أوبرا بغداد للمعمار    رايت.. تمازج الحلم...بالعمارة

أوبرا بغداد للمعمار رايت.. تمازج الحلم...بالعمارة

د. خالد السلطاني
من المعلوم ان كثيراً من المعماريين العالميين، قد تمت دعوتهم، في الخمسينيات، للمساهمة في إعداد تصاميم مبانٍ ذات وظائف مختلفة، أُريد لها ان تنفذ، وقتذاك، في العاصمة العراقية- بغداد. وهذا الحدث المعماري، وأعني به دعوة معماريين مشهورين لإعمار مدينة واحدة، كان حدثاً نادراً ورائدا في تاريخ العمارة العالمية (سيتكرر انموذجه، لاحقا، في سنة 1957 في برلين بالمانيا الغربية).

من بين المعماريين المدعويين كان المعمار العالمي الامريكي"فرانك لويد رايت"(1867-1959)، الذي كُلفّ بتصميم مبنى"اوبرا بغداد"(1957). وقد امتلك ذلك التكليف، ايضاً، ريادته وأهميته الكبرى.
فعندما فاز"يورن اوتزن"المعمار الدنماركي المغمور وقتذاك، في مسابقة"سدني اوبرا هاوس"، كان فرانك لويد رايت المعمار العالمي الاشهر، مشغول، بالتزامن، في إعداد تصاميم"اوبرا بغداد"(1957). وفي حين عدّ، لاحقاً، مبنى"اوبرا سدني هاوس"بعمارته المميزة، ايقونة بصرية للمدينة التى يتواجد فيها، بل"ايقونة"للدولة باسرها، شاءت الظروف القاسية والظالمة وغير العادلة، ان تكون تصاميم مبنى"اوبرا بغداد"نهباً للنسيان، والضياع والإهمال والتجاهل وحتى الاستخفاف! وبالتالي فقدت بغداد احد أجمل تصاميمها، الذي لو قدر تشييده، لكان احد اهم عمائر القرن العشرين بأكمله!
اختار فرانك لويد رايت نهايات القسم الغربي من الجزيرة النهرية، التى دعاها"بجزيرة عدن"بدلا من اسمها الشعبي الدارج"جزيرة ام الخنازير"، لتكون موقعا لـ"مبنى الاوبرا". المتضمنة قاعة واسعة تسع 3000 مقعد، مشغولة مع أحياز ملحقاتها ضمن مخطط دائري يحيط به رواق خارجي معمد. وتلتصق بهذا الشكل الدائري كتلة ذات مخطط شبه دائري، كناية عن فضاء المسرح. اما فضاء القبة السماوية"Planetarium الموجود ضمن كتلة الاوبرا فقد تم توقيعه في طابق التسوية، اسفل كتلة القاعة الرئيسة. يرتفع سقف الاوبرا عاليا بهيئة خيمة، يعلوها شكل هرمي مجوف، ذو فتحات دائرية واسعة في كل جهة من جهاته الثلاث، ويعلو هذه الفتحات صف آخر من فتحات دائرية اخرى اقل مساحة، تنتهي بسارية شاهقة ترتكز على قمة الشكل الهرمي. وقد وضع المصمم تمثال"علاء الدين والمصباح السحري"داخل حيز التجويف الهرمي، على قاعدة يسندها سقف المسرح. ثمة مسلة Obelisk باسقة واقعة بصورة طليقة ومنفردة بجانب يمين المدخل الرئيس للاوبرا.
