صيف كلنكسر الأخير

صيف كلنكسر الأخير

صورة للإنسان المعاصر بكل تناقضاته

بغداد/ أوراق
برغم حبه للحياة والعمل والانجاز، واعتقاده بضرورة احترام حرية الانسان في اختيار مساره بايمانه وارادتة، إلا ان رسائلة التي تضمنت تمنياً للموت، اثارت حوله شكوك الانتحار. احداث نتابعها في رواية (صيف كلنكسر الاخير) للكاتب هيرمان هيسه والصادرة عن دار (المدى) للثقافة والنشر بترجمة ستار سعيد زويني.

الحكاية أوسع من رغبة فنان يعيش ويعشق ويحلم ويرسم, هي فضاء تشكيلي يزخر برومانسية انكشافات شعرية للكاتب وعلاماته الثقافية في الأماكن الواقعية أو المتخيلة وسجاله مع رسامين ومؤلفين موسيقيين وروائيين.. في تلك العزلة يستنزف الشاب الرسام كل طاقاته وحواسه وينهي آخر رسومه، يصغي الى نفسه والكائنات من حوله، وثمة حوار وصراع ومقارنة وتحليل، أو البحث عن ماهية الحياة والموت. وبحث عميق وجاد عن أدوات علّها تعينه في الانتصار على النهاية المحتومة للانسان، ومثل أي مبدع، تارة تتجمع الانكسارات والهموم التي تعمق الحزن والكآبة بعد أن تغلق كل الجهات فيصرخ بشيء من الأمل:" اشربي نخبك ايتها الأشياء الرائعة في العالم، أنا الأكثر زوالا، والأكثر أيمانا، والأكثر حزنا، الذي يعاني خشية الموت أكثر منكن جميعا". ولكن، بعد أن تخمد الكآبة ويستعيد عافيته يطل على العالم من جهة أخرى، وأيضا مثل أي فنان حقيقي يرى نفسه مخولاً بوضع خارطة جديدة لحركة الحياة والكون فيطلق صرخته: "لقد أطلقت النار على الموت بالألوان". واستطراداً على هكذا سلوك أو طريقة عيش، يسرف كلنكسر في شرب الخمر عندما يمتلكه الحزن والشعور بالوهن. يمضي في سبات عميق محاولاً تمزيق الظلام:" كل الأطفال المساكين وأنصاف الآلهة الأوغاد يشبهون كلنكسر الثمل . أيتها الحياة أحييك وأحييك أيها الموت الحبيب".. وبعد مدة من المعاناة يخرج باعمال تتوج ذلك الصراع على أحسن وجه. مبدع ينصت لهسيس الذات والعالم, يصالح الموت ويقاومه في الوقت نفسه، امضى الرسام كلنكسر صيفه الأخير من حياته وهو في الثانية والاربعين من عمره في تلك الاقاليم الجنوبية بين ضواحي بامبامبيو وكارينو ولاغونو التي احبها كثيراً وكان يزورها على نحو مستمر حتى انهى فيها آخر رسوماته، لوحة اقتصرت على ألوان قليلة مشرقة بين الاخضر والاحمر والبرتقالي. توجه الى فراشه منهكاً، أطفأ المصباح ملتمساً النوم وهو ينشد لنفسه: "قريباً تندب الريح عند قبري الداكن". وفي الرواية ثّمة شخصيات لا تقل غرابة عن كلنكسر مثل صديقه الرسام لويس الذي تسكنه روح المغامرة والتجوال، روح قلقة، يراه كلنكسر أمامه بعد ان يودعه ظاناً لن يراه أبداً، فيدخلان معاً في حوارات جادة عن ماهية الرسم ومدى جدواه، ولويس هذا الذي يسكنه القلق، له قابلية غير عادية على التأمل لأيام عدة يجلس في الحقل على كرسي الرسم في ظل اشجار الكمثرى