القاهرة /محسن حسن
في الحياة السياسية المصرية لم تختف الفنانات من خلفية الصورة ، بل كن في بعض الأحيان كل الصورة ؛ بعضهن لعبن أدواراً في التخابر والتجسس والعمل لحساب أجهزة المخابرات المختلفة ، ومن بين راقصات مصر كانت هناك ثلاث كن الأشهر لارتباطهن بأعمال سياسية ذاعت ، هن : " حكمت فهمي ، سامية جمال ، وتحية كاريوكا "
ولعله من قبيل الصدفة أن الأسماء الثلاثة جمعهن كباريه واحد كانت صاحبته اللبنانية " بديعة مصابني " التي خرجت من مصر بعد أن هرّبت أموالها بعد قيام الثورة في 1952 ، وتبقى قصة حياة كاريوكا نموذجاً للجمع بين الفن والعمل السياسي والتمرد على القيود الاجتماعية ، بل والتمرد على الكثير من قواعد الأرستقراطيات المصرية ، وكتاب المؤلف " سليمان الحكيم " تحت عنوان " تحية كاريوكا بين الرقص والسياسة " الصادر في طبعته الأولى في مائة وثلاثين صفحة من القطع المتوسط عن دار الخيال بالقاهرة ، يتناول أوراق تحية كاريوكا السياسية وعلى وجه الخصوص فترات سجنها في زمن عبد الناصر وعلاقتها بحركة " حدتو " ذات الاتجاه الشيوعي.
الكباريه والسياسة
والكتاب في مفتتحه يؤكد على دور " الكباريه " في الحياة السياسية المصرية منذ العشرينيات وحتى فترة قريبة مضت قبل أن تتولى فنادق النجوم الخمس هذه المهمة ، حيث ملتقى رجال المال والأعمال الذين هم عصب السياسة ووقودها ، وكيف أن فناني المونولوج في كباريه " مصابني " أمثال سيد سليمان وإسماعيل يس ومحمود شكوكو وغيرهم كانوا يوجهون أغنياتهم الساخرة للدعاية لدول الحلفاء بقيادة بريطانيا دون النظر لكونها دولة تحتل مصر ، وهو ما أثار حفيظة راقصات مثل " حكمت فهمي " والتي كانت ترى في هذه الحرب فرصة لا تعوض للتخلص من الإنجليز الذين اعتدوا عليها بالضرب وهي طفلة بأحد شوارع المنيا بصعيد مصر ، ويقرر الكاتب أن " الكباريه " ومكاتب التعاقد مع الراقصات كانوا البداية لأخطر عملية تجسس خلال الحرب العالمية الثانية في مصر والتي عرفت باسم " عملية كوندور " والتي اتهم فيها الفريق عزيز صدقي وأنور السادات وحكمت فهمي وغيرهم .
راقصة الكاريوكا
ومن تفاصيل الكتاب نعرف سر تسمية " بدوية محمد أبو العلا النيداني " باسم " تحية كاريوكا " ؛ حيث كانت الراقصة " حكمت فهمي " تعمل على تخليص الرقص الشرقي من تأثير الراقصات الأجنبيات من أرمن وروم ، فطلبت من مصمم الرقصات الأسباني الشهير " ديكسون " أن يصمم للراقصة " بدوية " رقصة خاصة تحقق لها الاستقلال والتميز عن بقية الراقصات اللاتي تعج بهن فرقة بديعة مصابني، وبالفعل نجح الإسباني العجوز في استلهام رقصة " الكاريوكا " المستوحاة من التراث الشعبي البرازيلي والتي كانت قد عرضت بأحد الأفلام الأمريكية بدور السينما المصرية ، وما إن ظهرت " بدوية " بهذه الرقصة حتى اشتهرت باسم راقصة " الكاريوكا " ، والي كان يهتف رواد كازينو بديعة كل ليلة في طلبها ، وكانت أول راقصة مصرية تحمل اسم إحدى الرقصات في اسمها .أما اسم تحية فيذكر الكتاب أن بديعة مصابني منحته لبدوية لتعرف في الأوساط الصحفية والفنية باسم تحة كاريوكا .