تحيط بكتلة الاوبرا بركة ماء بمنظومة شلالات تسقط مياهها فيها عبر مستويات مختلفة؛ وبالاضافة الى ذلك ثمة"سقـايتان"Aqueducts اثنتان منحدرتان من سطح الاوبرا نحو البركة، يجري الماء فيهما نحو الاسفل. وهاتان السقايتان مرفوعتان بواسطة عقود تشكل فتحات اقواسها دائرة كاملة، وقعتا على يسار ويمين المدخل الرئيس، في امتداد خط القطر المنصف للمخطط الدائري. وتلي البركة المائية منطقة خضراء مشجرة تحيطها من جميع الجهات ثلات حلقات دائرية من الشوارع العريضة موقعة الواحدة فوق الاخرى بمناسيب مختلفة. تم تصميم حلقات الشوارع بإزاحة واضحة نحو الخارج، وظفت أحيازها المظللة كمكان لمواقف السيارات.
يتم الوصول الى المدخل الرئيسي للاوبرا عبر مرقاة Ramp متفرعة من الشارع الحلقي العلوي الثالث. واختير مكان توقيع المدخل ليكوّن نهاية امتداد الشارع الرئيس الاتي من الشمال والمار بمحاذاة مبنى المطار المدني والمحاذي ايضا لموقع مشروع المجمع الرياضي بالكرخ (الذي أنيط تصميمه الى لو كوربوزيه في 1957) ولينتهي عند مدخل الاوبرا، متجاوزاً كتلتها بمحور افتراضي باتجاه مكة، تاق المعمار الى تأكيد أهميته التصميمية موظفا اياه في تحديد مفردات التكوين الفضائي- الحجمي لمشروعه.
تهيمن الأشكال الدائرية في حضور بليغ على جميع مفردات تصاميم المركز المدني الثقافي البغدادي. ويكاد يكون"الفورم"الدائري هو الشكل المفضل لدى المعمار في تناوله لمشكل معالجة أحياز وكتل تلك التصاميم وما يحيط بها من فضاءات مفتوحة. ثمة طرق دائرية منتظمة، وثمة أشكال مبنية دائرية منتظمة، وثمة أنصاف دوائر بجانب دوائر اخرى تحدد هيئات مفردات تنسيق الفضاءات المفتوحة. وما عدا كتلة السوق المركزي ومبنى متحف المنحوتات القديمة الموقعيّن بالقرب من مبنى الاوبرا، فان الشكل الدائري هو الشكل الطاغي في جميع تشكيلات المخططات الباقية؛ ان كان ذلك لجهة المعالجات الكتلوية للمباني المصممة، ام لناحية تنظيم الفضاءات المفتوحة. يشار الى ان ولع رايت في الشكل الدائري هنا: في تصاميمه البغدادية، مرده الرغبة في استدعاء"اميج"المخطط الدائري لبغداد المنصور، الذي يعود تاريخه الى منتصف القرن الثامن الميلادي. اي نحن امام فعالية تناصية Intertextuality مميزة، يجريها المعمار بغية اثارة احساسنا بتنوع المرجعيات المعمارية التى يتكئ عليها. لكننا، نعتقد، بان ذلك ليس الباعث الوحيد لتلك المعالجة. فمن المعروف ان الاشكال الدائرية، قد انحسر استخدامها كثيرا في التكوينات التصميمة الحداثية منذ ان اعلن لوكوربوزيه (1887-1965)"بيانه"حول (شاعرية الزاوية القائمة) في العشرينيات من القرن الماضي، وتبعه كثر من رواد عمارة الحداثة ومقلديهم في تبنيهم لذلك"المانفستو". لكن رايت لم ينجر بسهولة الى تلك البيانات المؤطرة للفعالية المعمارية، والمحددة من تشكيل فورماتها.