والخوخ، ولم يكن يرسم، بل يفكر وقد أحتفظ بالورق مثبتاً على حامل اللوحة.. يدير الكاتب الحوار بين شخوصه بحذق فيقدم حواراً ساخراً رائعاً فيه تلميحات ذكية تنطوي على ايحاءات عميقة مع وصف باذخ وسرد جميل.. كلنكسر الرسام المسكون بالموت والميلاد، بالزوال والتفسخ وغوايه الانبعاث، لكن صورة البطل الفنان والعاشق في مساء عمره الجميل ستنفتح على أمنكة وأزمنة, بل على تساؤلات جوهرية، لماذا كان الزمان موجوداً? لماذا يكون هذا التعاقب الأبله للأشياء? أو محاورات حول تغيير المصير, وإرادة الحرية وتأويلها مع أصدقائه الأربعة. يذكر كلنكسر أنه أثناء طفولته في سن الثانية عشرة لعب مع أقرانه لعبة اللصوص, كان هو ذا الأرواح العشرة وكل لص بعشرة أرواح, فإذا ما أمسك الخصم به أو أصابه برمية من رمحه, يفقد روحاً واحدة, وتستمر اللعبة ما دام يملك ست أرواح أو ثلاث أو واحدة ويخرج من اللعبة عندما يفقد الروح العاشرة, الأمر المحزن إذا انتهت اللعبة ولديه تسع أرواح أو سبع.‏ هي لعبة أطفال فحسب, لكن هيسه يجعل اللعبة مع القدر وبمعنى ما إنها قدريته فكم أبقى من حيواته العشر ثلاث أو اثنتان.‏. إن دافعه الوحشي العذب هو رؤيته وتجسيد معرفته العميقة بصبيانية كل مافعل ليجري النسغ في مئة ألف شجرة, ويتضخم الحلم أثناء غفوته إلى مئة ألف وتسير روحه بخطى واسعة في قاعة مرايا حياته, لتتضاعف كل صوره في لعبة مزدوجة على الفن والكتابة الملبية لنداءات القدر المضمرة والمكشوفة بآن واحد, إذ يقتسم الرسم كما الكلام والبوح النقي والجارح مع الموت والنسيان والنوم والصيرورة مع الطبيعة والألوان, حينما تصوغ روحه قبل ريشته الباحثة في الأقاصي والأعماق أشكال عالم الظواهر والحلم الصيفي الوامض الجنون, هل لأمور الرسم قيمة حقيقية, يتساءل لويس صديق كنكسر القديم.. والإجابة الحاسمة للطبيعة عشرة آلاف لون, ونحن وضعناها في أذهاننا فقلّلنا طيف الألوان إلى عشرين فقط ذلك هو الرسم, إننا لن نبلغ الرضا أبداً وعلينا أن نساعد النقاد على كسب رزقهم أولاً وقبل كل شيء محنة الفنان النيتشوية الإيقاع عندما يجهر بقوله هذه المدينة الآفلة تتكثف في التقاط حزن العالم، فننا مجرد بديل مؤلم، يشترى عشرات المرات بسعر باهظ مقابل حياة مضيعة وحب ضائع.


هيرمان هيسه في سطور

أديب سويسري من اصل الماني، ولد عام 1877 استقل عن اسرته المحافظة بداية شبابه معتمداً على نفسه في الانخراط بعدة اعمال قبل ان يتجه لكتابة الشعر والقصة والرواية. تضمنت قصصه موضوعات استسقاها من طفولته، وتحدثت قصائده عن الطبيعة في الغالب. كما انه كتب العديد من المقالات الساخرة حول ابتعاده عن الكتابة لفترات من حياته. وفي 1946حصل على جائزة نوبل للآداب. ومن روايته: لعبة الكرات الزجاجية ـ سدهارتا ـ تحت العجلة ـ المغامرة الأولى ـ صيف كلنكسر الأخير. وكانت وفاته عام 1962.