بمناسبة ذكرى انتصار الثورة الكوبية 1/1/ 1959

بمناسبة ذكرى انتصار الثورة الكوبية 1/1/ 1959

اليسار الأميركي .. والتحولات الثورية في كوبا

ترجمة / عادل العامل
أحد الانقسامات الأكثر حدة بين الحياة السياسية والحياة الفكرية أن تغيير الواحد لعقليته أمر لا يمكن غفرانه في الأولى و أمر محتّم في الأخيرة.ويتّسم الثبات، بالنسبة للسياسيين، بالتقدير؛ بينما يستجلب تبديل المواقف تهمة التقلب المفزعة. أما بين المفكرين، بالمقارنة،

فإن التلاعبات بالأيديولوجيات المتناقضة علي مر السنين طقس مطلوب تقريباً قبل الاستقرار على رؤية عالمية ــ واحدة أقوى للرحلة مثالياً ــ تعزز الاستعلام اللاحق، كما جاء في عرض كارلوس لوزادا النقدي لكتاب ( التناحر بشأن فيدل FIGHTING OVER FIDEL ) لرفائيل روخاس.

لقد كتب المؤرخ روخاس تقريراً آسراً بشكل غريب عن الثورة الكوبية كلحظةٍ تصادمَ عندها هذان العالمان، حين قلبت ثورة سياسية في أمةٍ القوى الفكرية في أخرى. وبدلاً من التركيز على فيدل كاسترو، و تشي غيفارا، و جون ف. كينيدي أو الشكوك العادية الأخرى المتعلقة بفترة هذه الحرب الباردة، يروي روخاس هنا قصة الأكاديميين اليساريين، الشعراء الوجوديون ( سلوكا وملبسا )، الفهود السود، والصحافيين الراديكاليين في الولايات المتحدة، وبوجه خاص في نيويورك، الذين اعتنقوا أولياً تحولات كوبا فقط لينقسموا بشأن قمع كاسترو للحريات الفردية وتحرك الجزيرة نحو المدار السوفييتي. ويكتب روخاس قائلا " إن العلاقة المعقدة بين يسار نيويورك و الاشتراكية الكوبية كانت تتذبذب بين الحس بالوعد الذي مثّلته كوبا بالنسبة إلى الليبرالية اليسارية و الحس بالتحرر من الوهم الذي نجم عن انحياز هافانا إلى موسكو ".
وقد برز التفاؤل الأولي من وعود كاسترو المبكرة. فحين قابلته صحيفة نيويورك تايمس في عام 1957، في تقرير من جبال سييرا ميسترا لهيربرت ماثيوز، أعلن الثوري الشاب أنه لا يحمل عداء نحو الولايات المتحدة، وذلك لأن نضاله هو ضد الدكتاتورية في بلده. وفي عام 1959، خلال رحلته الأولى إلى الولايات المتحدة، تعهد بأنه ستكون هناك انتخابات قريبا في كوبا، حالما تأخذ مجراها التحولات الثورة الاجتماعية لإنهاء الفقر وتحسين الصحة والتعليم، معلنا " وإني أنصحكم بألّا تقلقوا من الشيوعية في كوبا. فعندما تفوز أهدافنا، تموت الشيوعية ".
وكان اليساريون الأميركيون آنذاك ميالين لاعتبار الثورة انتصارا مباغتا في الصراع العالمي بين الدول الرأسمالية الغنية ــ خاصة تلك الأمبريالية التي في الشمال ــ و البلدان الكولونيالية أو ما بعد الكولونيالية، أكثر من كونها ساحة معركة للحرب الباردة. وقد كتب عالم الاجتماع بجامعة كولومبيا رايت ميلز في كتابه ( أسمعوا، أيها اليانكي )، " أن الحكومة الكوبية، في أواسط الستينيات، ليست شيوعية بأي معنى من المعاني المعطاة منطقيا لهذه الكلمة. ... والرجال القياديون في حكومة كوبا ليسوا شيوعيين، أو حتى من طراز شيوعي ". وعند الطباعة الثالثة للكتاب، كان كاسترو قد أعلن الطابع الاشتراكي للثورة وأشاد ــ بعد غزو خليج الخنازير الفاشل عام 1961 ــ بالبراعة العلمية للاتحاد السوفييتي، نصيره الوشيك. وقد وجد وولد فرانك، الناقد والمؤرخ، نفسه في مأزق مماثل؛ وكان كتابه عام 1960 ( كوبا، الجزيرة التنبوئية )، الذي يؤكد على أن الاشتراكية الكوبية يمكن أن تتطور لتكون مختلفة ومستقلة عن الاتحاد السوفييتي، مجرد كتاب تنبؤي، إذ بدأت الحكومة الثورية بالتطور إلى نظام قمعي بحزب واحد، وبصبغة ماركسية ــ لينينية.