تتيح آليات النقد الحداثي الان،"رؤية" العمارة المرصودة عبر رؤى جديدة ومبتكرة، بمقدورها ان تثري قيمة المنجز التصميمي، وتظهر نجاحاته الاسلوبية. وتوفر المقاربة النقدية التفكيكية امكانية قراءة"نص"العمارة المبتدعة بالاضافة، طبعاً، الى رؤيتها كـصور Images بصرية. بيد ان حدث"القراءة"تلك لا يفتأ ان يظل دوماً عرضة لفعاليات التأويل Interpretation التى يجترحها"المتلقي"(وهو هنا: ناظر العمارة). ومثل هذا التأويل يمكن ان يقود في النهاية الى تتبع فعل"التناص"Intertextuality وبالتالي تبيان المرجعيات الثقافية المختلفة التى اتكأ عليها المعمار في تحقيق منجزه الابداعي؛ ما يفضي الى تحميل النص المقروء معاني كثيرة ومتعددة وقطعا غير تلك المقتصرة على احادية المعنى الذي قد يكون المعمار نفسه تاق الى تكريسه في تكويناته المبتدعة. وفي حالة تصاميم"مخطط بغداد الكبرى"، فان المتلقي بمقدوره ان يرى فيها حضوراً وغياباً في آن، وان يرى فيها ايضاً، معنى ورسالة: المعنى الكامن في تلك التصاميم التى تستقي حضورها من خصوصية تايبلوجية"Typology"المبنى؛ والرسالة التى تود ان تبثها عبر طبيعة"فورماتها"ذات المرجعية البصرية المحددة؛ ما يجعل من قراءات الحدث المرئي الخاص بتصاميم رايت البغدادية تبدو وكأنها تنثال انثيالاً بصيغ متعددة في مخيلة المتلقي.
نفترض، بالطبع، ان المتلقي هنا، ذو دراية كافية باهمية الحدث المعماري المرصود، ويمتلك خلفية ثقافية وحتى مهنية تؤهله لاجتراح مثل تلك القراءات. ولئن جعلت المقاربة النقدية الحداثية ذلك المتلقي/ العارف بمنزلة"المصمم"الآخر؛ مصمما موازيا للفعل المعماري المتحقق، و"مبدعاً"له؛ فان حصيلة الرؤى تلك، هي التى تسهم في جعل التصاميم البغدادية جزءا من سياق الثقافة البصرية المألوفة وعنصرا منتمياً الى شواهد البيئة المبنية المحيطة، وهو امر يتم عبر تعدد القراءات التى يتيحها مرأى تلك التصاميم؛ بضمنها تلك القراءة التى يسميها"بيتر ايزنمان"بالإزاحة Displacement ؛ وهي عملية فصل نظري بين الدال والمدلول. واذ نتعاطي بصريا مع مشاريع رايت البغدادية وفق هذه الرؤى، فاننا أنما نكتشف قدرتنا على فصل معاني العمارة المدمجة بعضها في البعض الاخر، وادراكها عبر علاقة واحد لواحد، اي بين المعنى والانشاء، والمعنى والشكل، والمعنى والمحتوي، والمعنى والرمزية؛ ما يمكنّنا، في النتيجة، ان نرى التصاميم البغدادية وهي متحررة من خصائصها المعمارية العادية. وبالتالي تساعدنا في تقبل اشكالها غير المألوفة وتبرر غرابة تكويناتها.
وعلى العموم فان مشاريع"مخطط بغداد الكبرى"ستظل، في اعتقادنا،"تقرأ"باساليب مبتكرة ومتجددة، طالما كانت هناك مقاربات نقدية جديدة مهتمة في اضاءة الاثر الفني المرئي من جوانب مختلفة. وستظل تلك القراءات على اختلاف مرجعياتها تؤكد اهمية الحدث المعماري الهام الذي اُجترح يوما ما في نهاية الخمسينيات وافضى الى ظهور مشروع بغداد، كحدث ذي دلالة مميزة في مجمل الخطاب المعماري الحداثي العالمي. ذلك الحدث المسكون بتعاطف جم مع المكان ومع ثقافة المكان، والذي افضى الى"مسك"صور العمارة المتخيلة و"احالتها"الى منجز معماري اتسمت تكويناته على خيرة ما انطوت عليه مقاربة رايت المعمارية الممّيزة؛ من اهتمام عميق بخصوصية الموقع والمقدرة على استيلاد فورمات فريدة حافلة بالاحساس الجمالي العالي. والامر المؤسف في كل هذه"الدراما"المعمارية، هو ان المشروع الرايتوي لم يكتب له التنفيذ، بسبب الاحداث الدراماتكية التى طرأت على المشهد السياسي العراقي اثر ثورة 1958؛ وبالتالي خسرت العاصمة العراقية فرصة تاريخية نادرة لان تجعل من ارضها"موقعاً"لذلك المشروع الضخم، المتعدد الوظائف والاستثنائي في اهميته المعمارية لجهة شخصية مصممه.