عبد الوهاب وكاريوكا
وينقل الكتاب عن أوراق موسيقار الأجيال المصرية " محمد عبد الوهاب " قوله عن تحية " كان ظهور تحية كاريوكا ونجاحها ظاهرة وطنية .. فقد كان المصريون يعانون من الاستعمار .. استعمار في الجيش واستعمار في الحكومة ، واستعمار في التجارة والاقتصاد .. فلما ظهرت تحية حررت الرقص من استعمار الأجنبيات .. فرح المصريون كما فرحوا بإنشاء بنك مصر كظاهرة من ظواهر الاستقلال الاقتصادي .. كانت تحية كاريوكا تقف وترقص في متر مربع واحد .. وكانت تستطيع أن تجعل المشاهد أكثر تركيزاً على براعتها .. مثل اللوحة الثمينة المعلقة فوق حائط ، تشاهدها وهي ثابتة .. وتتأملها فتكتشف فيها في كل لحظة جمالاً جديداً " .
صفعة على وجه الأمير
وعن الكاتب " صالح مرسي " يروي الكتاب حادثة أحدثت دوياً هائلاً في آفاق المجتمع الأرستقراطي المصري ، وذلك عندما قام الأمير " عباس حليم " ـ الذي كون أول حزب للعمال في مصر ـ بدعوة كاريوكا للجلوس معه في اللوج الخاص به بعد انتهاء برنامجها الفني في كباريه مصابني ، وفي طريقها للجلوس فوجئت بشاب يمسك يدها قائلاً " تعالى يا بنت " فما كان منها إلا أن جذبت يدها والتفتت إليه وهي تقول بعنف " البنت دي تبقى أمك .. مش هنا " فحاول الشاب رفع يده لصفعها فعالجته تحية بصفعة على وجهه سمعها كل الحاضرين ، فبدا الشاب وكأنه أصيب بالشلل ولم يجد أمامه غير السباب والشتائم ، وبعد أن تدخل الأمير عباس حليم في الموقف عرفت تحية أن الشاب هو الأمير " عكا حسن " ابن الأمية " عين الحياة " ، ولكنها تماسكت في مواجهة الموقف ، وتجاوزته بعد أن شهد الجميع . ويروي الكتاب أيضاً حادثة قيام تحية كاريوكا بتجاهل طلب ملكي للملكة نازلي بالرقص أمامها .
المسجونة عباس
ويروي مؤلف الكتاب قصة زواج تحية كاريوما من الضابط بسلاح الفرسان المصري " مصطفى كمال صدقي " وكيف أن هذا الزواج كان سبباً في دخولها السجن بتهمة حيازتها هي وزوجها منشورات وأيضاً بتهمة التخطيط لقلب نظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر وثورة يوليو 1952 ، وبعد تفاصيل كثيرة حول العلاقات السياسية المتأزمة في تلك الفترة ، يذكر الكتاب أحوال كاريوكا في السجن ، وكيف أنها اتخذت لنفسها اسماً جديداً حركياً هو " عباس " حيث كانت خادمتها وأصدقاؤها يقفون في الشارع أمام نافذة زنزانتها وينادون باسم " عباس " لتطل " تحية " من النافذة وتحدثهم في شئونها ، وكيف أنها كانت " معلمة " السجن من خلال قيادة مظاهرات ضد التعذيب والأشغال الشاقة ، كما أنها قادت مشروعاً لمحو أمية بعض السجينات كنوع من قضاء وقت الفراغ القاتل داخل السجن .
متفرقات
وفي الكتاب نجد تفاصيل كثيرة ومزدحمة حول حياة الراقصة " تحية كاريوكا " الاجتماعية والفنية والسياسية والإنسانية ؛ منها قيام كاريوما بالإضراب عن الطعام اعتراضاً على القانون 103 الخاص بتعديلات قانون النقابات الفنية ، ومشاركتها نجوم فرقة " الأنسا " الأمريكية مثل آن شريدان وريتا هيوارث ومارلين براندو وفيفيان لي وغيرهن الرقص للترفيه عن الجنود في الحرب العالمية الثانية ، وعلاقتها بالقضية الفلسطينية والتطبيع مع إسرائيل ، بالإضافة لبعض معاركها الصحفية والمسرحية ، ودورها في دعم الرئيس السادات عندما قام بطرد الخبراء السوفييت من مصر .. إلى غير ذلك من محاور وصورحفل بها هذا الكتاب الذي ضم عشرة فصول حافلة بالأسرار الخاصة والعامة .