة كانت منذ فترة قريبة مشهداً لكاتدرائية (المسيح المنقذ) المشهد الآن فراغ عقيم وحزين ويجلب الحنق والغيظ.
لقد توقعت ان أقضي قرابة نصف ساعة لكنني قضيت أربع ساعات بعدئذ! لن أحفر في تفاصيل حديثنا فقد لامسنا العديد من الموضوعات, انها كانت تنفتح على بعضها بسبل تبدو غير متوقعة وطريقة باسترناك في التخاطب والتقطع في الكلام كانت سبباً في ذلك, لقد أخذت تماماً بالطريقة التي يتحدث بها ويعبّر فيها عن أفكاره.
باسترناك كان يبحث عن مفردة مناسبة تقابل ذلك النوع من الهزيم الداخلي, يبحث عنها بعيون مفتوحة محاولاً صيدها من (اللفظ الرتيب للمفردة) صاعداً بها نحو قوته التعبيرية.من هنا يمكن معرفة ليس فشل خطابه الأدبي في الإنضمام الى قوالب الثقافة السائدة حسب، بل محاولته تهشيم تلك القولبة بجرأة مبهجة.
لقد أثارني وأنا اراقبه منغمساً في عمله – كما تشهد ولادة خطاب حي يتدفق محدثاً خريراً من الإنفعالات الحية! لم يحدث من قبل ولا بعد ان استمعت الى حديث بمثل تلك الطريقة – انه يبدو مغذياً للذهن, ويظهر ما الذي على الشعر ان يشبه في كينونته حتى يعلن مهمته في الحياة. لقد تابعت حديثه، لفظه للكلمات، كنت حين أقول (وردة) يقول"ماتيولا"– وردة تبعث بعطرها في المساء وساعات الليل – انه جمال ليلي يطوف على تلك الوردة الفواحة من النرجس النادر.
لقد حملت أفضل ما عندي من نصوص, وأستلّ احدها من الملف: كانت نوعا من الشعر الذي حمل اليه سعادة هانئة, وفي نظرة مركزة على نقاط الأفضلية في كتابتي تمكن من إنقاذي من التكرار المضجر للعمل بطريقة (الألفباء) في الأدب.
لم يتفوّه بالنصيحة المبتذلة الدائمة: أقرأ الكلاسيكيات, وما كان يرغب في إيضاحه حقاً هو في قوله: التجارة تتطلب الدراسة والتعلم بينما الفن في أعلى أشكاله يمضي في الإتجاه المعاكس ويُحذر من أساليب الدراسة البدائية.
في حديثه كنت أستجلب المعاني بين السطور، السطور القليلة وهذا ما منح نقاشنا بلاغة كبيرة, مضى في اتجاه الجدية وصار الحديث متزمتاً وصارماً وغالباً ما وصل درجة من التأرجح الدرامي, باسترناك لم يبق سراً عن نفسه, وكشف عن الإتصال الذي يديمه مع الآخرين, سماعه للموسيقى وقراءاته: قصائد نيكراسوف، أندريه بيلي، تيتسيان تابيدزه وسوناتا شكسبير السادسة والستين، كذلك شيء من موسيقى سفياتوسلاف لايختر.
حياة باسترناك الشخصية والخلاقة كانت تمضي في اتجاه كأنها درب عاصف ومليء بالمفاجآت – أصبح موضوعاً نيل منه بهجوم متواصل قبل سنوات الحرب, لقد آلمني ان أرى لا عدالة الموقف الفظ الذي قوبل به الشاعر من دون وجه حق وحكم الإدانة الإجتماعية تبعتها موجة الإزدراء الذي تعرّض اليه... وكانت أعماله ما تلبث ان تصدر روايته (دكتور جيفاكو) والنذالة حاصرته حسب تعبير ابنه"يفغيني باسترناك"مع نهاية عام 1958 على إثر منحه جائزة نوبل للآداب.