واخيرا، فثمة قناعة راسخة تمتلكنا بان حدث تحقيق مشاريع بغداد الرايتوية كان من شأنه ان يكرس عميقا حضور عمارة الحداثة في المشهدين المحلي والاقليمي. وربما كان تنفيذ تلك المشاريع باعثا للكثير من المعماريين لاجتراح تصاديات تكوينية مع عمارتها الفريدة، وقد تكون ايضا لغة عمارتها الاستثنائية مصدرا هاما ومتاحاً لاستلهامات مبدعة لمعماريين محلين عديدين. وتكتسب تلك القناعة اليوم، أهمية فائقة لجهة إمكانية تحقيقها على أرض الواقع، في ضوء تبني وزارة الثقافة، مرة آخرى، لمشروع اوبرا بغداد، واعلانه كمسابقة معمارية. وقد آليت على نفسي، ان اناشد بكتاب خاص قدمته الى الوزارة، قبل فترة زمنية (اذ ان الوزارة اعلنت مرارا عن تلك المسابقة في اوقات مختلفة)، واشرت فيه الى امكانية وضرورة الرجوع الى مشروع رايت البغدادي، كمشروع يمتلك قيمة جمالية عالية ومصمم من قبل واحد من اساطين عمارة الحداثة العالميين، بعد إجراء تحديثات، بالطبع، على منظومات الخدمات الهندسية، لتكون متطابقة مع الاشتراطات الفنية المعاصرة من دون ان يؤثر ذلك على قيمة العمارة المنتجة. علماً ان الممارسة العالمية في هذا الشأن، تمتلك تجارب كثيرة، تم فيها الرجوع الى تصاميم سبق وان انجزت في فترات زمنية ماضية، وعد حضورها المميز والفريد،لاحقاً، بمثابة معالم مؤثرة ولافته في المشهد الحضري لتلك المدن، التى تمت فيها إعادة البناء. وكما تشابك"الحلم"وتمازج مع مشروع رايت البغدادي، فاننا نتطلع الى سماع رد المسؤولين في الوزارة على مقترحنا هذا، مذكرين بأننا نملك نسخ لغالبية مخططات التصميم الرايتوي، ويمكن الحصول على المزيد منها، بسهولة، من المصدر: من"مؤسسة رايت"في وسكانسين بامريكا. وبإتخاذ مثل هذا القرار الجرئ والاستثنائي في اهميته والمنتظر، ستكون عاصمتنا"موطناً"لواحد من أهم تصاميم عمارة القرن العشرين باسره!
والمعمار فرانك لويد رايت (1867-1959)، احد اشهر المعماريين عالمياً، تلميذ"لوي سوليفان": مؤسس"مدرسة شيكاغو المعمارية"التى بدلت وجه العمارة العالمية واسست للحداثة المعمارية. صمم رايت العديد من المباني، التى اعتبرت تصاميمها كإضافة كبرى وهامة في ىسجل عمارة الحداثة، مثل"مبنى لاركن"(1904) في بوفالو بالقرب من نيويورك، و"روبي هاوس"(1909) في شيكاغو، وطبعا"البيت الشلال"في <بير ران> ببنسيلفانيا، ورائعتة التصميمية"متحف غوغنهايم"(1943-59)، في نيويورك. وغير ذلك من المباني المميزة. اقترن اسمه بتأسيس تيار"العمارة العضوية"، احد اهم مقاربات القرن العشرين المعمارية.