وستصل الاستنكارات، ولو مع التحذيرات. فقد كتب المنشق الصحافي اليساري، دانييل م. فريدينبيرغ عن نظام حكم كاسترو منتقدا ما يتّسم به من " الخوف من الأجانب، وحملات الكراهية، والانسحاب إلى مخاوف الوهم، والاعتماد على الدعم الشيوعي، و الجيش المتضخم، و السيطرة الشديدة على الإذاعة والصحافة ". لكنه اختتم ذلك بأن مثل " هذه الأعراض المخيفة للدكتاتورية " هي استجابات للعقلية التدخلية الاستعمارية للسياسة الأميركية الخارجية. وكان المتحرك الأولي، والمذنب الحقيقي، ما يزال خارج الجزيرة؛ وبقي كاسترو معفوا عنه.
أما الشعراء الوجوديون، ويمثلهم ألين غينسبيرغ، فكانوا أقل غفرانا. وسيصوره غينسبيرغ المتأثر في الأول بلقاء كاسترو مع مالكولم أيكس في هارلم عام 1960، بأنه " قائد أميركي لاتيني آخر "، كما يكتب روخاس. وفي كتابه ( مساهمة النثر في الثورة الكوبية ) المنشور عام 1961، ينتقد الشاعر آليات السيطرة الاجتماعية التي رآها في القوانين والشرائع ضد استعمال المخدرات و اللواط ، في الأنظمة الشيوعية بالإضافة إلى الرأسمالية.وكما كتب، " ما من ثورة يمكن أن تنجح إذا واصلت رقابة الوعي المتزمتة المفروضة من روسيا وأميركا على العالم. وخلال رحلة له إلى هافانا في عام 1965، انتقد غينسبيرغ قمع النظام للكتّاب الكوبيين الشباب بل وافترض أن راؤول كاسترو شاذ جنسيا، مما سرّع في ترحيله من هناك.
ونجد روخاس أكثر نشاطا عند مناقشة الآراء المتعددة في الثورة الكوبية وسط نشطاء الحقوق المدنية الأميركان الأفارقة وقادة حزب الفهود السود بوجهٍ خاص، ربما لأن آراءهم متنوعة ويصعب تصنيفها. وكان المؤسس المساعد للحزب هوَي نيوتن " يدافع عن إخضاع قضية السود إلى قضية اشتراكية أكبر "، ويعجبه مزيج القومية والاشتراكية التي رآها في فييتنام هو شي منه وكوبا كاسترو، وفقا لروخاس. وكان آخرون مثل ستوكلي كارمايكل يرفضون أي إمكانية لتحالفات الحرب الباردة مع السوفييت أو الربط بالضرورة بين تحرر عنصري و مشروع اشتراكي، كما يوضح روخاس. بينما كان قائد الفهود السود أيلدريج كليفر يلاحظ أن قلة من قادة الثورة الكوبية كانوا سودا ويسلط الضوء على العنصرية في حياة الجزيرة اليومية وخطابها الأيديولوجي.
ومن جهتهم، أُعجب المفكرون الثوريون الكوبيون بقادة حركة الحقوق المدنية السود في أميركا، إلى حد تكريس عدد كامل من " بينسامينتو كريتيكو "، وهي صحيفة يحررها فلاسفة كوبيون وماركسيون، لحركة القوة السوداء في عام 1968، حيث نشر مقابلات صحفية مع كارمايكل، ونيوتن وآخرين. وقال فيه المحررون " لقد كان النضال الثوري للسود الأميركيين يبيّن أن من الممكن ضرب العدو في قلبه المتطور تكنولوجيا ".
ونلاحظ هنا أن المؤلف يقدم لنا بعض الشخصيات بشكل متكرر أحيانا. وهو أمر يمكن التسامح معه حين يقدم لنا جماعات مناصرة يسارية غامضة نسبيا في نيويورك. وعلى كل حال، فإذا ما تساءلتَ عن الكيفية التي أثّر بها نشوء الفكر اليساري في نيويورك بالحكومة الكوبية أو سياسة الولايات المتحدة تجاه الجزيرة، فلا تنظر هنا وإنما في مؤلفات أخرى. فروخاس يقر مبكرا فيما يتعلق بذلك " أن مناقشات نيويورك النقدية بشأن الثورة الكوبية كان لها تأثيرات قليلة بصورة طبيعية " على مقاربة واشنطن لكوبا.

عن / The Washington Post